فلسطين المكان الذي غدر به الزمان

فلسطين المكان الذي غدر به الزمان

فلسطين المكان الذي غدر به الزمان

محمد لطفي اليوسفي

 الهبوط إلى العالم السّفلي

سأحدّث عن المكان.ا

لأنني كنت هناك في أريحا ورام الله وبيت لحم ومخيّم الأمعري والبيرة وبيتون ومشارف القدس؛ لأنني ذهبت للمشاركة في مهرجان فلسطين الشعري الأول لكن الشعب الفلسطيني العظيم أبى إلا أن يجعلنا نعيش فلسطين متوهّجة غضبا ودما ونارا، فشهدنا انتفاضة الأقصى تسطّر أمجادها؛ ولأنه من الصعب على من يدخل فلسطين أن يشفى منها تماما فحالما يطأ ترابها يتسلّل شيء ما قدسيّ، شيء سحري،ّ هشّ، مشتهى، شيء يخترق الجسد ويستبدّ بالروح، سأحدّث عن المكان.ا

 لأنني رأيت كيف يتخفّف المكان من مادّيته وصلابته ويستعير من الحلم شفافيته وفتنته؛ لأنني رأيت الحلم يشهد من التكثيف ما يحوّله إلى مكان صلب قاسٍ مَهيبٍ يربك الجسد ويدوّخ الحواس سأحدّث عن المكان. عن الهبوط الجحيمي إلى أرض أريحا الصابرة تحت شمسٍ قرّرت أن تحرق كبد العالم؛ عن جبالها الرواسي وخطوات المسيح على جبل التجربة؛ عن رام الله الناظرة صوب القدس المحاصرة بشذّاذ الآفاق؛ عن وادي النار؛ عن بيت لحم؛ عن كنيسة المهد؛ عن فلسطين المكان الذي غدر به الزمان.ا

سأحدّث عن أبٍ مثقلٍ بالهمّ مكدود نتقدّم إليه بالعزاء فيغالب الوجع مزدهيا بأنه قدّمَ ابنَهُ الطفل محمد نبيل علي حامد البالغ من العمر ثلاث عشرة سنة فداء لفلسطين وكرامة الأمة العربيّة. عن المكان عدوانياً ووحشياً؛ عن المكان واقعا أرضيا مضرّجا بدم الأبرياء؛ عن الفعل رسوليا؛ عن الوجع ربّانيا؛ عن قطّة هدّها الإعياء رأيتها تهبط مدرجا يتفرّع عن شارع النجمة طريق المطارنة المتلفّت صوب كنيسة المهد. سأحدث عن الدمع مكتوما وسرّيا؛ عن الأرض أُمًّـا تتغذّى بلحم بنيها؛ عن عرب الجهالين يحيطون بالقدس خياما وقطعان ماعزٍ تبحث بين الصخر عن أعشاب وهميّة لا ترى وتعلك الضجر؛ عن طفلة تلبس مريلة صفراء وقفت في الساعة التاسعة صباحا قدّام بيت متداع في مدخل البيرة تراقب أطفالا في سنِّها لم يتجاوزوا السابعة يجمّعون حجارة وإطارات سيارات استعدادا لمواجهات بعد الظهر.ا

 عن الزغاريد مأهولة بالنوح مكتوما سأحدّث؛ عن معركة سرّية تجري في المكان بين الألوان، الأصفر والأزرق والأبيض وما بينها من صراع رمزيّ إشاريّ مدوّخ؛ عن المغارة التي سجد فيها المجوس قدّام المسيح وطرحوا كنوزهم ذهباً ولباناً ومرّاً؛ عن المساجد تبكي مسجد عبد الله بن عمرو بن العاص في الرملة وقد صار مرقصا ليليا، عن الكنعانيين يسرق حلمهم وتراثهم ومدائنهم وطريقة مقامهم على الأرض؛ عن جبل أبو غنيم؛ عن قمم الجبال والهضاب مزروعة بالمستوطنات؛ عن المكان حين يصبح جندا ويصير عسكرا وخسرانا لبني البشر أجمعين، عن الصبر فلسطينيّا، عن الرّعب صهيونيّا، عن اتفاقات أوسلو يذروها مكر ابنة صهيون الضالّة هباء ومرارات، زبدا وطواحين ريح.ا

*  *  *

توجّهنا إلى فلسطين بعد يوم واحد من استشهاد محمد الدرّة في حضن والده يوم الأحد 1 تشرين الأوّل 2000، قتل الطفل على مرأى من الدنيا قاطبة. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا الشمس أفلت. وحده الدم ظلّ صارخا في العراء. قتل الطفل البارحة وها نحن نتوجّه صوب فلسطين، صوب جسر الملك حسين. صباح اليوم الاثنين 2 تشرين الأول أي بعد مضي52 سنة لا غير على وقوع فلسطين في قبضة اليهود شذّاذ الآفاق، وبعد مضيّ 10 سنوات فحسب على محرقة العامريّة واللّحم العربيّ مشويّا حتى التفحّم، وبعد مضيّ سبعة قرون لا أكثر على رحيل القائد الأعظم صلاح الدين الأيوبي. صار عمر الولايات المتّحدة الأمريكيّة قرنين من الزمان لا غير.ا

*  *  *

هبوط مدوّخ باتّجاه الغور حيث نهر الأردن. مكدودة تنزل الحافلة على الطريق الملتوية باتجاه المكان الأشدّ انخفاضا في العالم حوالي 350 مترا تحت سطح البحر. الضغط يصمّ الآذان. هناك بعيدا في الأفق تبدأ جبال أريحا بالظهور جرداء لا نبتَ ولا شجرَ، شهباء مشوبة بصفرة باهتة حتى لكأنها غيوم هائلة تجمّدت على الأرض. هكذا يبدو المشهد للوهلة الأولى. مشهد قياميّ لا يمكن أن يجري إلا في حلم. لكأن المكان نفسه يفقد صلابته كلّما اقتربنا منه ويتخفّف من مادّيته فتفقد الموجودات ألفتها لتتّشح بغلالة من القسوة والفظاظة.ا

في غور الأردن لا شيء يدلّ على وجود حياة سوى بعض مزارع الموز التي تبدو مثل بُقَعٍ خضراء محاصرة بالقحط والسُّخط في آن معا. مزارع الموز تبدو مصابة بالذعر. شجيرات متلاصقة متراصّة بعضها متداخل بالبعض الآخر كأنه يبحث عن حضن أو عن بعض من دفءٍ. بالقرب من تلك المزارع حدثت في ذات يوم تلك المعركة التي سيسمّيها العرب تبرّكا معركة الكرامة. دمٌ فلسطيني ودمٌ أردنيّ توحّدا ضدّ جيش الأعداء. إشراقةُ نورٍ باهتٍ في عتمة الليل العربي، التماعةُ نورٍ خافت لم تتمكّن رغم كلّ ما قيل حولها من محو ما حدث في شهر أيلول، أيلول الأسود سيّد الشهور وأقساها في زمان العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة.ا

على الطرف الآخر من الجسر الفاصل بين الأردن وأرض فلسطين التي صارت تسمّى حتى لدى العرب أنفسهم إسرائيل بعضٌ من حياةٍ توحي به أشجار أريحا الصابرة ومزارعها التي تبدو مثل بقع خضراء رُمِيتْ في المكان صدفة واتّفاقا. كنا نتقدّم باتجاه فلسطين، الحلم العربي الذي ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيها الكرامة العربيّة مجرّد ذكرى، وتصبح الشعوب العربيّة مثل الهَوَام لا أملِ ولا فرحِ ولا نسمةً من حياة.ا

فلسطين لم تعد موجودة على خارطة العالم. لقد تمّ محو الاسم. حدث فعل استبداله. ونحن لا نتقدّم باتجاه بلدٍ بل نمضي إلى حلمٍ شرسٍ مروّع أو باتجاه وهْـمٍ. المكان لا يملك تحت الشمس غير اسمه. واسم فلسطين قد تمّ محوه من خارطة العالم، تم محوه من المعاجم ودروس الجغرافيا حتى لدى بعض المؤسسات الحكوميّة العربيّة المجيدة. لكن الاسم احتمى بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل. وطوبى للحزانى.ا

*  *  *

مشهد خلفيّ يشبه المهزلة: عندما ذهبت إلى السفارة الأردنية طلبا لتأشيرة العبور إلى الأشبار المحرّرة من أرض فلسطين كانت نبيلة معي. على شبّاك مكتب الاستقبال وضعت ورقة تحمل البشارة للمواطنين العرب بأن سعر التأشيرة قد تضاعف مرّاتٍ. أشارت نبيلة إلى الخارطة وهمست: إنك تذهب إلى بلد غير موجود على الخارطة، إذا ضعت كيف أبحث عنك في مكان لا يوجد على خارطة الدنيا؟ لم أفهم ما قَصدتْ، فأشارت إلى الجهة اليسرى. على الجدار عُلِّقتْ خارطة ترسم حدود بلدان المنطقة: العراق الأردن سوريا لبنان إسرائيل مصر. قلت لها مداعبا: هذا خطأ مطبعي. فغضبتْ. قلت: اسمعي نحن أمّة ذات رسالة عظيمة حتما سنستردّ أمجادنا في نهايات الزمان، وسنسود العالم من جديد. إن غدا لناظره… هكذا جاءتني الإجابة. قاطعتها قائلا: عندما يحين الحين و يأتي زماننا سنسمّي أمريكا أرض الرجال الحمر أسياد الدنيا، ونعينهم على طرد الرجل الأبيض زارع الخراب. وسنسمّي المكسيك بلاد المايا والأزتيك. سنثأر لأنفسنا من روما التي روعّت أطفال قرطاج، وسنستورد من السماء حكّاما عربا عادلين  يملأون بالحلوى والأقلام الملوّنة جيوب الأطفال ولا يأكلون اللحم العربي نيِّئاً… في المساء  رفضت أن  تعود معي لاستلام جواز السفر وادّعت أنني أخطو باتجاه خيانةٍ ما. دخلت السفارة وحيدا بعد أن آليت على نفسي أن لا أنظر إلى الخارطة. ونجحت في تحقيق هذه البطولة التي ستنضاف إلى أمجاد العرب العاربة والعرب المستسلمة.  خيّل لي أن موظّف السفارة يبتسم لي فابتسمت له.ا

*  *  *

الحافلة تواصل التقدّم ودرجة الحرارة تزداد ارتفاعا. كنت على يقين من أننا لا نمضي إلى مكان بل نتقدّم باتّجاه حلمٍ له كلّ مواصفات الكابوس. هي ذي… هي ذي فلسطين. الأرض المقدّسة التي برعت في أكل لحم أبنائها المتسابقين إلى الموت. مكان غدر به الزمان. مكان يلتقي فيه يوشع بن نون مع العمالقة من الكنعانيين وربّه إله الجنود يستحثّه في نبرة ساديّة مروّعة على إراقة الدم وقتل النسل وإحراق الزرع. لحظة ويحطّ البراق على حائط المسجد الأقصى وتنفتح السموات. فيكون إسراءٌ. ويكون معراجٌ والنجوم تترجّل في ساحة الأقصى. لحظة أخرى ويأتي يهودٌ من شذّاذ الآفاق يهزّون الرؤوس مثل قردةٍ مخبولةٍ بقرب الحائط الذي سيدّعون أنه أُعِدَّ لبكائهم ولتجميع دموع التماسيح في الأرض قاطبة.ا

ريتشارد قلب الأسد يعبر البحار مدجّجا بالضّغينة. صليبيون جاؤوا وأبادوا الناس في عكّا.  توني بلار والعجوز الشمطاء أولبرايت التي اكتشفت ذات صباح أنها من نسل يهوذا تأتي هي الأخرى. صلاح الدين الأيوبي العابر من جبال الأكراد على فرسٍ صارع الريح والنوء يأتي منقذا ومخلّصا. دمُ محمد الدرّة وصمة في ضمير العرب شعوبا وقبائل, حكّاما وسلاطين, هُزْءا ورُزْءا وأشياء أخرى. الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يخرج للتوّ من مقصورة في الأقصى ويمضي باتجاه دمشق. عبد الغني النابلسي هنا أقام، هنا درّس قبل مجيء اليهود بقليل. المغاربة ببرانيسهم الصوفيّة جاؤوا من شمال أفريقيا وخلعوا اسمهم على باب من بوابات الأقصى.ا

يوحنّا المعمدان يكرز في البرّية قائلا تُوبُوا لأنه اقترب ملكوت السماء، أليعازر ينهض من القبر، يوسف النجّار يسوق حمارا مكدودا ينشد الوصول إلى أرض مصر كي يتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل من مصر دعَوْتُ ابني. عمر بن الخطّاب يترجّل عن فرسه الآن وكبير مطارنة كنيسة القيامة يدعوه للصلاة في كنيسته فيبادله كرما بكرمٍ. صوت في الرامة نوح وعويل رَاحِيلُ تبكي أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين. هي ذي فلسطين إذن. هو ذا المكان. مكان غدر به الزمان. وللفلسطيني أن يدفع الثمن دماً ودموعاٍ. ولنا نحن المقيمين خارج فلسطين أن نسمّي ذلك بطولة كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير. وطوبى للحزانى!!!ا

  عبــور الصّــراط : جسر الملك حسين

جسر على نهر الأبديّة. جسر تسيل تحته مياهٌ ضحلةٌ ضاربةٌ إلى الصفرة. هو ذا نهر الأردن. جسر خشبيّ كأنه خربشة بقلم رصاصٍ على ورقةٍ منزوعةٍ من كتاب قديم نهشته الأرَضَةُ دهْراً. جسر متواضع في منتهى التواضع. طوله عشرة أمتار أو أقلّ. وعرضه بالكاد يتجاوز المترين. في وسطه، في وسطه بالضّبط، رُسِمَ بالطلاء الأبيض خطّ هو الحدّ الفاصل بين الأردن وفلسطين القابعة في الأسر. والخطّ الأبيض يضعك منذ الوهلة الأولى في حضرة عدالة ابنة صهيون الضالّة التي أعطت للأردن نصيبَه من هذا الجسر وأخذت نصيبها. نحن في حضرة قسمَةٍ عادلة تشبه جميع المهازل في هذا الليل العربي المُثقَل بالمكائد وخسران العرب أجمعين. من جديد تأتي التسميّة لتشرع في حبك مكائدها. جسر الملك حسين يقول الأردنيون والعرب. جسر اللنبي تقول ابنة صهيون والعالم من ورائها. قد يصبح بعد التسويّة الشاملة إن تمّت “جسر الملك حسين واللنبي.” ووقتها سيضطلع حرف الواو بأشدّ أدواره وساخة في تاريخ اللغة العربيّة. سيضعنا في حضرة مصالحة مخزية كأيّامنا.ا

على يسار هذا الجسر الخشبي الهرم الذي رأى الويلات كلّها، وشهد وصول الانجليز والأمريكان، ورأى وصول اليهود شذّاذ الآفاق، ورأى خيانات الحاكم العربي وهجْرات الفلسطنيين في اتجاه بقاع ستسمّى مخيّم اليرموك، مخيّم فلسطين، مخيم صبرا، مخيّم شاتيلا، مخيّم الوحدات مخيم عين الحلوة، ثم تصير المخيّمات مُدُناً من إسمنت رماديّ ضارب إلى السواد؛ تصير المخيّمات أحلاما بعودة تزداد استحالة كلما انضاف إلى الزمن العربي ليل آخر -على يسار هذا الجسر المقفل بالوجع ربّانيا-  ثمّة أشغالٌ حثيثة.ا

جرّافات، شاحنات، أعمدة حديديّة ضخمة. تلك تباشيرُ هبات السّلام. تلك ثمار الاستسلام. مرّة أخرى تأتي التسميّة مُحمَّلّة بالمكائد. لكن الجذر اللغوي نفسه يفضح ما بين الكلمتين من إنابة ومداورة ومخاتلة. وطوبى لصانعي السلام. مطلوب منا أن نهلّل ونفرح نحن العرب الواقفين على شفا الهاوية. علينا أن نفرح ونهلّل فسيقع استبدال الجسر الصغير، الجسر الخشبي الذي هدّته السنون والويلات تتوالى تباعا، بجسر عظيم كبير ضخمٍ فخمٍ يسرّ الناظرين ويملأ بالبهجة قلوب العابرين إلى أرض كانت تسمّى فلسطين. سيقام جسر يليق بالعلاقة الحميمة التي ستنشأ بين العرب ودولة إسرائيل.ا

 ولنا أن نتخيّل المشهد في المستقبل. ستتوالى الخيرات من هناك من تلك الأرض التي كانت تسمّى فلسطين عسلا ولبانا ومرّا. سيعمّ الخير والرفاه بلاد العرب من البحرين حتى أقاصي بلاد شنقيط موريتانيا العظمى، وستنال الصحراء الغربيّة نصيبها من الغنيمة أيضا. وعلى العرب أن يفرحوا. عليهم أن يهلّلوا للصدقات إسرائيليّة هذه المرّة. ولهم أن يبتهجوا بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات. وكافرٌ كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.ا

غريبٌ أمر هذا الشعب الفلسطيني لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة. مدهشٌ أمر هذا الشعب الفلسطينيّ الذي شهد أسلافه خطوات المسيح على جبل التجربة، ورأوا يوحنا المعمدان وعلى حقويه منطقة من جلد وهو لا يتغذّى إلاّ بقليل من الجراد والعسل البرّي. غريبٌ ومدهشٌ أيضا أمر هذا الشعب الذي سمع أسلافه ذات ليلة حفيف أجنحة البُراق وهو يحطّ خفيفا على سور الأقصى والدنيا تضيءُ. تلك حيل المتخيّل الجماعي وذاك طابعه المقاوم. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بذاكرته المنقوشة في المكان. أزمنة متراصّة مكثّفة. هي ذي فلسطين إذن: زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات، أقاصيص وملاحم، سماء تنفتح في وجه الأرض، أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير. ثم يلتقيان. الأرض والسماء يغدوان واحدا.ا

* * *

مكـــانان

بنـــايتان

مدخلان

 والطريق إلى أحشاء الوحش على مرمى حجرٍ. ومثلها الطريق إلى الحلم العظيم، الحلم الضاري الذي نسمّيه فلسطين.ا

* * *

  البناية الأولى متواضعةٌ كأنها وضعت للتوّ على عجل. على مدخلها كتبت لافتة: القادمون إلى السلطة الفلسطينيّة. البناية الثانيّة فخمة عالية عليها لافتة بالعبريّة أعدّت لاستقبال الدنيا والمُطبّعين العرب نسلُ يَهُوذا. منذ الوهلة الأولى تبدأ المعركة إشاريّة ورمزية. البنايات تحدّث، والمداخل تحدّث، والمكان يحدّث بأن العدالة قد فُقِدت من الأرض تماما، والسلام هو التجسيد الفعلي للاستسلام. وهو صنوه وسميّه ووجهه المروّع الفاجع. نتخطّى العتبة فيصبح الطابع الإشاري أكثر عنفا. شبابيك ونوافذ. ناسٌ من الفلسطينيين ينتظرون إذنا بالدخول. نساء يرتدين السواد خَفَراً وحشمة أو حدادا. أطفال في الزاوية واجمُون لا يلعبون. ثمة دكّان صغير شبه مقهى أو شبه مشرب.ا

الدينار الأردني يختفي وصورة الملك حسين تغيم تماما. ويطلّ الشيكل برأسه الإبليسي. عمْلَةُ عبدة الذهب نسل ميليكداس. ثمّة شيء يطبق على الروح كالدوّار. شبابيك ونوافذ. وراء كلّ شبّاك يجلس أحد رجال الشرطة من الفلسطينيين العائدين مع اتفاقيات أوسلو. يجلس الشرطيّ الفلسطيني الذي كان فدائيا محاربا داخل زِيِّه الكُحلي مُتْعبا مكدودا. وبجانبه مُجَنَّدَةٌ صهيونيّة شابّة تجلس مرتاحة في جسدها. مطلوبٌ أن تسلّم جواز سفرك وتصريح الدخول إلى الشرطي الفلسطيني. وهو بدوره يتولّى الحكي مع ابنة صهيون المجنّدة. لكأن الشرطي الفلسطيني يحرص على تجنيبك ويْلَ التعامل مع نسل الحيّات. درعٌ واقيةٌ هُوَ، أو غلالةٌ مضللّة. ثمّة في العيون غيض مكتوم. في عينيها حقد شيطاني؛ وفي عينيه وعيدٌ ربّاني. هنا يجلس الفلسطيني الضحيّة ومعه تجلس جنديّة من الجلادين. الدّمُ وسافكُهُ. المقتول والقاتل.ا

بنتٌ تمثّل السيادة الاسرائيليّة المستندة إلى الحديد والنار والجريمة وأمريكا وساديّة الحاكم العربي. شرطيٌّ فلسطينيٌّ لم يصدّق بعد أنّ آلاف الضحايا وقوافل الشهداء في المدن العربيّة وعلى الحدود مع ما كان يسمّى الكيان الصهيوني قد رحلوا سدى. لم يصدّق بعد أن الحلم العظيم صار كابوسا فظيعا. الشرطيّ الذي كان فدائيّا مخفورا بالأغاني الثوريّة، الشرطيّ الذي كان مقاتلا تَهابُهُ الدنيا يجلس الآن مذهولا ويرحّب بالإخوة العرب. “أنت من تونس الخضراء يا هَلاَ!” ‌‍قلت: “إنها تصفرّ الآن حتى لكأنها مصابة بالتهاب الكبد”.ا

*  *  *

الشرطيّ الذي كان بالأمس القريب فدائيّا يخطو باتجاه الحلم أُلُوهيا وربّانيا لم يفقد الأمل تماما. ففي عينيه المكدودتين يتراءى الأمل معجونا بالتّعب وحاجة الأطفال إلى القوت. لقد كان في تونس، جاءها في سفينة حرص رُبَّانُها على أن يضيف للأوديسيا فصلا فاجعا لا يمكن لهوميروس نفسه أن يتخيّل عنفه. حتما لم يكن الربّان وهو يرسي السفينة على شاطئ مدينة بنزرت التونسيّة يدري بأنه كان يدوّن في سجّلات خسران العرب ونكد أيّامهم يوما آخر له مذاق النوح وطعم النحيب. الشرطي الفلسطيني الذي تسلّم جوازي، صديقي هذا الدِّرع الواقية، هذا الغلالة المضلّلة، كان قبل ذلك في عَمّان ورأى قمر جرش في شهر أيلول يهوي من السماء ملطّخا بالدم أحمر زهريّا. القمر ذاته رآه في بعلبك وبيروت وتلّ الزعتر محاطا بالدم مظلما لا ينير.ا

 هذا الفدائيّ الذي ارتدى زيّ الشرطة، يعلم أن الطريق التي اختارها محمد الدرّة هي الطريق المؤدّية. ثمّة فسحة من أملٍ إذن. ففي اللحظة التي “استتبّ فيها الأمن”، في اللحظة التي صارت فيها الكرامة العربية مجرّد ذكرى بعيدة، في اللحظة التي أيقن فيها الحاكم العربي بأمر أمريكا أن الجماهير العربيّة غدت مثل الهوام لا أملَ ولا فرحَ ولا غاية، عاود الغضب الفلسطيني الظهور ليشير إلى الطريق المؤدّية.ا

 أرض أريحا الصــابرة 

اهذا جوازك تفضّل ومرحبا بك في فلسطين.” تحاول أن تردّ على تحيّة الشرطي الذي كان فدائيّا وصار الآن صديقا دِرْعاً واقية أو غلالة مضلّلة. لكنّ الصوت يخون. وجع اتّخذ من الجسد معبرا وتسلّل إلى عروق القلب. تكتفي بردّ التحيّة بحركة باتجاه القلب. يبتسمُ. تبتسمُ. هل هذا عبور الصِّراط. رجفةٌ… رعشةٌ… بردٌ يتسلّل إلى المفاصل… إحساسٌ بلا معنى الوجود أصلا… شعورٌ بالضآلة… شعورٌ بالعجز… دمْعٌ حبيسٌ يُثْقِل الصدر.ا

في الجانب الأيسر من البناية المتهالكة ثمّة قبالة المدخل باب ضيّق، باب ضيّق كأفراحنا ينفتح فجأة ونعبر. غسّان زقطان، المتوكّل طه، أذرع دافئة تحضنك. تنسيك لِلَحظةٍ أنك كنت تعبر الصراط. تكاد تنسى أنك صرت الآن في أحشاء الوحش تماما. “يجب أن نسرع، اصعدوا إلى الحافلة، اطلعوا في هذه السيّارة. يجب أن نسرع قبل أن تبدأ المواجهات. سنفتتح المهرجان بعد قليل افتتاحا رمزيا. يا هَلاَ! يا هَلاَ! مرحبا بكم في فلسطين شرّفتم فلسطين، سنهتم بالحقائب…”ا

هو ذا المكان: أرض أريحا. لم تعد الجبال مجرّد أشكال تتراءى في الأفق. إنها هنا جاثمة راسية كلسيّة رمليّة. ملحٌ وطينٌ. صُفْرَةٌ باهتة ضاربة إلى الرماد قليلا. الحرارة لا تطاق. والشمس مُزْمِعَةٌ فعلا على أن تحرق كبد العالم. جنديّ إسرائيلي مدجّج بالسلاح أشقر على وجهه بثور ورديّة وعلى رأسه قبّعة خضراء يغلق الباب الحديديّ. يصرخ السائق الفلسطيني في وجهه بالعبريّة لغة شذّاذ الآفاق المسروقة من الكتب واللغات والمتاحف. الجندي يغضب. ينادي جنديا آخر بشرته البنّية تدلّ على أنه قادم من أثيوبيا. يأتي شاهرا رشّاشه. عصبيّا متوتّرا ظلّ يراقبنا تكاد شهوة الدم تستبدّ بروحه. يجري الجندي ذو الوجه الموشّى بالبثور ورديّة قانية اتصالا هاتفيا من جهاز معلّق على حائط مخفر المراقبة. ثم يفتح لنا الباب الحديدي الأصفر. نعبر. يشرع السائق الفلسطيني في شتم العالم ودولة بني إسرائيل. سباب وشتائم وغضب: “الجبناء، نحن نعرفهم وما نخافهم، أوغاد، حِلّوا عنّا. هلاَ ! هلاَ! بالاخوة العرب في أريحا. انظروا هنا وقعت مواجهات الأمس استشهد شابان… الملازم أيضا قتلوه أمام بيته، الملازم المكلّف بالتنسيق الأمني.. لو تأخّرت تصاريحكم إلى اليوم لما عاد بإمكانكم الدخول.. مرحبا نوّرتوا فلسطين هلاَ!!”ا

*  *  *

هي ذي أريحا. هي ذي أرض كنعان التي تفيض لبنا وعسلا. هي ذي أرضك أريحا وقد دارت الحياة دورتها. هي ذي أرض أريحا الصابرة. حين وصل إليها يوشع بن نون ليتجسّسها ويخرّبها ارتعدت فرائصه هلعا فحدّث عنها مرتعبا: “إنها تفيض لبنا وعسلا، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتزّ والمدن حصينة عظيمة جدّا، رأينا فيها أناسا طوال القامة فكنّا في أعيننا كالجراد وهكذا كنّا في أعينهم.” وللفلسطيني أن يفخر بأسلافه الذين ملأوا بالهلع قلب يوشع بن نون القادم من التّيه العائد إليه. للفلسطيني أن يفخر بأطفاله، فأن يختار طفلٌ موته، أن يمضي شابٌ لملاقاة دبّابات وعسكر ولا سلاح معه غير جسده وإصراره، فمعنى ذلك أن المقدّس فيه قد تجلّى.ا

*  *  *

المكان: أرض أريحا. والمشهد عبثيّ تماما. مشهد يليق بشريط سينمائي غرائبي لا يقدر حتى غودار المناصر لقضيّة فلسطين أن يتخيّله. أرض رمليّة كلسيّة صفراء. أرض أشدّ قسوة من صحراء. وفي الوسط بناية ضخمة عالية شاهقة تمتدّ بين السماء والأرض مثل لعنة ارتعدت لها فرائص الأرض. إنه كازينو أريحا. بعض منجزات السلطة الفلسطينية العائدة. الفلسطينيون لا يذهبون إلى هذا الكازينو. وتأتيه الجنسيات الأخرى لتتسلّى. قيل إنه يدرّ من الأموال ما يعين السلطة على تحمّل أعباء السنوات العجاف بعد أن تراجع الدعم العربي وشحّ المال والماء والأمل.ا

بيت الشعر بأريحا: افتتاح سريع. تمجيد للشهداء. تمجيد للشعر وسلطان الكلمة. احتفاء بنا نحن الاخوة العرب الذين عبرنا إلى فلسطين والدم يراق شلاّلا وأرواح تزهق والعالم يتقن الفرجة. في اللحظة التي كنّا نفتتح فيها المهرجان افتتاحا رمزيا استشهد ثلاثة من شباب فلسطين على مرمى حجر من القاعة. اختزلت الكلمات. وكانت القاعة مليئة بالناس. كنت على يقين من أنهم لم يأتوا لسماع الشعر والأدب والنقد، بل جاؤوا لأنهم اعتبروا دخولنا إلى فلسطين في هذه الظروف ذا طابع رمزي إشاريّ. كانوا يعتبروننا جزءا من الوجدان العربي. ولا يمكن للمرء في مثل هذه الحال إلا أن يشعر بأنه ضئيل عاجز عن تقديم أيّة مساعدة عمليّة.ا 

 ثمّة كآبة ما تخترق الجسد وتطبق على الروح. رغبة في البكاء، رغبة في النشيج تستبدّ بك حين ترى كم هو قاس قدر الفلسطينيّ في هذا الليل العربي الذي مافتئ يزداد كثافة ودياجير. وكم هي مهـيـبة رسالته. ولا تقدر أن تفعل شيئا عمليّا.ا

*  *  *

نحن في السيّارات من جديد وهي تمرق سريعة في الشوارع الخاليّة إلا من بعض عابري السبيل. على الجدران شعارات تدعو إلى المقاومة وتمجّد الشهادة والاستشهاد. هي ذي أريحا الصابرة. رائحة بارود وصوت سيّارات إسعاف. فجأة فندق فخم يقف قبالة سلسلة الجبال الراسيّة مثل كائن خرافي ينتظر فرصة الانقضاض على الدنيا لسحقها مزقا وغبارا.ا

قرية أريحا السياحيّة:ا

فندق ومنتجع صحّي.ا

شارع بيسان قرب قصر هشام.أريحا فلسطين.ا

Jericho Resort

Village

Hotel&Spa

Near Hisham Palace, Bisan St, Jericho-Palestine

فلسطيني صاحب الفندق. العمال فلسطينيون. الترحاب فلسطينيّ مشوب ببعض من كرم الأنبياء. والمواجهات تجري هناك بعيدا عن الفندق. نحن في أحشاء الوحش إذن. والطريق إلى رام الله يعبر من تلك الجبال الراسيّة. أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر. المكان رحم الدنيا. لعلّ الحياة بدأت هنا. حتما بدأت من هنا. كائنات بحريّة خطت باتجاه اليابسة حين شرعت المياه في الانحسار. وبدأ العنف تاريخه الدمويّ. كائنات بحريّة كانت تحيا في هذا المكان. هنا عاشت. هنا تناسلت. هنا نفقت… المكان خرافة مدوّخة. أن تنام في فندق يقع على عمق 350 مترا تحت سطح البحر والبحر قحط وخلاء: هي ذي أريحا المكان الشبيه بخرافة قادمة من ليل الدهور.ا

هي ذي أريحا بوّابة فلسطين. الاسم لم يُمْحَ من الأرض إذن. كما لن يُمْحَ من ذاكرة أطفالنا. لقد تمّ محوه في الخرائط والعديد من المؤسّسات العربيّة. على يقين أنا من أن الذاكرة هبة من السماء. ليست الذاكرة مجرّد ملكة تحفظ الوقائع والوجوه. إنها إدراك مقاوم لسطوة الموت وسلطانه. والنسيان صنو الموت وسميّه وقناعه. علينا أن لا ننسى أبدا. ولكم هو عظيم أن يمتلك المرء ذاكرة. وهذا هو الصراع في بعده الإشاريّ العظيم. يافطة الفندق. كارت الفندق نفسها فعل مقاومة. وللتسميّة مفعولات التميمة والبلسم. أريحا، فلسطين، قصر هشام. كان الخليفة هشام يأتي إلى أريحا شتاء وكان للعرب وقتها كرامة.ا

 يتامى نحن في هذا الزمان. وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. للمكان ذاكرة تحميه. وصانعو السلام يطالبوننا بالنسيان وحشيّا ضاريّا. لن ننسى. من أين للنسيان أن يجد طريقه إلينا. في هذا المكان أرض فلسطين المجلّلة بالدم المراق والغضب تبنى ذاكرة المستقبل، ذاكرة الأجيال، وستكون هذه الذاكرة مدوّنة إشهاد واعترافات. محمد الدرة سيظلّ يحدّث عن العنف وحشيّا، عن القتل نظاميّا، عن القهر ضاريّا، عن ظلم حكّام من ذوي القربى خرّوا ساجدين للأعداء. إن محمدًا يشهد ويحرس ذاكرة الآتي، وللاسم دلالته الرمزيّة.ا

*  *  *

الثلاثاء 3 تشرين الثاني صباحا. سدّوا المنافذ إلى رام الله. الطريق إلى القدس مغلقة هي الأخرى. عسكر ودبابات. “هناك طرق ومسالك ترابيّة سنسلكها. لابدّ أن نغادر أريحا قبل المواجهات، يجب أن نسرع.” الفلسطينيون رفاقنا كانوا حريصين على سلامتنا وهكذا استحثّونا. لا يجب أن نصاب بأي خدش في أجسادنا. لا يجب أن يطالنا أي أذى أو أي مكروه. سنغادر أرض كنعان وأجسادنا سليمة تماما. لكن لا أحد سأل عن الروح.ك

روحي صارت دياجير وظلمات. حزن صامت عميق يداخل شغاف القلب. إحساس باللاجدوى. ماذا يمكن للمرء أن يفعل. كيف يمكن أن يكون عمليّا وهو لا يتقن غير الكلمات. حتى الكتابة في مثل هذه الحال خيانةٌ ودنسٌ، خزيٌ وعارٌ. كنت أدوّن جميع ما أرى. جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها خلسة. حملت معي من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب. كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى، كيف يكتبه محاطا بهالته الأسطورية دون أن يقع في نقل الواقع أو وصفه وصفا إخبارياّ مسطّحا يُفْقِرُهُ ويلغي كثافته، كيف يكتب جانبه السحريّ الأسطوريّ المروّع. الحياة أقدس من النص، والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات لا سيّما إذا كان الفعل أسطوريّا رسوليا على النحو الذي نرى.ك

*  *  *

أريحا الصابرة!ك

                 سلاما.ك

 سلاما.ك

 لفندق جاور قصر هشام وأصرّ على أن يعرّف الجار والجيرة ويذكّر اليتامى من نسل هشام بأمجاد أريحا. وطوبى لنا!! طوبى للحزانى!!! طوبى لثعالب الأرض نائحة على ثعلب الصحراء الذي دنّس بأمر أمريكا اسم الفصيلة كلّها.ك

الطــريق إلى رام الله 

الوجهة رام الله. والجبال تزداد عتوّا عندما نتوغّل في الطريق الملتوية التي تخترقها. ليس طريقا هذا الخيط الاسفلتي الذي يمتد بين ضلوع الجبال دوائر والتواءات بل هو ثوب حيّة رقطاء نسيته هنا في بدايات الزمان.ا

حتما تمّ تشييع شهداء يوم الأمس. بالزغاريد شيّعوهم. وبعد قليل أمهات واخوة  وأقارب وأصدقاء سينخرطون في نوح مكتوم، نوح اختار أن يكون سرّيا نكاية بابنة صهيون الضالّة. ثمّة في هذا البكاء السرّي رسالة خفيّة إلى العرب المستسلمة تريهم كيف يلقى أحفاد الأنبياء حتفهم. وثمّة داخل هذا كلّه إصرار على تدجين الموت وقتل فجائيته وإلغاء طابعه المتوحّش الضّاري.ا

*  *  *

أربكت الحواس كلّها والروح أثقلت بالليل.م

 مرّة أخرى صورة محمد الدرّة. أريحا! يا أريحا الصابرة! يا قصر هشام! يا صديقي الشرطي الفلسطيني الذي كان من قبل فدائيّا سلاما. لم أسألك في غمرة عبور الصراط حتى عن اسمك فمعذرة. معذرة وسلاما.م

*  *  *

الساعة التاسعة صباحا. الشمس ساحت في السماء ناشرة نورا أصفر ثقيلا. حالما تخطو خارج بهو فندق أريحا المتلفّت صوب قصر هشام تتلقّفك الأرض طينيّة صفراء كلسٌ وملحٌ وصفرةٌ. ويبدو المشهد قياميّا تماما. لو صَوّتَ في السماء بوقٌ لسلّم المرء بأن نهايات الدنيا قد حان حينها. شيء كالزفير المكتوم تحسّه في الهواء يصّاعد من الأرض التي خزّنت في ترابها الموات لهب شمس البارحة. وها هي الشمس ذاتها تعاود الظهور من جديد مُقِرَّةً العزم على الخطب العظيم ذاته: إحراق كبد العالم. ما رأيته البارحة بعد عبور الجسر- الصراط  لم يكن مجرّد وهم إذن. ها هي الشمس تطلع شاحبة نورها أصفر معجون بالرماد. وها هي أرض أريحا وَجِلَة مأهولة بالخطوب قادمة من ليل التاريخ. والجبال، الجبال ما زالت هنا. لَسْتَ مطالبا بأن تنظر إليها. هي التي تأتيك… هي التي تداهمك وتقتحم جسدك ضخمة عاتيّة جرداء لا نسمة ولا حياة. خِلْسَةً تنظر إليها كأنك تسترق النظر إلى وحش مرعب تخشى أن تستفزّه فيرتدّ البصر كسيرا.م

*  *  *

نصعد الحافلة “مرحبا.. نوّرتوا فلسطين.. هلاَ! هلاَ بالاخوة العرب.. الطرق مسدودة بالدبابات والعسكر.. سنأخذ طرقا ترابيّة.. أهلين! يا مرحبا!… سنسلك الطرق، الطرق الترابيّة… طرق وعرة قليلا.. بعد قليل ستبدأ المواجهات…” يرتفع صوت المحرّك وتضيع كلمات السائق فتصبح كالتمتمتة أو الوشوشة “اليـ..هـود… استشهاد.. ومستوطنون…”م

 نحن الآن على الطريق باتجاه رام الله. بدأنا نصعد من أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر باتجاه الدنيا. من العالم السفلي نصعد. الكلّ صامت. إنها مهابة المشهد. كانت الجبال تقترب. ها هي تزداد قربا. هي ذي تزداد قسوة وشراسة. أريحا بدأت تبتعد. بقع خضراء وبعض مبان. الكازينو يتراءى هو الآخر. لقطة من شريط سينمائي مدوّخ سيقف غودار مذهولا قدّام عبثيّة المشهد. أريحا صارت هناك. مذهلة ومدهشة تجربة الصعود هذه وأريحا هناك في الأسفل صابرة.م

*  *  *

  أريحـــا!م

 يا أريحا الصابرة. أحتاج قليلا من صبرك الربّاني فالروح محض عذاب. جسر على نهر. كازينو في أرض موات. قصر ينوح في السرّ ليلا على أمجاد من سكنوه. والشمس تعاود الظهور. رجفٌ يستبدّ بالأرض وليتَ نور القمر لا يضيء. طوبى لنا!! لكن من أين سيجد العزاء طريقه إلى الحزانى.م

*  *  *

ثمّة في تجربة الصعود هذه من أريحا إلى رام الله المتلفّتة صوب القدس، من العالم السفلي إلى الدنيا، شيء سحريّ يربك الحواس جميعها. قسوة الجبال، عظمتها، جدبها، عراؤها، هالة المهابة التي تجلّلها، كل هذا يجعلك تكاد تسلّم بأنك قفزت في العمى والكون لم يزل بعد سديما. بعد قليل، بعد برهة قد تنحني آلهة ما، قد يأتي ملاك ما، قد يتجلّى كائن أثيري ما ويقتطع من طين الجبال قسطا، حفنة أو حفنتين، ويبدأ التكوين. من هنا، من جبال أريحا يسهل الصعود إلى السماء. يكفي أن نحدّق قليلا وسندرك أن السماء تتكئ فعلا على هذه الجبال العارية من كلّ نسمة أو عشبة أو حياة. وليس غريبا أن يكون المعراج هنا من أرض فلسطين. ليس غريبا أن تنفتح السماء في وجه المسيح ويأتي روح الله نازلا عليه مثل حمامة وتدوي السماء بالصوت قائلا: “هذا ابني الحبيب الذي به سررت.” المشهد قاس ومروّع، فظاظة رقيقة، هشاشة صلبة، غلظة حانية، جبال صلبة مثل لعنة أبديّة، هشّة كجبال من الغيم الضارب إلى الصفرة، طين تجمّد: هذه هي جبال أريحا المتلفّتة صوب رام الله والقدس عروس المدائن ثكلى العواصم.م

*  *  *

الحافلة مكدودة تصعد من أشدّ الأماكن انخفاضا إلى قمم الجبال، الطريق يمتدّ ثـنيّة بين ضلوع الأرض. ثمّة شيء خرافي، ثمّة شيء إشاريّ مدهش في تجربة الصعود هذه، الجبال يمينا ويسارا مهيبة مجلّلة بالصمت والقحط، مسخوطة تبدو ومتحرّكة. يكفي أن يستسلم المرء قليلا لحواسه ويتملّى ما يراه دون أن يعَقْلِنَ المشهد وسيشعر بأنه في حضرة كائن أسطوري مروّع، كائن خرافي يتحرّك في ثقة وتؤدة وثبات باتّجاه كون أزمع على أن يهلكه. غير أن هذا الشعور سرعان ما يتراجع ويتحوّل الوحش المخيف إلى كائن خرافي مسكون بأسى لا يطفأ.م

 الأبديّة هنا في هذا المكان متوارية خلف غلالة شفّافة، غلالة في منتهى الرقّة، لو خدشنا الهواء الجاف قليلا لوجدنا أنفسنا هناك في الماوراء حيث نهر الأبديّة ودموع بني البشر أجمعين. جبل التجربة أحد هذه الجبال الواقفة في المهبّ ما بين المادي الصلب والأثيري الشفاف. على اليسار قليلا بناية بيضاء تبدو كأنها تتشبّث بالجبل، بالكاد تتماسك ولا تسقط. إنه دير قرنطل المحتمي بجبل التجربة. دير صغير، دير معلّق يجاهد الأفول متلفّتا إلى الهاوية. لو هبّت نسمة من هواء لتداعى؛ ولكان سقوطه عظيما.م

الأبديّة متوارية خلف غلالة رقيقة حتى لتكاد تتراءى من خلال المكان من فجوات في الهواء. لا بدّ أن يكون يسوع المسيح قد عاش هذه اللحظة. لابدّ أن يكون هذا المكان موطنا للأنبياء ومرتعا لنجوم السماء. هي ذي جبال أريحا إذن: مكان محمّل بالاشارات، غابة من رموز وإيماءات. لا يمكن للمرء أن يعبر من هناك ولا يرى بعضا من تلك الإشارات والإيماءات التي تملأ المكان قسوةً ومهابةً وهشاشةً. فالمشهد يربك الجسد ويدوّخ الحواس. وحيدا خاض يسوع المسيح التجربة في هذا المكان. ظلاله ما زالت في المكان مثل رَفّ جناح… جناح خُطَافٍ شهد فعال ابنة صهيون الضالّة فاتّشح بالسواد. بعد قليل سيدقّ اليهود لحمه بالمسامير صدئة. سيصعد إلى الجلجلة. وبعد قليل يوم الاربعاء 4 تشرين الأول سنة 2000  حين  نكون في فندق  “باست إيسترن” برام الله سيدخل شابّ فلسطيني فزعا ويخبرنا أن المستوطنين قد أمسكوا فلسطينيا ودقّوا المسامير ذاتها في جسده.م

هكذا يتّخذ الحلم طابع الكابوس ويلتحف بجميع سماته. يكفي أن يحدّق المرء قليلا في الجبال الجرداء، في صفرتها الشاحبة المعجونة بالرماد، في الكيفيّة التي تتماسّ بها ويتكئ البعض منها على البعض الآخر فيما هو يواصله، حتى يخيّل إليه أنها جبال متحرّكة، جبال تزحف باتجاه فلسطين تريد سحقها نهائيا ثم تطحن الكون بأسره. من هنا سينتهي العالم.م

وأحفادنا نحن العرب المطاردون والمقهورون الصابرون سيحضرون تلك اللحظة الجلل. لن تهنأ ابنة صهيون. ولن تخلد إلى الراحة أمريكا. فالدم صارخ في البرّية.م

صرنا في الأعالي، عبرنا الهاوية. حين تلتفت باتّجاه الجبال وقد صارت بعيدة تراها جبالا متحرّكة تحثّ الخطو وراءنا وهديرها المكتوم يطبّق الآفاق. يتغيّر لون الأرض. يصير التراب أحمر ضاربا إلى السواد قليلا. شجيرات زيتون هنا. شجيرات هناك. ولاشيء يشدّ العين على الطريق المؤدّية إلى رام الله التي تتفرّع عنها الطريق المؤدّية إلى القدس وبيت لحم وبيسان غير الحجارة. حجارة وصخور مرمية على الأرض مثل قطعان من الأغنام والماعز وصغار أبقار خرجت للتوّ من شكيمتها. أحجار من كل الأحجام. حجارة تكاد تغطّي أديم الأرض كلّه. لكأن الأرض زلزلت زلزالها. لكأن هذه الأحجار هي أثقال الأرض مقذوفة في العراء.م

هي ذي أرض رام الله. على قمم الجبال المجاورة يلمع قرميد المستوطنات. على كلّ الجبال المحيطة بالقدس مستعمرات بنيت بالطول لا بالعرض فصارت عبارة عن سور أفعواني ضخم يحيط بالقدس والقرى المجاورة لها. الكنعانيون القدامى كانوا يقيمون على رؤوس الجبال ويتّخذون منها دروعا وأحصنة، وها هي ابنة صهيون تسرق منهم طريقتهم في بناء المدائن والقرى. اتفاقيات أوسلو التي ترقد الآن في الرفوف كسيرة النفس مخذولة ككل أحلام العرب نصّت على ضرورة تفكيك هذه المستوطنات. ومنذ تلك اللحظة التي صافحت فيها الضحيّة قاتلها والمستوطنات تزداد اتساعا وتحكم الطوق حول القرى الفلسطينية متقدّمة باتّجاه القدس تريد خنقها.م

*  *  *

هي ذي فلسطين.م

 لا عسل ولا لبان ولا مرّ. وإنما هي حجارة منثورة وصخور تطلّ برؤوسها من الأرض لتشهد على قسوة المكان. يقال إن شمال فلسطين يشبه جنات من تحتها تجري الأنهار. لن نذهب إليها وتلك حكمة صهيون. من أين جاءت أرض رام الله بكلّ هذه الصخور، من أين أتت بكلّ هذه الحجارة. لكأننا في كوكب آخر. لكأن الأرض تحثّ بنيها على استخدام الحجر سلاحا. حين ترى هذا الكمّ الهائل من الأحجار منثورا على الأرض يداخلك الشكّ في أن انتفاضة الأقصى وانتفاضة يوم الأرض وكلّ الانتفاضات التي دوّخ بها الشعب الفلسطيني العالم ليست فعلا اختياريا أتاه شعب محاصر بالليل، بل هي تلبية لنداءات الأرض. تكاد تسلّم بأن الأرض تطرح كنوزها أحجارا وصخورا والفلسطينيّ يلبّي النداء. فالأرض هي التي ترجم ابنة صهيون الحاقدة بالحجارة. ليس الفلسطيني سوى وسيلة في معركة الأرض ضدّ غزاتها، وسيلة اتخذتها الأرض لترجم بأحجارها بنت صهيون الحاقدة. هذه الأرض المزروعة صخورا وحجارة، هذه الأرض المسخوطة هي نصيب الفلسطينيين من كلّ فلسطين. ولنا أن نفرح. لنا أن نهلّل. وطوبى للحزانى لأنهم عند الله يتعزّون.م

*  *  *

شارات مرور إرشاديّة: أورشليم القدس  بيسان- بيت شآن- رام الله. عسكر ودبّابات. يتقدّم الجند. يقومون بإشارات. فوهات رشاشاتهم موجّهة نحو الحافلة. يفهم السائق أن العبور ممنوع. يتراجع قليلا ويعود ثم ينهال بالسباب والشتائم: “أوغاد.. سفلة .. سنسلك طريقا ترابيّة… وحياة المصحف راح نمرق رغما عن أبيكم… هذا طريق القدس.. يلوّح في الهواء بقبضته.. رأيتم كيف نحيا… حياتنا معهم هيك.. كل يوم هيك..” تدخل الحافلة مسلكا ترابيا ملتويا وتشرع في الصعود والسائق ما زال يلعن أم اليهود وخالاتهم من الرضاعة والأمم المتحدة.م

هي ذي رام الله:م

مجموعة هضاب ملتفّتة حول حشد من المنخفضات. أشجار وطرقات وبيوت من الصخر. قبل اتفاقات أوسلو كان البناء ممنوعا. ترميم البيوت ممنوع هو الآخر. أما بعد الاتفاق فقد صار بإمكان الفلسطيني في رام الله أن يبتني تحت الشمس سقفا. من تداعى بيتـه للسقوط فبإمكانه أن يرمّمه ولا خوف عليه من الجند وباراك وشارون وإلوهيم ربّ الجنود آكلات لحم بني البشر. مجّد اسمك أوسلو!! وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. له أن يسير مخفورا بالدم وخسران العرب أجمعين. أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء!! هيكل وهمي ويهود مثل قردة مخبولة يهزّون الرؤوس فتضحك أمريكا.م

*  *  *

وصلنا إلى منطقة البيرة. بلدة متكئة على رام الله. بلدة تقع على خطّ النار. درع واقية لرام الله. بيوت من طوب رماديّ. بيوت وبنايات كتلك التي تراها في مخيّمات الفلسطينيين عادة ولست تدري هل هي كئيبة أم مقفلة بالوجع والأسرار. رفع السائق علم فلسطين، وعلّقه شرع العلم يرفرف حفيف أجنحة ووشوشات. في مدخل البيرة سيارة محروقة. “هاي سيارة أحد المستوطنين. الشباب أحرقوها أمس. جاء ليطلق عليهم نارا” قال السائق مبتسما. حجارة مرميّة هنا وهناك على الطريق الاسفلتي المغبرّ. أطفال لم يتجاوزوا السابعة من عمرهم يجّمعون الحجارة بالقرب من السيارة المتفحّمة.م

ثمانية أطفال، تسعة، لا، هاهو طفل آخر يأتي راكضا وهو يدحرج  إطار عجلة سيّارة. يضع الإطار قرب كومة الأحجار. ويهمس لرفاقه شيئا فينخرطون في ضحك طفولي عابث. أحد الأطفال استلقى على ظهره من شدّة الضحك وبدأ يفحص الأرض بقدميه. في الزاوية قدّام بيت متداع بابه مفتوح قليلا هناك بنيّة صغيرة على عتبة الباب تلبس مريلة صفراء وقفت تراقبهم. تفرك عينيها بيد. وبالأخرى تسوّي جديلتها. يطفح القلب بأسى مهلك صامت مبيد. لو أنه بإمكان المرء أن يوسّع بين جدران الروح مكانا لهذه البنيّة. لن أعرف اسمها أبدا. لن أراها ثانية. هذه حكمة أبناء صهيون. وهؤلاء أحفاد صلاح الدين نسل الأنبياء, والمقدّس فيهم قد تجلّى. الروح صارت خرابا. محمد الدرّة من جديد والدمع الحبيس يحزّ شغاف القلب. بالكاد ترى البيوت المتراصّة على جانبي الطريق. لكأنها ترقص في بحيرات من الدمع. الدمع حبيس والروح خرقة وصدأ. وطوبى للحاكم العربي جلاّدا وسفّاحا وأشياء أخرى.م

*  *  *

 الحافلة تعبر. أفهمنا السائق أنهم يعدّون لمواجهات ما بعد الظهر. دخلنا رام الله وشوارعها مقفرة إلا من بعض العابرين. الدكاكين مغلقة والإضراب عامّ. على الجدران شعارات تمجّد الشهداء، ملصقات نعي، ملصقات شباب خطفهم الموت فصاروا شهداء. شباب في زهرة العمر ينظرون إلينا مبتسمين. صور بالألوان لشباب مضوا في الشوط إلى أقصاه. فجأة فندق “باست إيسترن” برام الله. شباب مسلّحون من فرقة الـ17 الشهيرة أمام الفندق يراقبون السيارات متحفّزين لأي طارئ. هي ذي رام الله. وغدا سيكون نهار آخر. سنمرق من وادي النار إلى بيت جالا، ومن بيت جالا إلى بيت لحم، إلى كنيسة المهد. سنزور بيوت العزاء في بيتونيا والبيرة ومخيّم الأمعري. وللحكاية أن تواصل نسج فصولها.م

درب الآلام

يوم الثلاثاء 3 تشرين الأول 2000 الساعة العاشرة صباحا. حين وصلنا قدّام مشفى رام الله. الشعب الفلسطينيّ كان هناك يذرع الساحة في اتجاه باب الخروج مجلّلا بالغضب. كان الموكب مهيبا. فلسطينيون من كلّ الأعمار. أطفال وشيوخ وشباب يتقدّمون واجمين. تنحّينا جانبا لأننا كنّا نتقدّم في الاتجاه المعاكس نريد الدخول إلى المشفى لعيادة الجرحى. الموكب مهيب ومروّع. هو ذا العلم الفلسطيني وقد غدا كفنا. على الأكتاف شاب في ربيع العمر مسجّى في الأسود والأخضر والأبيض والأحمر. هو ذا شهيد ثان. الكفن ذاته. الوجه مكشوف. والفتى الثاني، الفتى الذي خطفه الموت يبدو نائما مثل الفتى الأول تماما. الفلسطينيون يكفّنون شهداءهم هكذا. يتركون الوجه مكشوفا يواجه السماء. كأنهم يولّونه للسموات كي تراه، كي تحفظه، كي لا تنساه أبدا بعد أن ضاقت الأرض به. الموكب مهيب مروّع. شيء في قاع الروح يتفتّت. دمع حبيس يحزّ شغاف القلب. يرقص المشفى كلّه في بحيرات من الدمع الحبيس في عينيك. ستصوّر الجنازة وستتناقلها الفضائيات. هو ذا الموت فرجويا متوحّشا قاسيا فظّا بدائيا ساديّا همجيّا عاتيا ضاريا فاجعا. هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا باندهاش. إنها تأكل بنيها.م

في أروقة المشفى ومدارجه نساء يدارين الوجع.. أطفال جاؤوا لعيادة جرحاهم.. رجال.. شباب.. المشفى مليء بالناس. كأن الشعب الفلسطيني كلّه هنا يعود جرحاه. فيما الشعب الفلسطيني الآخر ذهب يشيّع الشهداء المقتّلين. شهداء قتلوا بالرصاص. ثم قتلوا بالصمت العربي. ثم قتلوا بلامبالاة الدنيا قاطبة. أنا على يقين من أن الانتماء إلى الجنس البشريّ جناية لن تغفرها السماوات. ندخل إلى غرف الجرحى.. المشهد يخلع القلوب.. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة رافقنا من غرفة إلى غرفة. في كلّ غرفة أسرّة. وعلى الأسرّة يرقد الشعب الفلسطينيّ جريحا. رام الله كلّها هنا. أطفال جرحى.. كهول جرحى.. شباب.. المشهد يخلع القلوب.. قوارير الأوكسجين.. خراطيم في الأفواه.. خراطيم تنتهي بإبر حادّة مغروزة في عروق الأذرع.. بعض الجرحى في حالة موت سريري…. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة شخص نشط متفان في خدمة ناسه وشعبه. لقد أنقذ العديد من الجرحى من هلاك محقّق. صارع الموت مرارا وغلبه أحيانا. كان يحدّثنا بفرح طفوليّ مشوب ببعض من حزن الأنبياء عن كيفيّات نجاحه في طرد الموت وإعلاء الحياة. ارتعش صوته حين تحدّث عن تلك اللحظات التي غلبه فيها الموت وافتكّ منه شابّا أو طفلا أو قطعة من بدن.م

 مكتب الدكتور موسى أبو حميد مدير المستشفيات. ندخل. يرحّب بنا نحن الاخوة العرب. يحدّثنا عن عدد الإصابات. “إنهم يريدون ترويعنا فيقتنصون الأطفال. لقد بلغت نسبة المصابين من الأطفال 52°/° ونسبة المصابين من الذين أعمارهم أقلّ من الثلاثين سنة 98°/°.” هكذا حدّثنا متوتّرا. تدخل ممرّضة شابّة حسناء. خفر وجمال تجلّله الأحزان. تعتذر وتهمس في أذن المدير شيئا مّا. “سنخبرهم في ما بعد هاي مصيبة. لا تخبريهم الآن. إنه وحيد والديه”. هكذا قال لها فخرجت مجلّلة بالوجع ذاته مخفورة بالبهاء ذاته. أرانا ما يسمّى الرصاص المطّاطي. رصاص حقيقي مغلّف بقشرة مطّاطيّة لا يتعدى سمكها ميلميترا واحدا. على كلّ رصاصة وضعت ورقة تحمل اسم المصاب الذي طاله الغدر.م

 حين غادرنا المشفى كانت الشمس في الأعالي قرصا أحمق عاجزا حتى عن القشعريرة والرّجف والأفول قدّام كلّ هذا الويل. لو كان في هذا القرص الناريّ الأبله بعض من حنان لانهار على الأرض وسحقها. متى ينتهي العالم؟ متى الدنيا تنتهي؟ الحياة فسدت. وهذا الكوكب الأرضي يمتلئ بالشرور والدياجير ويهوه ربّ الجنود يكشّر عن نابه الأزرق. لا يجب أن تنتهي الحياة إكراما للذين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة. أنا على يقين من أن أمريكا ستظلّ تدحرج العالم باتجاه الهاوية حيث لاشيء غير الموت وصرير الأسنان. فالصهاينة ومن ورائهم أمريكا وكلّ قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب يريدون أن يقنعوا الناس بأن الفلسطينيين هم الذين يحملون أجسادهم ويضربون بها الرصاص الصهيوني النائم في الرشاشات. وهم الذين يستفزّون الموت الغافي في الصواريخ والدبابات وقلب ابنة صهيون. وليس الجند المدجّجون بالضغينة والحقد هم الذين يقتلون الأبرياء قدّام العالم. شريك في الجريمة هذا العالم الذي يكتفي بالتفرّج على الدم العربيّ مراقا. ثمّة حرص على الإقناع بأن الفلسطيني يعاني من عقدة الحياة والجندي الإسرائيلي يخلّصه من تلك العقدة عندما يطلق عليه النار ويرديه قتيلا. وهذا هو منطق الإنسانيّة في مطلع الألفيّة الثالثة.م

اتفاقيــات تذروها الرياح

قبل رحيله إلى باريس بحوالي ثلاث ساعات وجّه إلينا الدعوة. وها نحن في الطريق إليه. “الختيار” يسميّه الفلسطينيون تحبّبا. وحين يغضبون أو يعتبون عليه يصبح اسمه ياسر عرفات أو عرفات فقط. لقب ولا اسم. ينادونه أيضا الأخ أبو عمار. ويحلو للبعض أن ينعته بالقائد الرمز أو السيّد الرئيس بحسب السياق والمقام. وبعد ما سمّي من قبيل السخرية السوداء بقمّة كامب دايفيد الثانيّة جاب “الختيار” الدنيا بلدا، بلدا. ذهب عند العرب الذين مازالوا يسمّون أنفسهم الأشقّاء (وحدث أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله في شهر أيلول ثم وارى رفاته في جرش. ثم جرجر الرفات وواراه في تل الزعتر. ثم امتلأ قلبه بالضغينة فمزّقه إربا وزّعها بالتساوي على العواصم العربيّة وخلد إلى الأمن والراحة. وكان أن قال الربّ لقابيل: أين أخوك؟ فقال: لا أعلم أحارس أنا لأخي.) زار “الختيار” ملّة النصرانيين والهندوس وملّة يقال لها ملّة المسلمين. دخل بلاد السند والهند والصين، ووصل ذات مساء حتى أقاصي أفريقيا السوداء؛ حتى نيلسون مانديلا الذي خبر في سجنه الويلات كلّها نصحه بالتريّث. فقفل راجعا إلى ناسه في غزّة والضفّة.ك

بناية متواضعة، خمسة طوابق. مدخل كبير قدّامه بعض الشباب يحملون رشّاشات ويبتسمون مرحّبين. باب حديدي يفتح. يدور الباب على صائره محدثا صوتا أصمّ. تمرق السيارات. الطابق الرابع. ندخل قاعة صغيرة. في الوسط ثمّة مائدة في منتهى الصّغر عليها منفضة سجائر. استقبلنا مبتهجا. جلس في وسطنا على تلك المائدة نفسها. وبنبرته المتهدّجة دائما حرص على أن يشكر الجميع ويشكر الأمة العربية. تفهم من كلامه أنه مبتهج بالانتفاضة لاعتقاده أنها ستسقط من جديد أقنعة ابنة صهيون الضالّة، فينكشف الجحيم المتكتّم على نفسه في صميم فكرة دولة بني اسرائيل، فالفكرة ذاتها مضرّجة بالويلات والشرور والدم المراق. كان يحدّثنا مبتهجا وهو على يقين من أن صورة محمّد الدرّة وحدها كفيلة بأن توقظ في الدنيا بقايا من إنسانيّة. لكنه سيمضي إلى باريس. ومن باريس يشدّ الرحال إلى شرم الشيخ. من شرم الشيخ سيعاود الرحيل مكدودا إلى قمّة جمعت ما تبقّى من العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة. ومن هناك سيعود منكسر النفس إلى ناسه وبلده. فالعالم بأسره قرّر أن يكتفي بالتفرّج على الدم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قيامي مروّع باتجاه المقابر. وطوبى للحاكم العربي سفّاحا وأمّيا وأشياء أخرى. ومجّدت أمّة العرب. فهذا زمن الموظّفين وأمريكا. جاء جيل الموظّفين ليسود ويحكم ويمضي بالعربة حثيثا باتجاه الهاوية. “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت.” وطوبى للحزانى. مُجّد اسمك أوسلو. مُجّد اسمك أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء.م

في البناية ذاتها استقبلنا أبو مازن. تحدّث طويلا عن المفاوضات والمواقف الصلبة التي أبداها المفاوض الفلسطيني. لم أفهم إلى الآن ماذا قصد الأخ أبو مازن بقوله: “إن الدول تبنى بالمحاكم. ونحن الآن بصدد إعداد قانون وتأسيس محكمة فلسطينيّة.”  كان ذهولي عظيما لا سيّما أنني لا أفقه في تأسيس الدول شيئا يذكر. أنا المنتمي إلى هذا الجيل المكلّلة أيامه جميعها بالسواد وطعم النحيب أشهد أنني لم أفهم. وأشهد أنني أعرف أن المفاوض الاسرائيلي سيظلّ يفاوض مستحضرا مكر ابنة صهيون التي دوّخت السماء من أجل بقرة صفراء فاقعٌ لونها. فما بالنا إذا كانت المسألة تخصّ الأرض والربح والغلبة والقهر. المفاوض الصهيوني يدرك تماما أن المسائل التي يتفاوض في شأنها مع السلطة العائدة كثيرة متنوّعة. فإذا استغرقت كلّ نقطة عشرين سنة من التفاوض، سيعود المسيح في نهايات الزمان وسيجد المفاوضات مازالت في بداياتها. والمستوطنات قد وصلت حتى بلاد شنقيط موريتانيا العظمى وسحقت جزيرة العرب نفسها. مُجّد اسمك أوسلو. وطوبى لأمريكا! طوبى للجريمة. طوبى للعواصم العربيّة ثكلى مكلّلة بعار لن يطفأ الدهر كلّه.م

*  *  *

اتفاقات تذروها الرياح زبدا وطواحين ريح. وفي رفح شباب يواجهون العسكر بالحجارة ويقتلون. في الناصرة والجليل وفي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله والبيرة، المشهد ذاته في قلقيلية وطولكرم. حجر يواجه دبّابات ومروحيات، في غزّة وجنين ونابلس. غضب وحجارة في كلّ فلسطين… دبّابات وحجارة.. عساكر.. جنائز تسير خببا باتّجاه المدافن. نسمة من جنوب لبنان المتلفّت باتجاه شمالك فلسطين.. نسمتان ونرجس:م

الإمام علي بن أبي طالب لم يدفن. على فرس أبيض ما زال يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. كان الإمام فارسا بطلا صنديدا دوّخ جند الأعداء. سيفه كان بتّارا. في ساحات الوغى كان الإمام علي يضرب الفارس فيشطره هو وفرسه شطرين ويتوغّل السيف في الأرض يكاد يبلغ منها الرحم والأحشاء. كانت الأرض تألم وتتوجّع ويصدر عنها صوت كزفير الجحيم وهي تتوعّد الإمام قائلة: “يأتيك يومك يا عليّ.” الأرض كانت قد أضمرت شرّا عظيما، وأقرّت العزم على أن تثأر لنفسها منه يوم يموت ويقبر في ترابها. قتل الإمام وهو يصلّي صلاة العشاء. قتل غيلة. فكان أن بكاه أهله والمسلمون والدنيا أصابها رجف وسمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب.م 

 وكي لا يتمّ ما به توعّدت الأرض الإمام، كي يدرأ الشرّ الذي أضمرته، كفّنوه ووضعوه على سرج فرسه. فانطلق الفرس الأبيض يسابق الريح خفيفا كفرس من أثير معجون بالنور. الفرس سيظلّ يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. والإمام لن يترجّل إلا يوم القيامة. فيكون عدل؛ وتبدأ الحياة الأبدية؛ والموت يموت ذبحا. كانت الزهور والورود كلّها قد خلقت في الأيّام الستّ الأولى التي ابتدأ فيها الخلق. النرجس لم يكن من بينها. خلق النرجس بعد مقتل الإمام. أزهار النرجس صارت تنبت في مواضع حوافر فرس الإمام الشهيد. كلّ نرجس الدنيا هو البشارة، وهو الأمارة على أن الفرس ما زال يجوب الأرض ملتحفا بالغياب يتراءى وبالكاد يرى.م 

هكذا حدّثوني عندما كنت طفلا. وأنا رأيته، رأيت الفرس يمرق في الأيام الشتائيّة الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا، كثيرا ما كنت أراه. هذه حيل المتخيّل الجماعي في تمجيد الحقّ ومن ناصروا العدل. ولكني رأيته في طفولتي يمرق بين الهضاب والجبال. ويبدو أنه كان هناك في جنوب لبنان يوم ابنة صهيون الضالّة هربت لا تلوي على شيء.م

بيــوت العـــزاء

وصلنا إلى البيرة بعد الظهر عبر طريق ترابيّة وعرة. حفر ومطبّات. سيّارات وشاحنات وجراّرات أرغمت كلّها على أن تتسلّل إلى حاجاتها ووجهاتها عبر هذه المسالك الترابيّة. وهذا جزء من حكمة ابنة صهيون وعدالتها. خيمة كبيرة سويّت على عجل. أعمدة خشبيّة كسيت بالأبيض والأحمر والأسود، خيمة مستطيلة تتوسّط البيوت تحتها ناس كثيرون. هو ذا الشعب الفلسطيني يتقبّل التعازي. أب مثقل بالهمّ يداري الوجع ويصافحنا محتفيا بالاخوة العرب. أب فقد طفله البارحة وجلس اليوم هنا يتقبل التعازي. “شرف لي أنني قدّمت ابني فداء لفلسطين ولكرامة الأمّة العربيّة.” هكذا ظلّ يردّد وهو يصافحنا ويتقبّل تعازينا. عيناه زائغتان. على ملامحه مسحة من ذهول. وتلك ضراوة الموت. ذاك طابعه الكاسر المتوحّش. الأب لم يصدّق بعد أنه لن يرى طفله ثانية أبدا. لم أرفع رأسي كي أرى الملصق. لم أجرؤ على النظر إلى صورة الشهيد. هنيهة،، برهة،، رعشة في المفاصل وتستجمع بقيا من صبر. ترفع عينيك إلى الملصق. طفل عمره 13 سنة. صورة بالألوان والطفل يبتسم. ألوان علم فلسطين. لم ترتجف يد قاتله. تقرأ في أسفل الصورة الشهيد البطل محمد نبيل علي حامد. تدوّن الاسم خلسة كي لا تخدش مهابة الموقف. الذّاكرة ازدحمت بالتفاصيل والويل وقد أنسى الاسم لا سيّما أن أغلب الأطفال الذين سقطوا يحملون اسم محمد. دوّنته خلسة. قتل الطفل ولم ترجف يد قاتله. القنّاص الذي أرداه قتيلا برصاصة في الرأس لا بدّ أنه يحتفل الآن بأمجاده وبطولاته. نغادر المكان في صمت. نحثّ الخطو كأننا نبتعد عن مكان الجريمة. كأننا شركاء فيها. كأننا مورّطون. يكفي أن تكون هنا؛ يكفي أن تعيش مهابة الموقف وترى فظاعة الفقد في عيني الأب الثاكل؛ يكفي أن ترى الهالة التي تحيط بعيني الطفل القتيل الذي ظلّ يرقبنا من الملصق مبتسما؛ يكفي أن تتخيّل روحه وهي ترفض أن تأخذ طريقها إلى مملكة الموت لأن الصبيّ لم يستكمل بعد ألعابه وضحكاته وشيطنته على مقاعد الدرس- يكفي أن تأتي وترى- حتى تشعر أنك مورّط في هذه الجريمة.م

كانت الشمس قد مالت إلى الغرب قليلا وشرعت ترسل خيوطا صفراء فاقع لونها حين وصلنا إلى بيت على منحدر في بيتونيا. فلسطينيون هنا أيضا. الشعب الفلسطيني جالس على كراس يتقبّل العزاء. الأب في الوسط مجلّل بحزن لا يمكن أن يطفأ. نقدّم التعازي. ثم نجلس. الكراسي بالكاد تتماسك فوق الأرض. لافتة كبيرة مثبّتة على عمودين خشبيين كتب عليها: حركة فتح تنعى بكل فخر واعتزاز شهيدها البطل محمود إبراهيم العموسي. شاب بيده فناجين وإبريق يقدّم لنا القهوة مطيّبة بالهال. في مخيّم اليرموك بدمشق تعلّمت من الأصدقاء الفلسطينيين أن من لا يرغب في الاستزادة من هذه القهوة المرّة  يجب أن يمسك الفنجان بإصبعين، السبابة والإبهام، ويحرّكه يمنة ويسرة فيفهم الساقي المضيّف أنك أخذت كفايتك. وإن لم تفعل فإنه سيظلّ يملأ فنجانك كلّما انتهيت من احتسائه. فيما كنا نغادر المكان وصل شباب من قوة الـ17 ليؤدّوا واجب العزاء فالشهيد محمود العموسي رفيقهم في السلاح عمره 23 سنة وقد استشهد الليلة الماضية على الساعة الواحدة والنصف. عندما صعدنا الحافلة بدأ السائق يناور كي يديرها فكادت تهوي في المنحدر. لو فعلت لكان سقوطها عظيما، ولابتسم يهوه في الأعالي نكاية وشماتة بالاخوة العرب الذين قدموا إلى أرض كنعان  فيما أحفاد الكنعانيين والنبيّين من الفلسطينيين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة وتمجيدا للحياة.ك

*  *  *

شعاع،، شعاعان،، قرص أصفر في غاية البلاهة يختفي يسيرا يسيرا وراء الهضاب. الشمس غابت تقريبا حين وصلنا إلى مخيّم الأمعري المأهول بالرفض والإصرار. على الجدران شعارات تمجّد حركة فتح… شعارات وقّعها أنصار الديمقراطيّة والشعبيّة والجهاد وحماس تذكّر بالكفاح المسلّح طريقا إلى فلسطين. شعارات تمجّد الشهادة والشهداء وتحقّر إيهودا باراك مجرما وشارون جزّارا وتدعو إلى تحرير كلّ فلسطين. شعارات تندّد باتفاقيات أوسلو وبالسلطة العائدة للتوّ من تيه دام دهرا في بلاد تسمّى المشرق العربي والمغرب العربي.. شعارات تندّد بالأنظمة العربيّة المتخاذلة.. شعارات أخرى تتوعّد بالويل والانتقام كلّ من تسوّل له نفسه أن يروّج المخدّارت.ك

 بعد أن ترجّلنا من الحافلة في مدخل هذا المخيّم المليء بالحياة صاخبة هدّارة مفتوحة على كل الاحتمالات وصلنا إلى مركز شباب الأمعري. ناد رياضي واجتماعي وثقافي للمخيّم. داخل ملعب كرة سلّة فسيح وواسع جدّا حتى لكأنه على استعداد في كلّ لحظة للتحوّل إلى ملعب كرة قدم وضعت الكراسي تحت الجدران المحيطة بالملعب. وعلى الكراسي جلس الشعب الفلسطيني واجما. هي ذي اللافتة المحتفية بالشهيد. هو ذا الملصق وقد ذيّل بالعبارة ذاتها، بالتميمة ذاتها: مخيّم الأمعري ينعى الشهيد البطل عماد عبد الرحمان توفيق العناني. عائلة الشهيد، الأب والاخوة اختاروا لهم مكانا في مدخل الملعب. تعاز. دمع حبيس. من مكبّر صوت يأتي القرآن مرتّلا. آيات تذكّر بأن الذين قتلوا أحياء يرزقون. شابّ ملتح وسيم أوقف آلة التسجيل ورحّب بنا في لغة عربيّة أنيقة موقّعة كالنشيد. ندّد بالصمت العربي والتواطؤ العالمي. وسّع المسافة الفاصلة بين الأنظمة العربيّة وشعوبها ” الشعب العربي من المحيط إلى الخليج معنا.. لسنا وحدنا.. الشارع العربي معنا.. نحن نعلم هذا ونحفظ الأمانة.. لسنا وحدنا.. لسنا وحـ…ـدنا.” هكذا اختتم كلمته. عاد صوت المقرئ. بعد قليل سيتفرّق الجمع وستخلو عائلة الشهيد إلى الوجع ربّانيا.ك

 حين غادرنا مركز شباب الأمعري كان سيف الرحبي يمشي مذهولا ويهمس: “العدم الضاري ..العدم الضاري.” أنا سمعته ورأيته يجرّ الخطى مذهولا. من خلل الغيم المتناثر طلع قمر أصفر باهت الصفرة وبدأ يتسلّق السماء متعبا مكدودا. الفلسطينيون أحفاد الكنعانيين والنبييّن يعلمون علم اليقين أن يهوه مقرّ العزم على إبادة الحياة وعلى إفسادها وتحويلها إلى جحيم. وهم على يقين أيضا بأن يهوه يستدرج الحياة إلى الهاوية. وها هم يتسابقون إلى الموت لأنهم مؤتمنون على استمرار الحياة. من هنا تستمدّ المواجهة في ديارهم عنفها المدوّخ الضاري.ك

فلسطين يا بيت العرب. ذات ربيع رحل أوكتافيو باز. كتب شعرا ثم رحل. لست أنا القائل بل هذا الشاعر الذي اسمه أوكتافيو باز هو القائل: “لا يجب علينا أن نترك التماسيح الكبيرة تصنع تاريخ البشريّة. إنني لا أستبعد الانهيار الأمريكي، فالتاريخ لا يمكن أن يتحمّل إلى ما لا نهاية هذا الالتحام الهائل بين الموت والموت. لذلك أدعو دول العالم الثالث إلى العودة إلى الجوهر، وإلى الوقوف وقفة واحدة في مواجهة الجحيم.” حتما لم يكن أوكتافيو باز يدري أن الفلسطينيّ سيقف في مواجهة الجريمة وأمريكا وحيدا. ومحمود درويش، الشاعر الذي كان طفلا يحسب أن البرتقال ينبت في الصناديق، سيحرص كما شعبه على الترحاب بالأصدقاء العرب، يلغي سفره إلى باريس ويستبقنا إلى رام الله ليرحّب بنا في فلسطين، وهو الذي أعلن أن الجريمة صنو أمريكا فكتب وبيروت تتّقد نارا وصبرا:ك

وحدنا نصغي لما في الريح من عبث ومن جدوى
وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقوديّة
يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا
نعسنا
أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا
وأمريكا لأمريكا
وهذا الأفق اسمنت لوحش الجوّ
نفتح علبة السردين، تقصفها المدافع
نحتمي بستارة الشبّاك، تهتزّ البناية، تقفز الأبواب،ك
أمريكا
وراء الباب أمريكا.ك

وادي النار، الطريق إلى بيت جالا المتلفّتة صوب بيت لحم 

الإضراب في رام الله مازال متواصلا. والمدينة تبدو مقفرة خلاء لولا أبواق بعض سيّارات الإسعاف تملأ المكان ولولة بين الحين والآخر، فيما تردّد المباني صدى الطلق الناري القادم من تخوم المدينة ومدخلها الرئيسي حيث الحواجز والمواجهات. على الجدران ملصقات لشباب استشهدوا، بعضها قديم ألوانه باهتة، وبعضها فاقعة ألوانه كأنه ألصق هذا الصباح. وفي أسفل الملصقات كلمات تعرّف بأسماء الشهداء وتمجّد البطولة. على كلّ الجدران ملصقات لشهداء يبتسمون ابتسامات مجلّلة بالحزن. وتلك مفعولات الموت ضاريا كاسرا. يكفي أن تحدّق في العيون وستراها طافحة بهالة من سحر الموت وجاذبيّته وفتنته. الكلمات التي تمجّد البطولة والاستشهاد تبدو ذليلة لم تتمكّن من القضاء على فجائيّة الموت وضراوته وطابعه الكاسر. وعبارة “الشهيد البطل” التي تذيّل بها الملصقات ليست سوى تميمة تدرأ الوجع وتدجّن الموت، لكنّها لا تمحو طابعه المتوحّش الضّاري. فوراء عبارة الشهداء نفسها ثمّة شباب وأطفال سقطوا في العتمة. بيوت اجتاحها النوح. قلوب داهمها الوجع كاسرا. ثكل ودمع ولا عزاء.ك

وصلنا إلى البيرة عبر طريق ترابيّة وعرة. مطبّات وحفر من جميع الأحجام. على الهضاب المجاورة يلمع قرميد المستوطنات تحت شمس باهتة. ثمّة حشد من غيوم رماديّة بالكاد تتحرّك. يكفي أن تحدّق فيها قليلا. يكفي أن تديم النظر إليها وسترى يدا خشنة معروقة تمتدّ من خلال تلك الغيوم وتتوعّد الحياة نفسها بالويل والخراب. إنها يد إلوهيم، يد يهوه ربّ الجنود المأخوذ بالدمّ الفلسطيني. ليست زخّات رصاص هذه التي تدوي في الجوّ. إنها قهقهة هذا الربّ العائد من ليل التاريخ مخفورا بخسران بني البشر أجمعين. كانت الحافلة تعبر وادي النار. والطريق ترابيّة ملتوية. ويهوه ربّ الجنود من هناك يراقب المشهد ممنّيا النفس بمزيد من الدم الفلسطيني.ك

 فجأة حفنة من بيوت،، حفنتان على هضبة. الهضبة تصير هضابا والبيوت تزداد وضوحا. بيوت معلّقة على مرتفع من الأرض. بيت جالا، بيت لحم حيث يقيم الفلسطينيون. ومستعمرة جيلو المأهولة بنسل ابنة صهيون شذّاذ الآفاق. على بعد عدّة فراسخ لا غير من بيت لحم وبيت جالا يربض الوحش الصهيوني مدجّجا بالليل في مستعمرة جيلو المزروعة في المكان هزءا ورزءا.ك

عبرنا بيت جالا. مدينة في حجم بلدة مبنية على الصخر. الشوارع مقفرة تماما والبيوت مقفلة على نفسها. يقال إن ناس هذه المدينة يستدرّون من الكروم نبيذا يزيل الصدأ عن الروح ويطهّر الجسد. ولا بدّ أن تكون الخمر التي قدّمها المسيح لتلامذته كي يباركهم مجلوبة من هذه الديار المقفلة بالأسرار. وحتما شهدت بيت جالا خطى يوسف النجار وهو يسوق حماره ويحثّ الخطو باتجاه مصر. من هنا مرّ المجوس أيضا. ومن هنا مرّ النجم الذي كان يتقدّمهم دليلا وبشارة حتى موضع كنيسة المهد حيث المغارة التي شهدت مولد يسوع. كنا نعبر باتجاهك بيت لحم. وكان يهوه في الأعالي يرقبنا. نابه الأزرق يلمع من خلل السحاب. ومن خلل السحاب مازال يمدّ يده الغليظة المعروقة مزدهيا بجرائم شعبه المختار، مباهيا بابنة صهيون بين الأمم.ك

دير العبيدية: دير مقفل. جدران عالية. باب صغير مثل كوّة في جدار ضخم. قدّام الباب راهب يحدّق في الفراغ. كأنه على يقين من أن يهوذا هو الذي قام لا المسيح. وصلنا حقل الرعاة. فجأة: بيت لحم. لافتة ترفرف كلما هبّت نسمة من هواء:ك

الجمعيّة الخيريّة الوطنيّة ترحّب بقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني.ك

هذه اللافتة هي ما تبقّى من احتفالات الألفيّة الثانية التي حضرها البابا القادم من روما. كلّ ليلة تقصف بيت لحم والبابا لا يحرّك ساكنا. الأب عطاء الله حنّا المرابط في كنيسة القيامة بالقدس يعرف كيف يحافظ على شرف الاسم ويصون أمجاد رجال عاهدوا التاريخ العربي وتواصوا بالصبر رسوليّا. البابا بعد الاحتفالات لم يتلفّت صوبك بيت لحم. هي ذي كنيسة المهد. كنيسة وسط ساحة عظيمة. مدخلها كمدخل دير العبيدية مجرّد كوّة صغيرة مستطيلة. يجب أن تنحني حتى لتكاد تلامس الأرض بيديك كي تدلف إلى الداخل. مطران يشبه كائنا من أثير يلبس رداء أسود استقبلنا على العتبة ونبّهنا إلى ضرورة الانحناء كي لا نصدم بالجدار هاماتنا. صوته حفنة من الوشوشات بالكاد تسمع. داخل الكنيسة حشد من السياح الأجانب ونظرات بلهاء. قطعان من العجائز والشيوخ. والكنيسة من الداخل على شكل صليب. أيقونات في منتهى البهاء: هو ذا المسيح الرضيع يبتسم لنا. هي ذي أمّه العذراء. والمجوس جاؤوا. هاهم يسجدون له ويطرحون كنوزهم قدّامه. عباءات سود تسير على الأرض في تؤدة وسكون وتحيط بنا. داخل العباءات مطارنة بالحزن والوجل والنور طفحت وجوههم. مطارنة فلسطينيون يبتسمون لنا مرحّبين بالاخوة العرب الذين جاؤوا في هذه اللحظة التاريخيّة التي يسفك فيها الدم الفلسطيني مسيحيا ومسلما في بيت لحم. وروما تلزم الصمت كأنها جزء من النظام العربي الباسل.ك

أنزلونا إلى المغارة حيث شهد المسيح النور. رائحة البخور والرطوبة والشموع تملأ المكان. هنا ولدته العذراء التي حبلت به من الروح القدس. هنا المجوس سجدوا له. صوت الراهب كان خفيضا كنسمة رقيقة تمرق بين أعشاب يابسة. “الاسرائيليون هم الذين يستفيدون من كنيستنا ويستثمرونها سياحيا. لهم 1500 دليل سياحيّ. أما نحن الفلسطينيون فلا نملك إلا 150 دليل. وفي دعاياتهم لاستجلاب السيّاح يرفعون شعار زوروا اسرائيل تنعموا بزيارة كنيسة المهد.” هكذا قال المطران فيما طفحت عيناه بحزن صامت عميق يجعلك تخجل من انتمائك للجنس البشريّ.ك

 يهوه، يا ربّ الجنود أعرف أنك في الخارج بانتظارنا, وجندك شذّاذ الآفاق على مرمى حجر من كنيسة ترجّلت النجوم في ساحاتها ذات نهار. حين كنا نغادر كنيسة المهد خيّل إليّ أنني رأيت على الجدران بقيا من غبار أجنحة الملائكة. وكنت على يقين من أن يهوه لم يرسل جنده لتدمير كنيسة المهد لأنها تدرّ على عبدته نسل ميليكداس مالا وفيرا. وللقردة في الدنيا قاطبة أن تنوح على نفسها. فثمة قرب سور الأقصى قردة مخبولة تهزّ الرؤوس زاعمة أن السور حائط أعدّ لدموع التماسيح ما كان منها وما سيكون. وطوبى للعرب المستسلمة.ك

مهد المسيح في خطر. والبابا يوحنّا بولس الثاني لا يحرّك ساكنا. لعلّه على يقين من أن يهوه ربّ الجنود لن يأمر عساكره بإحراق كنيسة المهد لأنها تدرّ على ما يسمّى دولة بني اسرائيل مالا وفيرا. شارع بولس السادس، شارع النجمة، طريق المطارنة. من ساحة المهد تتفرّع الطرق جميعها والبيوت تنتشر محيطة بالكنيسة كأنها تخشى على المسيح من الصلب ثانية. طريق المطارنة شارع يمتدّ من ساحة كنيسة المهد حتى سوق بيت لحم. في وسطه بالضبط بالقرب من مدرسة الراهبات مدرج ينحدر متسلّلا بين البيوت المقفلة. ولا شيء هناك. لا شيء. فجأة لمحت قطّة رماديّة منقّطة بنقط سوداء تهبط المدرج لائذة بالجدار. تمهّلت في مشيتها. وقفت. الرأس مال. الرأس دار. جذعها لم يتحرّك. عينان صفراوان أشعّا في عتمة المدرج. واصلت القطّة الهبوط كسلى مخفورة بسحر سرّي. لعلّها رهبة المكان. صورة محمد الدرّة ثانية. والروح صارت رمادا. الكرامة العربيّة صارت مجرّد ذكرى بعيدة. وعلى الفلسطيني أن ينهض للصراع من جديد ليبدّد بعضا من نكد أيّامنا. صوت صارخ في شاشة التلفزيون: مات الولد… مات الولد.. مات… وحكام، رؤساء، ملوك: موظّفون سادوا في نهايات الزمان العربي وقد استبدّ بهم الرّعب من الوعد فلسطينيّا حتى غدوا أقنعة للهلع يطلعون كالفزّاعات على الشاشات والفضائيات مرتبكين مرتعبين من الزلزلة. وتلك مفعولات رسالة الفلسطيني، ذاك طابعها الرسوليّ وبعدها الإشاريّ والرمزيّ.ك

*  *  *

     مطعم بيت جالا. صاحب المطعم في عمر المسيح يوم أسلمته ابنة صهيون الضالّة إلى حتفه. شاب ملتح وسيم وقف يرحّب بنا نحن الاخوة العرب الذين نمثّل جزءا من الوجدان العربي في أمّة غدا ناسها مثل الهوام بالضبط لا أمل ولا فرح ولا غاية، شابّ فلسطيني كنعاني خالص أسلافه رأوا يوسف النجار يحثّ الخطى باتجاه مصر وحموا المسيح رضيعا مهدورا دمه، جاء يخدمنا مبتهجا بالاخوة العرب. سألته حذرا:ك

عزيزي اسمح لي ، هل أنت مسيحي؟

أنا فلسطيني مسيحي. مرحبا! يا هلا!ك

قيل لي إن بيت جالا تستدرّ من الكروم نبيذا فردوسيّا.ك

أمّي تصنع نبيذا في البيت لو جبت الأرض لن تجد له مثيلا.؛

سألته مداعبا هل عندك اخوة، فأجابني بأنه سادسهم. فاقترحت عليه مداعبا أن أصير أخا له، وسألته هل تقبل أمّه بأن أصير لها ابنا سابعا. فكان أن أهداني قنينة التأمت بعدها شظايا من روحي التي صارت مزقا ونفايات. بعد مغادرتنا للمطعم بعشر دقائق ابتدأت المواجهات في بيت جالا. واختطف الموت شهيدين في مقتبل العمر.؛

العشـــاء الأخير

غدا صباحا سنغادر رام الله إلى الجسر. فندق “باست إيسترن”  وقت العشاء. مطعم الفندق في القبو. والنور خافت. الفوانيس المعلّقة على الجدران بالكاد تطرد العتمة. والشباب في المطعم يخدموننا بتفان وبكرم منقطع النظير. الابتسامة وعبارة “هلا، تؤمر” تسبق النادل إليك. الشباب فرحون بنا نحن الاخوة العرب القادمون من العواصم العربيّة التي “استتبّ فيها الأمن” تماما حتى غدا الناس فيها مثل الظهورات من شدّة وطأة الديمقراطيّة المخفورة برجال الأمن وبالخوذات والعساكر وأحذية الجنرالات. نحن القادمون من أوطان غادرها المستعمرون بدءا بالنصف الثاني من القرن العشرين علينا أن نفرح ونهلّل. فنحن نملك تحت الشمس علما ووطنا وأشياء أخرى. لكننا جميعا حزانى حزنا صامتا تعوّدنا عليه وألفناه حتى غدا جزءا من كياننا. الجميع يائسون يدركون أن العدالة في الوطن العربي مجرّد فكرة تلوذ بالكوى المعتمة وكثيرا ما تتلفّت في السرّ مذعورة من أحذية العسكر ورجال الأمن، وفي الليالي الشتائيّة الموحشة كثيرا ما تجلس مسدلة الشعر في منعطفات الشوارع وتمعن في النحيب. كبير الطبّاخين في مطعم فندق “باست إيسترن” يتقن إعداد شوربة البصل. أنا طلبتها مرارا قبل هذا العشاء الأخير. هذه الليلة جاءني النادل بها دون أن أطلبها. سألته عن كيفيّة إعدادها. ودوّنت ذلك. فجأة:ك

هو ذا ابن الشعب يدخل. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني الناس والأسطورة يهبط الدرج إلى المطعم ومعه بعض من رفاقه من مناضلي حركة فتح. مروان البرغوثي. هذا هو اسمه. حيّانا مصافحا. ورفاقه أيضا صافحونا بحرارة. عيونهم كانت زائغة قليلا. للتوّ قدموا من خطوط التّماس حيث تجري المواجهات. أمين سرّ حركة فتح. درس في جامعة بير زيت. عرف السجون الإسرائيليّة. وذاق الإبعاد. ووصل حتى الشمال الأفريقي ذات مساء بعد مجيء المقاومة كسيرة النفس والأمل إلى تونس. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني جاءنا. نحن لم نمض إليه. هو الذي اختطف نفسه واصطحب رفاقا له في الكفاح وجاء إلينا ليلة العشاء الأخير. سألناه عن الوضع. من طريقته في صياغة جمله وترتيبها والتلفّظ بها سرعان ما تدرك أنك في حضرة قائد ميداني. شكر الأمّة العربيّة. شكر العرب. نوّه بالشارع العربي مليئا بالغضب. “لن نقول بعد اليوم يا وحدنا! لسنا وحدنا. وجودكم معنا في هذه اللحظة يدلّ على أننا لسنا وحدنا. الشارع العربي معنا. لم نكن يوما وحدنا.” عن قتل الأطفال حدّث؛ عما رأيناه في بيوت العزاء وما رأيناه في المستشفيات، عن إصرار الأم الفلسطينيّة حدّث. أبو إياد لم يقتل في تونس إذن. هي ذي روحه تعود إلى الأرض. وأبو جهاد تسمع نبرته في صوت ابن الشعب هذا. والرفاق من الديمقراطيّة والشعبيّة والحزب والاخوة من الجهاد وحماس، كلّ الذين قتلوا غيلة وغدرا تكاد تسمعهم في صوت ابن الشعب هذا الذي جاءنا وقت العشاء الأخير. الشباب الذين كانوا قبل مجيئه يخدموننا في المطعم، أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا يصيخون السمع إلى هذا الصوت الحامل وجع الفلسطينيّ وإصراره على أن يولد في الليل العربي نهار-أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا- أشهد أن عيونهم كانت تفيض بنوع من الفرح الطفوليّ الساحر والحنان. يهوه! يا يهوه! يا ساديّا ووحشيّا! يهوه، ‍‍‌‍‌‍ يا قادما من مملكة الدياجير. يا يهوه! يا ربّ الجنود لست أنا القائل ولا أنت وإنما هو صوت صارخ في البريّة يدوي قائلا: “كما تنبع العين مياهها، هكذا تنبع ابنة صهيون الضالّة شرّها، ظلم وقتل ومثل قفص ملآن طيورا هكذا بيوت أبناء صهيون ملآنة مكرا.” في الشارع يسمع دوي القصف، ولعلعة الرصاص. ابن الشعب هذا الذي جاء إلينا أعلمنا أن المروحيات قد دخلت المواجهات. حجر ودبابات. حجر وصواريخ. حجر وقنّاصة. حجر وطائرات. مجّدت يا أمّة العرب. ومجّدت معك أمريكا.ك

* * *

من نافذة طائرة الملكيّة الأردنيّة لمحت القدس التي منعنا الجند الغزاة من زيارتها. لمحت قبّة الصخرة وأنا عائد إلى تونس. رأيت حيفا. طائرات حربيّة صهيونيّة حلّقت على بعد فراسخ من طائرتنا، ولم تقصفنا لتثبت لنا أن للسلام  الذي هو صنو الاستسلام محاسن وفضائل وأشياء أخرى.؛

*  *  *

وصلت إلى بيتي ومعي شيئان: شيكلان وكيس زعتر اشتريته من رام الله. كيس من نايلون عليه ورقة خضراء كتب عليها بالأحمر:ك

زعـــتر أبنــاء الـريف ZATAR  ABNA  AL-REIF

مفروك بالزيت البلدي

المحتويات: زعتر بلدي –سمسم بلدي- سمّاق- ملح.              تاريخ الانتهاء 30 03 2001

رام الله- المنــــطقة الصنـــــاعيّة- تلـــفون: 022981713

 

 وشيكلان: قطعتان معدنيتان مدوّرتان كعيني حيّة رقطاء. افتقدتهما في صباح الغد. وكان أن عاد ابني علاء 13 سنة من المدرسة حانقا ووجلا بعد الظهر. صارحني معتذرا  بأنه قد تسلّل إلى مكتبي خلسة واستولى على الشيكلين. وهناك قدّام المدرسة اجتمع هو وأقرانه واقتطعوا من كرّاساتهم ودفاترهم أوراقا لفّوا فيها الشكلين وأضرموا فيهما النار وهم يردّدون الاسم، كانوا يرفعون الاسم عاليا، اسم الحلم العظيم الضّاري: فلسطين. ولكم كان ذهولهم عظيما عندما لم تأت النار على الشكليين المعدنيين. فكان أن ازدادوا إصرارا وانهالوا على القطعتين سحقا بالحجارة حتى أتلفوهما.؛

* * *

أنا لطفي اليوسفي المقيم في الشمال الافريقي، أنا الذي ذهبت ورأيت أعترف أنني هناك في فلسطين رأيت الوجع ربّانيا، ورأيت الفعل رسوليّا. وأعترف أيضا بأن ما رأيته في بيوت العزاء وفي المستشفيات والشوارع ليس شهادة واستشهادا فحسب، بل هو حدث عبور للحدود الفاصلة بين السماويّ والأرضي، بين ما هو بشريّ وما هو ألوهي. ثمّة فسحة من أمل في دياجير هذا الليل العربي. خطوة باتجاه الطريق المؤدّية، خطوة.. خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم. ولتحيا الحياة.م

فلسطين المكان الذي غدر به الزمان

محمد لطفي اليوسفي

 الهبوط إلى العالم السّفلي

سأحدّث عن المكان.ا

لأنني كنت هناك في أريحا ورام الله وبيت لحم ومخيّم الأمعري والبيرة وبيتون ومشارف القدس؛ لأنني ذهبت للمشاركة في مهرجان فلسطين الشعري الأول لكن الشعب الفلسطيني العظيم أبى إلا أن يجعلنا نعيش فلسطين متوهّجة غضبا ودما ونارا، فشهدنا انتفاضة الأقصى تسطّر أمجادها؛ ولأنه من الصعب على من يدخل فلسطين أن يشفى منها تماما فحالما يطأ ترابها يتسلّل شيء ما قدسيّ، شيء سحري،ّ هشّ، مشتهى، شيء يخترق الجسد ويستبدّ بالروح، سأحدّث عن المكان.ا

 لأنني رأيت كيف يتخفّف المكان من مادّيته وصلابته ويستعير من الحلم شفافيته وفتنته؛ لأنني رأيت الحلم يشهد من التكثيف ما يحوّله إلى مكان صلب قاسٍ مَهيبٍ يربك الجسد ويدوّخ الحواس سأحدّث عن المكان. عن الهبوط الجحيمي إلى أرض أريحا الصابرة تحت شمسٍ قرّرت أن تحرق كبد العالم؛ عن جبالها الرواسي وخطوات المسيح على جبل التجربة؛ عن رام الله الناظرة صوب القدس المحاصرة بشذّاذ الآفاق؛ عن وادي النار؛ عن بيت لحم؛ عن كنيسة المهد؛ عن فلسطين المكان الذي غدر به الزمان.ا

سأحدّث عن أبٍ مثقلٍ بالهمّ مكدود نتقدّم إليه بالعزاء فيغالب الوجع مزدهيا بأنه قدّمَ ابنَهُ الطفل محمد نبيل علي حامد البالغ من العمر ثلاث عشرة سنة فداء لفلسطين وكرامة الأمة العربيّة. عن المكان عدوانياً ووحشياً؛ عن المكان واقعا أرضيا مضرّجا بدم الأبرياء؛ عن الفعل رسوليا؛ عن الوجع ربّانيا؛ عن قطّة هدّها الإعياء رأيتها تهبط مدرجا يتفرّع عن شارع النجمة طريق المطارنة المتلفّت صوب كنيسة المهد. سأحدث عن الدمع مكتوما وسرّيا؛ عن الأرض أُمًّـا تتغذّى بلحم بنيها؛ عن عرب الجهالين يحيطون بالقدس خياما وقطعان ماعزٍ تبحث بين الصخر عن أعشاب وهميّة لا ترى وتعلك الضجر؛ عن طفلة تلبس مريلة صفراء وقفت في الساعة التاسعة صباحا قدّام بيت متداع في مدخل البيرة تراقب أطفالا في سنِّها لم يتجاوزوا السابعة يجمّعون حجارة وإطارات سيارات استعدادا لمواجهات بعد الظهر.ا

 عن الزغاريد مأهولة بالنوح مكتوما سأحدّث؛ عن معركة سرّية تجري في المكان بين الألوان، الأصفر والأزرق والأبيض وما بينها من صراع رمزيّ إشاريّ مدوّخ؛ عن المغارة التي سجد فيها المجوس قدّام المسيح وطرحوا كنوزهم ذهباً ولباناً ومرّاً؛ عن المساجد تبكي مسجد عبد الله بن عمرو بن العاص في الرملة وقد صار مرقصا ليليا، عن الكنعانيين يسرق حلمهم وتراثهم ومدائنهم وطريقة مقامهم على الأرض؛ عن جبل أبو غنيم؛ عن قمم الجبال والهضاب مزروعة بالمستوطنات؛ عن المكان حين يصبح جندا ويصير عسكرا وخسرانا لبني البشر أجمعين، عن الصبر فلسطينيّا، عن الرّعب صهيونيّا، عن اتفاقات أوسلو يذروها مكر ابنة صهيون الضالّة هباء ومرارات، زبدا وطواحين ريح.ا

*  *  *

توجّهنا إلى فلسطين بعد يوم واحد من استشهاد محمد الدرّة في حضن والده يوم الأحد 1 تشرين الأوّل 2000، قتل الطفل على مرأى من الدنيا قاطبة. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا الشمس أفلت. وحده الدم ظلّ صارخا في العراء. قتل الطفل البارحة وها نحن نتوجّه صوب فلسطين، صوب جسر الملك حسين. صباح اليوم الاثنين 2 تشرين الأول أي بعد مضي52 سنة لا غير على وقوع فلسطين في قبضة اليهود شذّاذ الآفاق، وبعد مضيّ 10 سنوات فحسب على محرقة العامريّة واللّحم العربيّ مشويّا حتى التفحّم، وبعد مضيّ سبعة قرون لا أكثر على رحيل القائد الأعظم صلاح الدين الأيوبي. صار عمر الولايات المتّحدة الأمريكيّة قرنين من الزمان لا غير.ا

*  *  *

هبوط مدوّخ باتّجاه الغور حيث نهر الأردن. مكدودة تنزل الحافلة على الطريق الملتوية باتجاه المكان الأشدّ انخفاضا في العالم حوالي 350 مترا تحت سطح البحر. الضغط يصمّ الآذان. هناك بعيدا في الأفق تبدأ جبال أريحا بالظهور جرداء لا نبتَ ولا شجرَ، شهباء مشوبة بصفرة باهتة حتى لكأنها غيوم هائلة تجمّدت على الأرض. هكذا يبدو المشهد للوهلة الأولى. مشهد قياميّ لا يمكن أن يجري إلا في حلم. لكأن المكان نفسه يفقد صلابته كلّما اقتربنا منه ويتخفّف من مادّيته فتفقد الموجودات ألفتها لتتّشح بغلالة من القسوة والفظاظة.ا

في غور الأردن لا شيء يدلّ على وجود حياة سوى بعض مزارع الموز التي تبدو مثل بُقَعٍ خضراء محاصرة بالقحط والسُّخط في آن معا. مزارع الموز تبدو مصابة بالذعر. شجيرات متلاصقة متراصّة بعضها متداخل بالبعض الآخر كأنه يبحث عن حضن أو عن بعض من دفءٍ. بالقرب من تلك المزارع حدثت في ذات يوم تلك المعركة التي سيسمّيها العرب تبرّكا معركة الكرامة. دمٌ فلسطيني ودمٌ أردنيّ توحّدا ضدّ جيش الأعداء. إشراقةُ نورٍ باهتٍ في عتمة الليل العربي، التماعةُ نورٍ خافت لم تتمكّن رغم كلّ ما قيل حولها من محو ما حدث في شهر أيلول، أيلول الأسود سيّد الشهور وأقساها في زمان العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة.ا

على الطرف الآخر من الجسر الفاصل بين الأردن وأرض فلسطين التي صارت تسمّى حتى لدى العرب أنفسهم إسرائيل بعضٌ من حياةٍ توحي به أشجار أريحا الصابرة ومزارعها التي تبدو مثل بقع خضراء رُمِيتْ في المكان صدفة واتّفاقا. كنا نتقدّم باتجاه فلسطين، الحلم العربي الذي ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيها الكرامة العربيّة مجرّد ذكرى، وتصبح الشعوب العربيّة مثل الهَوَام لا أملِ ولا فرحِ ولا نسمةً من حياة.ا

فلسطين لم تعد موجودة على خارطة العالم. لقد تمّ محو الاسم. حدث فعل استبداله. ونحن لا نتقدّم باتجاه بلدٍ بل نمضي إلى حلمٍ شرسٍ مروّع أو باتجاه وهْـمٍ. المكان لا يملك تحت الشمس غير اسمه. واسم فلسطين قد تمّ محوه من خارطة العالم، تم محوه من المعاجم ودروس الجغرافيا حتى لدى بعض المؤسسات الحكوميّة العربيّة المجيدة. لكن الاسم احتمى بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل. وطوبى للحزانى.ا

*  *  *

مشهد خلفيّ يشبه المهزلة: عندما ذهبت إلى السفارة الأردنية طلبا لتأشيرة العبور إلى الأشبار المحرّرة من أرض فلسطين كانت نبيلة معي. على شبّاك مكتب الاستقبال وضعت ورقة تحمل البشارة للمواطنين العرب بأن سعر التأشيرة قد تضاعف مرّاتٍ. أشارت نبيلة إلى الخارطة وهمست: إنك تذهب إلى بلد غير موجود على الخارطة، إذا ضعت كيف أبحث عنك في مكان لا يوجد على خارطة الدنيا؟ لم أفهم ما قَصدتْ، فأشارت إلى الجهة اليسرى. على الجدار عُلِّقتْ خارطة ترسم حدود بلدان المنطقة: العراق الأردن سوريا لبنان إسرائيل مصر. قلت لها مداعبا: هذا خطأ مطبعي. فغضبتْ. قلت: اسمعي نحن أمّة ذات رسالة عظيمة حتما سنستردّ أمجادنا في نهايات الزمان، وسنسود العالم من جديد. إن غدا لناظره… هكذا جاءتني الإجابة. قاطعتها قائلا: عندما يحين الحين و يأتي زماننا سنسمّي أمريكا أرض الرجال الحمر أسياد الدنيا، ونعينهم على طرد الرجل الأبيض زارع الخراب. وسنسمّي المكسيك بلاد المايا والأزتيك. سنثأر لأنفسنا من روما التي روعّت أطفال قرطاج، وسنستورد من السماء حكّاما عربا عادلين  يملأون بالحلوى والأقلام الملوّنة جيوب الأطفال ولا يأكلون اللحم العربي نيِّئاً… في المساء  رفضت أن  تعود معي لاستلام جواز السفر وادّعت أنني أخطو باتجاه خيانةٍ ما. دخلت السفارة وحيدا بعد أن آليت على نفسي أن لا أنظر إلى الخارطة. ونجحت في تحقيق هذه البطولة التي ستنضاف إلى أمجاد العرب العاربة والعرب المستسلمة.  خيّل لي أن موظّف السفارة يبتسم لي فابتسمت له.ا

*  *  *

الحافلة تواصل التقدّم ودرجة الحرارة تزداد ارتفاعا. كنت على يقين من أننا لا نمضي إلى مكان بل نتقدّم باتّجاه حلمٍ له كلّ مواصفات الكابوس. هي ذي… هي ذي فلسطين. الأرض المقدّسة التي برعت في أكل لحم أبنائها المتسابقين إلى الموت. مكان غدر به الزمان. مكان يلتقي فيه يوشع بن نون مع العمالقة من الكنعانيين وربّه إله الجنود يستحثّه في نبرة ساديّة مروّعة على إراقة الدم وقتل النسل وإحراق الزرع. لحظة ويحطّ البراق على حائط المسجد الأقصى وتنفتح السموات. فيكون إسراءٌ. ويكون معراجٌ والنجوم تترجّل في ساحة الأقصى. لحظة أخرى ويأتي يهودٌ من شذّاذ الآفاق يهزّون الرؤوس مثل قردةٍ مخبولةٍ بقرب الحائط الذي سيدّعون أنه أُعِدَّ لبكائهم ولتجميع دموع التماسيح في الأرض قاطبة.ا

ريتشارد قلب الأسد يعبر البحار مدجّجا بالضّغينة. صليبيون جاؤوا وأبادوا الناس في عكّا.  توني بلار والعجوز الشمطاء أولبرايت التي اكتشفت ذات صباح أنها من نسل يهوذا تأتي هي الأخرى. صلاح الدين الأيوبي العابر من جبال الأكراد على فرسٍ صارع الريح والنوء يأتي منقذا ومخلّصا. دمُ محمد الدرّة وصمة في ضمير العرب شعوبا وقبائل, حكّاما وسلاطين, هُزْءا ورُزْءا وأشياء أخرى. الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يخرج للتوّ من مقصورة في الأقصى ويمضي باتجاه دمشق. عبد الغني النابلسي هنا أقام، هنا درّس قبل مجيء اليهود بقليل. المغاربة ببرانيسهم الصوفيّة جاؤوا من شمال أفريقيا وخلعوا اسمهم على باب من بوابات الأقصى.ا

يوحنّا المعمدان يكرز في البرّية قائلا تُوبُوا لأنه اقترب ملكوت السماء، أليعازر ينهض من القبر، يوسف النجّار يسوق حمارا مكدودا ينشد الوصول إلى أرض مصر كي يتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل من مصر دعَوْتُ ابني. عمر بن الخطّاب يترجّل عن فرسه الآن وكبير مطارنة كنيسة القيامة يدعوه للصلاة في كنيسته فيبادله كرما بكرمٍ. صوت في الرامة نوح وعويل رَاحِيلُ تبكي أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين. هي ذي فلسطين إذن. هو ذا المكان. مكان غدر به الزمان. وللفلسطيني أن يدفع الثمن دماً ودموعاٍ. ولنا نحن المقيمين خارج فلسطين أن نسمّي ذلك بطولة كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير. وطوبى للحزانى!!!ا

  عبــور الصّــراط : جسر الملك حسين

جسر على نهر الأبديّة. جسر تسيل تحته مياهٌ ضحلةٌ ضاربةٌ إلى الصفرة. هو ذا نهر الأردن. جسر خشبيّ كأنه خربشة بقلم رصاصٍ على ورقةٍ منزوعةٍ من كتاب قديم نهشته الأرَضَةُ دهْراً. جسر متواضع في منتهى التواضع. طوله عشرة أمتار أو أقلّ. وعرضه بالكاد يتجاوز المترين. في وسطه، في وسطه بالضّبط، رُسِمَ بالطلاء الأبيض خطّ هو الحدّ الفاصل بين الأردن وفلسطين القابعة في الأسر. والخطّ الأبيض يضعك منذ الوهلة الأولى في حضرة عدالة ابنة صهيون الضالّة التي أعطت للأردن نصيبَه من هذا الجسر وأخذت نصيبها. نحن في حضرة قسمَةٍ عادلة تشبه جميع المهازل في هذا الليل العربي المُثقَل بالمكائد وخسران العرب أجمعين. من جديد تأتي التسميّة لتشرع في حبك مكائدها. جسر الملك حسين يقول الأردنيون والعرب. جسر اللنبي تقول ابنة صهيون والعالم من ورائها. قد يصبح بعد التسويّة الشاملة إن تمّت “جسر الملك حسين واللنبي.” ووقتها سيضطلع حرف الواو بأشدّ أدواره وساخة في تاريخ اللغة العربيّة. سيضعنا في حضرة مصالحة مخزية كأيّامنا.ا

على يسار هذا الجسر الخشبي الهرم الذي رأى الويلات كلّها، وشهد وصول الانجليز والأمريكان، ورأى وصول اليهود شذّاذ الآفاق، ورأى خيانات الحاكم العربي وهجْرات الفلسطنيين في اتجاه بقاع ستسمّى مخيّم اليرموك، مخيّم فلسطين، مخيم صبرا، مخيّم شاتيلا، مخيّم الوحدات مخيم عين الحلوة، ثم تصير المخيّمات مُدُناً من إسمنت رماديّ ضارب إلى السواد؛ تصير المخيّمات أحلاما بعودة تزداد استحالة كلما انضاف إلى الزمن العربي ليل آخر -على يسار هذا الجسر المقفل بالوجع ربّانيا-  ثمّة أشغالٌ حثيثة.ا

جرّافات، شاحنات، أعمدة حديديّة ضخمة. تلك تباشيرُ هبات السّلام. تلك ثمار الاستسلام. مرّة أخرى تأتي التسميّة مُحمَّلّة بالمكائد. لكن الجذر اللغوي نفسه يفضح ما بين الكلمتين من إنابة ومداورة ومخاتلة. وطوبى لصانعي السلام. مطلوب منا أن نهلّل ونفرح نحن العرب الواقفين على شفا الهاوية. علينا أن نفرح ونهلّل فسيقع استبدال الجسر الصغير، الجسر الخشبي الذي هدّته السنون والويلات تتوالى تباعا، بجسر عظيم كبير ضخمٍ فخمٍ يسرّ الناظرين ويملأ بالبهجة قلوب العابرين إلى أرض كانت تسمّى فلسطين. سيقام جسر يليق بالعلاقة الحميمة التي ستنشأ بين العرب ودولة إسرائيل.ا

 ولنا أن نتخيّل المشهد في المستقبل. ستتوالى الخيرات من هناك من تلك الأرض التي كانت تسمّى فلسطين عسلا ولبانا ومرّا. سيعمّ الخير والرفاه بلاد العرب من البحرين حتى أقاصي بلاد شنقيط موريتانيا العظمى، وستنال الصحراء الغربيّة نصيبها من الغنيمة أيضا. وعلى العرب أن يفرحوا. عليهم أن يهلّلوا للصدقات إسرائيليّة هذه المرّة. ولهم أن يبتهجوا بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات. وكافرٌ كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.ا

غريبٌ أمر هذا الشعب الفلسطيني لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة. مدهشٌ أمر هذا الشعب الفلسطينيّ الذي شهد أسلافه خطوات المسيح على جبل التجربة، ورأوا يوحنا المعمدان وعلى حقويه منطقة من جلد وهو لا يتغذّى إلاّ بقليل من الجراد والعسل البرّي. غريبٌ ومدهشٌ أيضا أمر هذا الشعب الذي سمع أسلافه ذات ليلة حفيف أجنحة البُراق وهو يحطّ خفيفا على سور الأقصى والدنيا تضيءُ. تلك حيل المتخيّل الجماعي وذاك طابعه المقاوم. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بذاكرته المنقوشة في المكان. أزمنة متراصّة مكثّفة. هي ذي فلسطين إذن: زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات، أقاصيص وملاحم، سماء تنفتح في وجه الأرض، أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير. ثم يلتقيان. الأرض والسماء يغدوان واحدا.ا

* * *

مكـــانان

بنـــايتان

مدخلان

 والطريق إلى أحشاء الوحش على مرمى حجرٍ. ومثلها الطريق إلى الحلم العظيم، الحلم الضاري الذي نسمّيه فلسطين.ا

* * *

  البناية الأولى متواضعةٌ كأنها وضعت للتوّ على عجل. على مدخلها كتبت لافتة: القادمون إلى السلطة الفلسطينيّة. البناية الثانيّة فخمة عالية عليها لافتة بالعبريّة أعدّت لاستقبال الدنيا والمُطبّعين العرب نسلُ يَهُوذا. منذ الوهلة الأولى تبدأ المعركة إشاريّة ورمزية. البنايات تحدّث، والمداخل تحدّث، والمكان يحدّث بأن العدالة قد فُقِدت من الأرض تماما، والسلام هو التجسيد الفعلي للاستسلام. وهو صنوه وسميّه ووجهه المروّع الفاجع. نتخطّى العتبة فيصبح الطابع الإشاري أكثر عنفا. شبابيك ونوافذ. ناسٌ من الفلسطينيين ينتظرون إذنا بالدخول. نساء يرتدين السواد خَفَراً وحشمة أو حدادا. أطفال في الزاوية واجمُون لا يلعبون. ثمة دكّان صغير شبه مقهى أو شبه مشرب.ا

الدينار الأردني يختفي وصورة الملك حسين تغيم تماما. ويطلّ الشيكل برأسه الإبليسي. عمْلَةُ عبدة الذهب نسل ميليكداس. ثمّة شيء يطبق على الروح كالدوّار. شبابيك ونوافذ. وراء كلّ شبّاك يجلس أحد رجال الشرطة من الفلسطينيين العائدين مع اتفاقيات أوسلو. يجلس الشرطيّ الفلسطيني الذي كان فدائيا محاربا داخل زِيِّه الكُحلي مُتْعبا مكدودا. وبجانبه مُجَنَّدَةٌ صهيونيّة شابّة تجلس مرتاحة في جسدها. مطلوبٌ أن تسلّم جواز سفرك وتصريح الدخول إلى الشرطي الفلسطيني. وهو بدوره يتولّى الحكي مع ابنة صهيون المجنّدة. لكأن الشرطي الفلسطيني يحرص على تجنيبك ويْلَ التعامل مع نسل الحيّات. درعٌ واقيةٌ هُوَ، أو غلالةٌ مضللّة. ثمّة في العيون غيض مكتوم. في عينيها حقد شيطاني؛ وفي عينيه وعيدٌ ربّاني. هنا يجلس الفلسطيني الضحيّة ومعه تجلس جنديّة من الجلادين. الدّمُ وسافكُهُ. المقتول والقاتل.ا

بنتٌ تمثّل السيادة الاسرائيليّة المستندة إلى الحديد والنار والجريمة وأمريكا وساديّة الحاكم العربي. شرطيٌّ فلسطينيٌّ لم يصدّق بعد أنّ آلاف الضحايا وقوافل الشهداء في المدن العربيّة وعلى الحدود مع ما كان يسمّى الكيان الصهيوني قد رحلوا سدى. لم يصدّق بعد أن الحلم العظيم صار كابوسا فظيعا. الشرطيّ الذي كان فدائيّا مخفورا بالأغاني الثوريّة، الشرطيّ الذي كان مقاتلا تَهابُهُ الدنيا يجلس الآن مذهولا ويرحّب بالإخوة العرب. “أنت من تونس الخضراء يا هَلاَ!” ‌‍قلت: “إنها تصفرّ الآن حتى لكأنها مصابة بالتهاب الكبد”.ا

*  *  *

الشرطيّ الذي كان بالأمس القريب فدائيّا يخطو باتجاه الحلم أُلُوهيا وربّانيا لم يفقد الأمل تماما. ففي عينيه المكدودتين يتراءى الأمل معجونا بالتّعب وحاجة الأطفال إلى القوت. لقد كان في تونس، جاءها في سفينة حرص رُبَّانُها على أن يضيف للأوديسيا فصلا فاجعا لا يمكن لهوميروس نفسه أن يتخيّل عنفه. حتما لم يكن الربّان وهو يرسي السفينة على شاطئ مدينة بنزرت التونسيّة يدري بأنه كان يدوّن في سجّلات خسران العرب ونكد أيّامهم يوما آخر له مذاق النوح وطعم النحيب. الشرطي الفلسطيني الذي تسلّم جوازي، صديقي هذا الدِّرع الواقية، هذا الغلالة المضلّلة، كان قبل ذلك في عَمّان ورأى قمر جرش في شهر أيلول يهوي من السماء ملطّخا بالدم أحمر زهريّا. القمر ذاته رآه في بعلبك وبيروت وتلّ الزعتر محاطا بالدم مظلما لا ينير.ا

 هذا الفدائيّ الذي ارتدى زيّ الشرطة، يعلم أن الطريق التي اختارها محمد الدرّة هي الطريق المؤدّية. ثمّة فسحة من أملٍ إذن. ففي اللحظة التي “استتبّ فيها الأمن”، في اللحظة التي صارت فيها الكرامة العربية مجرّد ذكرى بعيدة، في اللحظة التي أيقن فيها الحاكم العربي بأمر أمريكا أن الجماهير العربيّة غدت مثل الهوام لا أملَ ولا فرحَ ولا غاية، عاود الغضب الفلسطيني الظهور ليشير إلى الطريق المؤدّية.ا

 أرض أريحا الصــابرة 

اهذا جوازك تفضّل ومرحبا بك في فلسطين.” تحاول أن تردّ على تحيّة الشرطي الذي كان فدائيّا وصار الآن صديقا دِرْعاً واقية أو غلالة مضلّلة. لكنّ الصوت يخون. وجع اتّخذ من الجسد معبرا وتسلّل إلى عروق القلب. تكتفي بردّ التحيّة بحركة باتجاه القلب. يبتسمُ. تبتسمُ. هل هذا عبور الصِّراط. رجفةٌ… رعشةٌ… بردٌ يتسلّل إلى المفاصل… إحساسٌ بلا معنى الوجود أصلا… شعورٌ بالضآلة… شعورٌ بالعجز… دمْعٌ حبيسٌ يُثْقِل الصدر.ا

في الجانب الأيسر من البناية المتهالكة ثمّة قبالة المدخل باب ضيّق، باب ضيّق كأفراحنا ينفتح فجأة ونعبر. غسّان زقطان، المتوكّل طه، أذرع دافئة تحضنك. تنسيك لِلَحظةٍ أنك كنت تعبر الصراط. تكاد تنسى أنك صرت الآن في أحشاء الوحش تماما. “يجب أن نسرع، اصعدوا إلى الحافلة، اطلعوا في هذه السيّارة. يجب أن نسرع قبل أن تبدأ المواجهات. سنفتتح المهرجان بعد قليل افتتاحا رمزيا. يا هَلاَ! يا هَلاَ! مرحبا بكم في فلسطين شرّفتم فلسطين، سنهتم بالحقائب…”ا

هو ذا المكان: أرض أريحا. لم تعد الجبال مجرّد أشكال تتراءى في الأفق. إنها هنا جاثمة راسية كلسيّة رمليّة. ملحٌ وطينٌ. صُفْرَةٌ باهتة ضاربة إلى الرماد قليلا. الحرارة لا تطاق. والشمس مُزْمِعَةٌ فعلا على أن تحرق كبد العالم. جنديّ إسرائيلي مدجّج بالسلاح أشقر على وجهه بثور ورديّة وعلى رأسه قبّعة خضراء يغلق الباب الحديديّ. يصرخ السائق الفلسطيني في وجهه بالعبريّة لغة شذّاذ الآفاق المسروقة من الكتب واللغات والمتاحف. الجندي يغضب. ينادي جنديا آخر بشرته البنّية تدلّ على أنه قادم من أثيوبيا. يأتي شاهرا رشّاشه. عصبيّا متوتّرا ظلّ يراقبنا تكاد شهوة الدم تستبدّ بروحه. يجري الجندي ذو الوجه الموشّى بالبثور ورديّة قانية اتصالا هاتفيا من جهاز معلّق على حائط مخفر المراقبة. ثم يفتح لنا الباب الحديدي الأصفر. نعبر. يشرع السائق الفلسطيني في شتم العالم ودولة بني إسرائيل. سباب وشتائم وغضب: “الجبناء، نحن نعرفهم وما نخافهم، أوغاد، حِلّوا عنّا. هلاَ ! هلاَ! بالاخوة العرب في أريحا. انظروا هنا وقعت مواجهات الأمس استشهد شابان… الملازم أيضا قتلوه أمام بيته، الملازم المكلّف بالتنسيق الأمني.. لو تأخّرت تصاريحكم إلى اليوم لما عاد بإمكانكم الدخول.. مرحبا نوّرتوا فلسطين هلاَ!!”ا

*  *  *

هي ذي أريحا. هي ذي أرض كنعان التي تفيض لبنا وعسلا. هي ذي أرضك أريحا وقد دارت الحياة دورتها. هي ذي أرض أريحا الصابرة. حين وصل إليها يوشع بن نون ليتجسّسها ويخرّبها ارتعدت فرائصه هلعا فحدّث عنها مرتعبا: “إنها تفيض لبنا وعسلا، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتزّ والمدن حصينة عظيمة جدّا، رأينا فيها أناسا طوال القامة فكنّا في أعيننا كالجراد وهكذا كنّا في أعينهم.” وللفلسطيني أن يفخر بأسلافه الذين ملأوا بالهلع قلب يوشع بن نون القادم من التّيه العائد إليه. للفلسطيني أن يفخر بأطفاله، فأن يختار طفلٌ موته، أن يمضي شابٌ لملاقاة دبّابات وعسكر ولا سلاح معه غير جسده وإصراره، فمعنى ذلك أن المقدّس فيه قد تجلّى.ا

*  *  *

المكان: أرض أريحا. والمشهد عبثيّ تماما. مشهد يليق بشريط سينمائي غرائبي لا يقدر حتى غودار المناصر لقضيّة فلسطين أن يتخيّله. أرض رمليّة كلسيّة صفراء. أرض أشدّ قسوة من صحراء. وفي الوسط بناية ضخمة عالية شاهقة تمتدّ بين السماء والأرض مثل لعنة ارتعدت لها فرائص الأرض. إنه كازينو أريحا. بعض منجزات السلطة الفلسطينية العائدة. الفلسطينيون لا يذهبون إلى هذا الكازينو. وتأتيه الجنسيات الأخرى لتتسلّى. قيل إنه يدرّ من الأموال ما يعين السلطة على تحمّل أعباء السنوات العجاف بعد أن تراجع الدعم العربي وشحّ المال والماء والأمل.ا

بيت الشعر بأريحا: افتتاح سريع. تمجيد للشهداء. تمجيد للشعر وسلطان الكلمة. احتفاء بنا نحن الاخوة العرب الذين عبرنا إلى فلسطين والدم يراق شلاّلا وأرواح تزهق والعالم يتقن الفرجة. في اللحظة التي كنّا نفتتح فيها المهرجان افتتاحا رمزيا استشهد ثلاثة من شباب فلسطين على مرمى حجر من القاعة. اختزلت الكلمات. وكانت القاعة مليئة بالناس. كنت على يقين من أنهم لم يأتوا لسماع الشعر والأدب والنقد، بل جاؤوا لأنهم اعتبروا دخولنا إلى فلسطين في هذه الظروف ذا طابع رمزي إشاريّ. كانوا يعتبروننا جزءا من الوجدان العربي. ولا يمكن للمرء في مثل هذه الحال إلا أن يشعر بأنه ضئيل عاجز عن تقديم أيّة مساعدة عمليّة.ا 

 ثمّة كآبة ما تخترق الجسد وتطبق على الروح. رغبة في البكاء، رغبة في النشيج تستبدّ بك حين ترى كم هو قاس قدر الفلسطينيّ في هذا الليل العربي الذي مافتئ يزداد كثافة ودياجير. وكم هي مهـيـبة رسالته. ولا تقدر أن تفعل شيئا عمليّا.ا

*  *  *

نحن في السيّارات من جديد وهي تمرق سريعة في الشوارع الخاليّة إلا من بعض عابري السبيل. على الجدران شعارات تدعو إلى المقاومة وتمجّد الشهادة والاستشهاد. هي ذي أريحا الصابرة. رائحة بارود وصوت سيّارات إسعاف. فجأة فندق فخم يقف قبالة سلسلة الجبال الراسيّة مثل كائن خرافي ينتظر فرصة الانقضاض على الدنيا لسحقها مزقا وغبارا.ا

قرية أريحا السياحيّة:ا

فندق ومنتجع صحّي.ا

شارع بيسان قرب قصر هشام.أريحا فلسطين.ا

Jericho Resort

Village

Hotel&Spa

Near Hisham Palace, Bisan St, Jericho-Palestine

فلسطيني صاحب الفندق. العمال فلسطينيون. الترحاب فلسطينيّ مشوب ببعض من كرم الأنبياء. والمواجهات تجري هناك بعيدا عن الفندق. نحن في أحشاء الوحش إذن. والطريق إلى رام الله يعبر من تلك الجبال الراسيّة. أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر. المكان رحم الدنيا. لعلّ الحياة بدأت هنا. حتما بدأت من هنا. كائنات بحريّة خطت باتجاه اليابسة حين شرعت المياه في الانحسار. وبدأ العنف تاريخه الدمويّ. كائنات بحريّة كانت تحيا في هذا المكان. هنا عاشت. هنا تناسلت. هنا نفقت… المكان خرافة مدوّخة. أن تنام في فندق يقع على عمق 350 مترا تحت سطح البحر والبحر قحط وخلاء: هي ذي أريحا المكان الشبيه بخرافة قادمة من ليل الدهور.ا

هي ذي أريحا بوّابة فلسطين. الاسم لم يُمْحَ من الأرض إذن. كما لن يُمْحَ من ذاكرة أطفالنا. لقد تمّ محوه في الخرائط والعديد من المؤسّسات العربيّة. على يقين أنا من أن الذاكرة هبة من السماء. ليست الذاكرة مجرّد ملكة تحفظ الوقائع والوجوه. إنها إدراك مقاوم لسطوة الموت وسلطانه. والنسيان صنو الموت وسميّه وقناعه. علينا أن لا ننسى أبدا. ولكم هو عظيم أن يمتلك المرء ذاكرة. وهذا هو الصراع في بعده الإشاريّ العظيم. يافطة الفندق. كارت الفندق نفسها فعل مقاومة. وللتسميّة مفعولات التميمة والبلسم. أريحا، فلسطين، قصر هشام. كان الخليفة هشام يأتي إلى أريحا شتاء وكان للعرب وقتها كرامة.ا

 يتامى نحن في هذا الزمان. وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. للمكان ذاكرة تحميه. وصانعو السلام يطالبوننا بالنسيان وحشيّا ضاريّا. لن ننسى. من أين للنسيان أن يجد طريقه إلينا. في هذا المكان أرض فلسطين المجلّلة بالدم المراق والغضب تبنى ذاكرة المستقبل، ذاكرة الأجيال، وستكون هذه الذاكرة مدوّنة إشهاد واعترافات. محمد الدرة سيظلّ يحدّث عن العنف وحشيّا، عن القتل نظاميّا، عن القهر ضاريّا، عن ظلم حكّام من ذوي القربى خرّوا ساجدين للأعداء. إن محمدًا يشهد ويحرس ذاكرة الآتي، وللاسم دلالته الرمزيّة.ا

*  *  *

الثلاثاء 3 تشرين الثاني صباحا. سدّوا المنافذ إلى رام الله. الطريق إلى القدس مغلقة هي الأخرى. عسكر ودبابات. “هناك طرق ومسالك ترابيّة سنسلكها. لابدّ أن نغادر أريحا قبل المواجهات، يجب أن نسرع.” الفلسطينيون رفاقنا كانوا حريصين على سلامتنا وهكذا استحثّونا. لا يجب أن نصاب بأي خدش في أجسادنا. لا يجب أن يطالنا أي أذى أو أي مكروه. سنغادر أرض كنعان وأجسادنا سليمة تماما. لكن لا أحد سأل عن الروح.ك

روحي صارت دياجير وظلمات. حزن صامت عميق يداخل شغاف القلب. إحساس باللاجدوى. ماذا يمكن للمرء أن يفعل. كيف يمكن أن يكون عمليّا وهو لا يتقن غير الكلمات. حتى الكتابة في مثل هذه الحال خيانةٌ ودنسٌ، خزيٌ وعارٌ. كنت أدوّن جميع ما أرى. جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها خلسة. حملت معي من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب. كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى، كيف يكتبه محاطا بهالته الأسطورية دون أن يقع في نقل الواقع أو وصفه وصفا إخبارياّ مسطّحا يُفْقِرُهُ ويلغي كثافته، كيف يكتب جانبه السحريّ الأسطوريّ المروّع. الحياة أقدس من النص، والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات لا سيّما إذا كان الفعل أسطوريّا رسوليا على النحو الذي نرى.ك

*  *  *

أريحا الصابرة!ك

                 سلاما.ك

 سلاما.ك

 لفندق جاور قصر هشام وأصرّ على أن يعرّف الجار والجيرة ويذكّر اليتامى من نسل هشام بأمجاد أريحا. وطوبى لنا!! طوبى للحزانى!!! طوبى لثعالب الأرض نائحة على ثعلب الصحراء الذي دنّس بأمر أمريكا اسم الفصيلة كلّها.ك

الطــريق إلى رام الله 

الوجهة رام الله. والجبال تزداد عتوّا عندما نتوغّل في الطريق الملتوية التي تخترقها. ليس طريقا هذا الخيط الاسفلتي الذي يمتد بين ضلوع الجبال دوائر والتواءات بل هو ثوب حيّة رقطاء نسيته هنا في بدايات الزمان.ا

حتما تمّ تشييع شهداء يوم الأمس. بالزغاريد شيّعوهم. وبعد قليل أمهات واخوة  وأقارب وأصدقاء سينخرطون في نوح مكتوم، نوح اختار أن يكون سرّيا نكاية بابنة صهيون الضالّة. ثمّة في هذا البكاء السرّي رسالة خفيّة إلى العرب المستسلمة تريهم كيف يلقى أحفاد الأنبياء حتفهم. وثمّة داخل هذا كلّه إصرار على تدجين الموت وقتل فجائيته وإلغاء طابعه المتوحّش الضّاري.ا

*  *  *

أربكت الحواس كلّها والروح أثقلت بالليل.م

 مرّة أخرى صورة محمد الدرّة. أريحا! يا أريحا الصابرة! يا قصر هشام! يا صديقي الشرطي الفلسطيني الذي كان من قبل فدائيّا سلاما. لم أسألك في غمرة عبور الصراط حتى عن اسمك فمعذرة. معذرة وسلاما.م

*  *  *

الساعة التاسعة صباحا. الشمس ساحت في السماء ناشرة نورا أصفر ثقيلا. حالما تخطو خارج بهو فندق أريحا المتلفّت صوب قصر هشام تتلقّفك الأرض طينيّة صفراء كلسٌ وملحٌ وصفرةٌ. ويبدو المشهد قياميّا تماما. لو صَوّتَ في السماء بوقٌ لسلّم المرء بأن نهايات الدنيا قد حان حينها. شيء كالزفير المكتوم تحسّه في الهواء يصّاعد من الأرض التي خزّنت في ترابها الموات لهب شمس البارحة. وها هي الشمس ذاتها تعاود الظهور من جديد مُقِرَّةً العزم على الخطب العظيم ذاته: إحراق كبد العالم. ما رأيته البارحة بعد عبور الجسر- الصراط  لم يكن مجرّد وهم إذن. ها هي الشمس تطلع شاحبة نورها أصفر معجون بالرماد. وها هي أرض أريحا وَجِلَة مأهولة بالخطوب قادمة من ليل التاريخ. والجبال، الجبال ما زالت هنا. لَسْتَ مطالبا بأن تنظر إليها. هي التي تأتيك… هي التي تداهمك وتقتحم جسدك ضخمة عاتيّة جرداء لا نسمة ولا حياة. خِلْسَةً تنظر إليها كأنك تسترق النظر إلى وحش مرعب تخشى أن تستفزّه فيرتدّ البصر كسيرا.م

*  *  *

نصعد الحافلة “مرحبا.. نوّرتوا فلسطين.. هلاَ! هلاَ بالاخوة العرب.. الطرق مسدودة بالدبابات والعسكر.. سنأخذ طرقا ترابيّة.. أهلين! يا مرحبا!… سنسلك الطرق، الطرق الترابيّة… طرق وعرة قليلا.. بعد قليل ستبدأ المواجهات…” يرتفع صوت المحرّك وتضيع كلمات السائق فتصبح كالتمتمتة أو الوشوشة “اليـ..هـود… استشهاد.. ومستوطنون…”م

 نحن الآن على الطريق باتجاه رام الله. بدأنا نصعد من أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر باتجاه الدنيا. من العالم السفلي نصعد. الكلّ صامت. إنها مهابة المشهد. كانت الجبال تقترب. ها هي تزداد قربا. هي ذي تزداد قسوة وشراسة. أريحا بدأت تبتعد. بقع خضراء وبعض مبان. الكازينو يتراءى هو الآخر. لقطة من شريط سينمائي مدوّخ سيقف غودار مذهولا قدّام عبثيّة المشهد. أريحا صارت هناك. مذهلة ومدهشة تجربة الصعود هذه وأريحا هناك في الأسفل صابرة.م

*  *  *

  أريحـــا!م

 يا أريحا الصابرة. أحتاج قليلا من صبرك الربّاني فالروح محض عذاب. جسر على نهر. كازينو في أرض موات. قصر ينوح في السرّ ليلا على أمجاد من سكنوه. والشمس تعاود الظهور. رجفٌ يستبدّ بالأرض وليتَ نور القمر لا يضيء. طوبى لنا!! لكن من أين سيجد العزاء طريقه إلى الحزانى.م

*  *  *

ثمّة في تجربة الصعود هذه من أريحا إلى رام الله المتلفّتة صوب القدس، من العالم السفلي إلى الدنيا، شيء سحريّ يربك الحواس جميعها. قسوة الجبال، عظمتها، جدبها، عراؤها، هالة المهابة التي تجلّلها، كل هذا يجعلك تكاد تسلّم بأنك قفزت في العمى والكون لم يزل بعد سديما. بعد قليل، بعد برهة قد تنحني آلهة ما، قد يأتي ملاك ما، قد يتجلّى كائن أثيري ما ويقتطع من طين الجبال قسطا، حفنة أو حفنتين، ويبدأ التكوين. من هنا، من جبال أريحا يسهل الصعود إلى السماء. يكفي أن نحدّق قليلا وسندرك أن السماء تتكئ فعلا على هذه الجبال العارية من كلّ نسمة أو عشبة أو حياة. وليس غريبا أن يكون المعراج هنا من أرض فلسطين. ليس غريبا أن تنفتح السماء في وجه المسيح ويأتي روح الله نازلا عليه مثل حمامة وتدوي السماء بالصوت قائلا: “هذا ابني الحبيب الذي به سررت.” المشهد قاس ومروّع، فظاظة رقيقة، هشاشة صلبة، غلظة حانية، جبال صلبة مثل لعنة أبديّة، هشّة كجبال من الغيم الضارب إلى الصفرة، طين تجمّد: هذه هي جبال أريحا المتلفّتة صوب رام الله والقدس عروس المدائن ثكلى العواصم.م

*  *  *

الحافلة مكدودة تصعد من أشدّ الأماكن انخفاضا إلى قمم الجبال، الطريق يمتدّ ثـنيّة بين ضلوع الأرض. ثمّة شيء خرافي، ثمّة شيء إشاريّ مدهش في تجربة الصعود هذه، الجبال يمينا ويسارا مهيبة مجلّلة بالصمت والقحط، مسخوطة تبدو ومتحرّكة. يكفي أن يستسلم المرء قليلا لحواسه ويتملّى ما يراه دون أن يعَقْلِنَ المشهد وسيشعر بأنه في حضرة كائن أسطوري مروّع، كائن خرافي يتحرّك في ثقة وتؤدة وثبات باتّجاه كون أزمع على أن يهلكه. غير أن هذا الشعور سرعان ما يتراجع ويتحوّل الوحش المخيف إلى كائن خرافي مسكون بأسى لا يطفأ.م

 الأبديّة هنا في هذا المكان متوارية خلف غلالة شفّافة، غلالة في منتهى الرقّة، لو خدشنا الهواء الجاف قليلا لوجدنا أنفسنا هناك في الماوراء حيث نهر الأبديّة ودموع بني البشر أجمعين. جبل التجربة أحد هذه الجبال الواقفة في المهبّ ما بين المادي الصلب والأثيري الشفاف. على اليسار قليلا بناية بيضاء تبدو كأنها تتشبّث بالجبل، بالكاد تتماسك ولا تسقط. إنه دير قرنطل المحتمي بجبل التجربة. دير صغير، دير معلّق يجاهد الأفول متلفّتا إلى الهاوية. لو هبّت نسمة من هواء لتداعى؛ ولكان سقوطه عظيما.م

الأبديّة متوارية خلف غلالة رقيقة حتى لتكاد تتراءى من خلال المكان من فجوات في الهواء. لا بدّ أن يكون يسوع المسيح قد عاش هذه اللحظة. لابدّ أن يكون هذا المكان موطنا للأنبياء ومرتعا لنجوم السماء. هي ذي جبال أريحا إذن: مكان محمّل بالاشارات، غابة من رموز وإيماءات. لا يمكن للمرء أن يعبر من هناك ولا يرى بعضا من تلك الإشارات والإيماءات التي تملأ المكان قسوةً ومهابةً وهشاشةً. فالمشهد يربك الجسد ويدوّخ الحواس. وحيدا خاض يسوع المسيح التجربة في هذا المكان. ظلاله ما زالت في المكان مثل رَفّ جناح… جناح خُطَافٍ شهد فعال ابنة صهيون الضالّة فاتّشح بالسواد. بعد قليل سيدقّ اليهود لحمه بالمسامير صدئة. سيصعد إلى الجلجلة. وبعد قليل يوم الاربعاء 4 تشرين الأول سنة 2000  حين  نكون في فندق  “باست إيسترن” برام الله سيدخل شابّ فلسطيني فزعا ويخبرنا أن المستوطنين قد أمسكوا فلسطينيا ودقّوا المسامير ذاتها في جسده.م

هكذا يتّخذ الحلم طابع الكابوس ويلتحف بجميع سماته. يكفي أن يحدّق المرء قليلا في الجبال الجرداء، في صفرتها الشاحبة المعجونة بالرماد، في الكيفيّة التي تتماسّ بها ويتكئ البعض منها على البعض الآخر فيما هو يواصله، حتى يخيّل إليه أنها جبال متحرّكة، جبال تزحف باتجاه فلسطين تريد سحقها نهائيا ثم تطحن الكون بأسره. من هنا سينتهي العالم.م

وأحفادنا نحن العرب المطاردون والمقهورون الصابرون سيحضرون تلك اللحظة الجلل. لن تهنأ ابنة صهيون. ولن تخلد إلى الراحة أمريكا. فالدم صارخ في البرّية.م

صرنا في الأعالي، عبرنا الهاوية. حين تلتفت باتّجاه الجبال وقد صارت بعيدة تراها جبالا متحرّكة تحثّ الخطو وراءنا وهديرها المكتوم يطبّق الآفاق. يتغيّر لون الأرض. يصير التراب أحمر ضاربا إلى السواد قليلا. شجيرات زيتون هنا. شجيرات هناك. ولاشيء يشدّ العين على الطريق المؤدّية إلى رام الله التي تتفرّع عنها الطريق المؤدّية إلى القدس وبيت لحم وبيسان غير الحجارة. حجارة وصخور مرمية على الأرض مثل قطعان من الأغنام والماعز وصغار أبقار خرجت للتوّ من شكيمتها. أحجار من كل الأحجام. حجارة تكاد تغطّي أديم الأرض كلّه. لكأن الأرض زلزلت زلزالها. لكأن هذه الأحجار هي أثقال الأرض مقذوفة في العراء.م

هي ذي أرض رام الله. على قمم الجبال المجاورة يلمع قرميد المستوطنات. على كلّ الجبال المحيطة بالقدس مستعمرات بنيت بالطول لا بالعرض فصارت عبارة عن سور أفعواني ضخم يحيط بالقدس والقرى المجاورة لها. الكنعانيون القدامى كانوا يقيمون على رؤوس الجبال ويتّخذون منها دروعا وأحصنة، وها هي ابنة صهيون تسرق منهم طريقتهم في بناء المدائن والقرى. اتفاقيات أوسلو التي ترقد الآن في الرفوف كسيرة النفس مخذولة ككل أحلام العرب نصّت على ضرورة تفكيك هذه المستوطنات. ومنذ تلك اللحظة التي صافحت فيها الضحيّة قاتلها والمستوطنات تزداد اتساعا وتحكم الطوق حول القرى الفلسطينية متقدّمة باتّجاه القدس تريد خنقها.م

*  *  *

هي ذي فلسطين.م

 لا عسل ولا لبان ولا مرّ. وإنما هي حجارة منثورة وصخور تطلّ برؤوسها من الأرض لتشهد على قسوة المكان. يقال إن شمال فلسطين يشبه جنات من تحتها تجري الأنهار. لن نذهب إليها وتلك حكمة صهيون. من أين جاءت أرض رام الله بكلّ هذه الصخور، من أين أتت بكلّ هذه الحجارة. لكأننا في كوكب آخر. لكأن الأرض تحثّ بنيها على استخدام الحجر سلاحا. حين ترى هذا الكمّ الهائل من الأحجار منثورا على الأرض يداخلك الشكّ في أن انتفاضة الأقصى وانتفاضة يوم الأرض وكلّ الانتفاضات التي دوّخ بها الشعب الفلسطيني العالم ليست فعلا اختياريا أتاه شعب محاصر بالليل، بل هي تلبية لنداءات الأرض. تكاد تسلّم بأن الأرض تطرح كنوزها أحجارا وصخورا والفلسطينيّ يلبّي النداء. فالأرض هي التي ترجم ابنة صهيون الحاقدة بالحجارة. ليس الفلسطيني سوى وسيلة في معركة الأرض ضدّ غزاتها، وسيلة اتخذتها الأرض لترجم بأحجارها بنت صهيون الحاقدة. هذه الأرض المزروعة صخورا وحجارة، هذه الأرض المسخوطة هي نصيب الفلسطينيين من كلّ فلسطين. ولنا أن نفرح. لنا أن نهلّل. وطوبى للحزانى لأنهم عند الله يتعزّون.م

*  *  *

شارات مرور إرشاديّة: أورشليم القدس  بيسان- بيت شآن- رام الله. عسكر ودبّابات. يتقدّم الجند. يقومون بإشارات. فوهات رشاشاتهم موجّهة نحو الحافلة. يفهم السائق أن العبور ممنوع. يتراجع قليلا ويعود ثم ينهال بالسباب والشتائم: “أوغاد.. سفلة .. سنسلك طريقا ترابيّة… وحياة المصحف راح نمرق رغما عن أبيكم… هذا طريق القدس.. يلوّح في الهواء بقبضته.. رأيتم كيف نحيا… حياتنا معهم هيك.. كل يوم هيك..” تدخل الحافلة مسلكا ترابيا ملتويا وتشرع في الصعود والسائق ما زال يلعن أم اليهود وخالاتهم من الرضاعة والأمم المتحدة.م

هي ذي رام الله:م

مجموعة هضاب ملتفّتة حول حشد من المنخفضات. أشجار وطرقات وبيوت من الصخر. قبل اتفاقات أوسلو كان البناء ممنوعا. ترميم البيوت ممنوع هو الآخر. أما بعد الاتفاق فقد صار بإمكان الفلسطيني في رام الله أن يبتني تحت الشمس سقفا. من تداعى بيتـه للسقوط فبإمكانه أن يرمّمه ولا خوف عليه من الجند وباراك وشارون وإلوهيم ربّ الجنود آكلات لحم بني البشر. مجّد اسمك أوسلو!! وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. له أن يسير مخفورا بالدم وخسران العرب أجمعين. أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء!! هيكل وهمي ويهود مثل قردة مخبولة يهزّون الرؤوس فتضحك أمريكا.م

*  *  *

وصلنا إلى منطقة البيرة. بلدة متكئة على رام الله. بلدة تقع على خطّ النار. درع واقية لرام الله. بيوت من طوب رماديّ. بيوت وبنايات كتلك التي تراها في مخيّمات الفلسطينيين عادة ولست تدري هل هي كئيبة أم مقفلة بالوجع والأسرار. رفع السائق علم فلسطين، وعلّقه شرع العلم يرفرف حفيف أجنحة ووشوشات. في مدخل البيرة سيارة محروقة. “هاي سيارة أحد المستوطنين. الشباب أحرقوها أمس. جاء ليطلق عليهم نارا” قال السائق مبتسما. حجارة مرميّة هنا وهناك على الطريق الاسفلتي المغبرّ. أطفال لم يتجاوزوا السابعة من عمرهم يجّمعون الحجارة بالقرب من السيارة المتفحّمة.م

ثمانية أطفال، تسعة، لا، هاهو طفل آخر يأتي راكضا وهو يدحرج  إطار عجلة سيّارة. يضع الإطار قرب كومة الأحجار. ويهمس لرفاقه شيئا فينخرطون في ضحك طفولي عابث. أحد الأطفال استلقى على ظهره من شدّة الضحك وبدأ يفحص الأرض بقدميه. في الزاوية قدّام بيت متداع بابه مفتوح قليلا هناك بنيّة صغيرة على عتبة الباب تلبس مريلة صفراء وقفت تراقبهم. تفرك عينيها بيد. وبالأخرى تسوّي جديلتها. يطفح القلب بأسى مهلك صامت مبيد. لو أنه بإمكان المرء أن يوسّع بين جدران الروح مكانا لهذه البنيّة. لن أعرف اسمها أبدا. لن أراها ثانية. هذه حكمة أبناء صهيون. وهؤلاء أحفاد صلاح الدين نسل الأنبياء, والمقدّس فيهم قد تجلّى. الروح صارت خرابا. محمد الدرّة من جديد والدمع الحبيس يحزّ شغاف القلب. بالكاد ترى البيوت المتراصّة على جانبي الطريق. لكأنها ترقص في بحيرات من الدمع. الدمع حبيس والروح خرقة وصدأ. وطوبى للحاكم العربي جلاّدا وسفّاحا وأشياء أخرى.م

*  *  *

 الحافلة تعبر. أفهمنا السائق أنهم يعدّون لمواجهات ما بعد الظهر. دخلنا رام الله وشوارعها مقفرة إلا من بعض العابرين. الدكاكين مغلقة والإضراب عامّ. على الجدران شعارات تمجّد الشهداء، ملصقات نعي، ملصقات شباب خطفهم الموت فصاروا شهداء. شباب في زهرة العمر ينظرون إلينا مبتسمين. صور بالألوان لشباب مضوا في الشوط إلى أقصاه. فجأة فندق  “باست إيسترن” برام الله. شباب مسلّحون من فرقة الـ17 الشهيرة أمام الفندق يراقبون السيارات متحفّزين لأي طارئ. هي ذي رام الله. وغدا سيكون نهار آخر. سنمرق من وادي النار إلى بيت جالا، ومن بيت جالا إلى بيت لحم، إلى كنيسة المهد. سنزور بيوت العزاء في بيتونيا والبيرة ومخيّم الأمعري. وللحكاية أن تواصل نسج فصولها.م

درب الآلام

يوم الثلاثاء 3 تشرين الأول 2000 الساعة العاشرة صباحا. حين وصلنا قدّام مشفى رام الله. الشعب الفلسطينيّ كان هناك يذرع الساحة في اتجاه باب الخروج مجلّلا بالغضب. كان الموكب مهيبا. فلسطينيون من كلّ الأعمار. أطفال وشيوخ وشباب يتقدّمون واجمين. تنحّينا جانبا لأننا كنّا نتقدّم في الاتجاه المعاكس نريد الدخول إلى المشفى لعيادة الجرحى. الموكب مهيب ومروّع. هو ذا العلم الفلسطيني وقد غدا كفنا. على الأكتاف شاب في ربيع العمر مسجّى في الأسود والأخضر والأبيض والأحمر. هو ذا شهيد ثان. الكفن ذاته. الوجه مكشوف. والفتى الثاني، الفتى الذي خطفه الموت يبدو نائما مثل الفتى الأول تماما. الفلسطينيون يكفّنون شهداءهم هكذا. يتركون الوجه مكشوفا يواجه السماء. كأنهم يولّونه للسموات كي تراه، كي تحفظه، كي لا تنساه أبدا بعد أن ضاقت الأرض به. الموكب مهيب مروّع. شيء في قاع الروح يتفتّت. دمع حبيس يحزّ شغاف القلب. يرقص المشفى كلّه في بحيرات من الدمع الحبيس في عينيك. ستصوّر الجنازة وستتناقلها الفضائيات. هو ذا الموت فرجويا متوحّشا قاسيا فظّا بدائيا ساديّا همجيّا عاتيا ضاريا فاجعا. هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا باندهاش. إنها تأكل بنيها.م

في أروقة المشفى ومدارجه نساء يدارين الوجع.. أطفال جاؤوا لعيادة جرحاهم.. رجال.. شباب.. المشفى مليء بالناس. كأن الشعب الفلسطيني كلّه هنا يعود جرحاه. فيما الشعب الفلسطيني الآخر ذهب يشيّع الشهداء المقتّلين. شهداء قتلوا بالرصاص. ثم قتلوا بالصمت العربي. ثم قتلوا بلامبالاة الدنيا قاطبة. أنا على يقين من أن الانتماء إلى الجنس البشريّ جناية لن تغفرها السماوات. ندخل إلى غرف الجرحى.. المشهد يخلع القلوب.. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة رافقنا من غرفة إلى غرفة. في كلّ غرفة أسرّة. وعلى الأسرّة يرقد الشعب الفلسطينيّ جريحا. رام الله كلّها هنا. أطفال جرحى.. كهول جرحى.. شباب.. المشهد يخلع القلوب.. قوارير الأوكسجين.. خراطيم في الأفواه.. خراطيم تنتهي بإبر حادّة مغروزة في عروق الأذرع.. بعض الجرحى في حالة موت سريري…. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة شخص نشط متفان في خدمة ناسه وشعبه. لقد أنقذ العديد من الجرحى من هلاك محقّق. صارع الموت مرارا وغلبه أحيانا. كان يحدّثنا بفرح طفوليّ مشوب ببعض من حزن الأنبياء عن كيفيّات نجاحه في طرد الموت وإعلاء الحياة. ارتعش صوته حين تحدّث عن تلك اللحظات التي غلبه فيها الموت وافتكّ منه شابّا أو طفلا أو قطعة من بدن.م

 مكتب الدكتور موسى أبو حميد مدير المستشفيات. ندخل. يرحّب بنا نحن الاخوة العرب. يحدّثنا عن عدد الإصابات. “إنهم يريدون ترويعنا فيقتنصون الأطفال. لقد بلغت نسبة المصابين من الأطفال 52°/° ونسبة المصابين من الذين أعمارهم أقلّ من الثلاثين سنة 98°/°.” هكذا حدّثنا متوتّرا. تدخل ممرّضة شابّة حسناء. خفر وجمال تجلّله الأحزان. تعتذر وتهمس في أذن المدير شيئا مّا. “سنخبرهم في ما بعد هاي مصيبة. لا تخبريهم الآن. إنه وحيد والديه”. هكذا قال لها فخرجت مجلّلة بالوجع ذاته مخفورة بالبهاء ذاته. أرانا ما يسمّى الرصاص المطّاطي. رصاص حقيقي مغلّف بقشرة مطّاطيّة لا يتعدى سمكها ميلميترا واحدا. على كلّ رصاصة وضعت ورقة تحمل اسم المصاب الذي طاله الغدر.م

 حين غادرنا المشفى كانت الشمس في الأعالي قرصا أحمق عاجزا حتى عن القشعريرة والرّجف والأفول قدّام كلّ هذا الويل. لو كان في هذا القرص الناريّ الأبله بعض من حنان لانهار على الأرض وسحقها. متى ينتهي العالم؟ متى الدنيا تنتهي؟ الحياة فسدت. وهذا الكوكب الأرضي يمتلئ بالشرور والدياجير ويهوه ربّ الجنود يكشّر عن نابه الأزرق. لا يجب أن تنتهي الحياة إكراما للذين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة. أنا على يقين من أن أمريكا ستظلّ تدحرج العالم باتجاه الهاوية حيث لاشيء غير الموت وصرير الأسنان. فالصهاينة ومن ورائهم أمريكا وكلّ قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب يريدون أن يقنعوا الناس بأن الفلسطينيين هم الذين يحملون أجسادهم ويضربون بها الرصاص الصهيوني النائم في الرشاشات. وهم الذين يستفزّون الموت الغافي في الصواريخ والدبابات وقلب ابنة صهيون. وليس الجند المدجّجون بالضغينة والحقد هم الذين يقتلون الأبرياء قدّام العالم. شريك في الجريمة هذا العالم الذي يكتفي بالتفرّج على الدم العربيّ مراقا. ثمّة حرص على الإقناع بأن الفلسطيني يعاني من عقدة الحياة والجندي الإسرائيلي يخلّصه من تلك العقدة عندما يطلق عليه النار ويرديه قتيلا. وهذا هو منطق الإنسانيّة في مطلع الألفيّة الثالثة.م

اتفاقيــات تذروها الرياح

قبل رحيله إلى باريس بحوالي ثلاث ساعات وجّه إلينا الدعوة. وها نحن في الطريق إليه. “الختيار” يسميّه الفلسطينيون تحبّبا. وحين يغضبون أو يعتبون عليه يصبح اسمه ياسر عرفات أو عرفات فقط. لقب ولا اسم. ينادونه أيضا الأخ أبو عمار. ويحلو للبعض أن ينعته بالقائد الرمز أو السيّد الرئيس بحسب السياق والمقام. وبعد ما سمّي من قبيل السخرية السوداء بقمّة كامب دايفيد الثانيّة جاب “الختيار” الدنيا بلدا، بلدا. ذهب عند العرب الذين مازالوا يسمّون أنفسهم الأشقّاء (وحدث أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله في شهر أيلول ثم وارى رفاته في جرش. ثم جرجر الرفات وواراه في تل الزعتر. ثم امتلأ قلبه بالضغينة فمزّقه إربا وزّعها بالتساوي على العواصم العربيّة وخلد إلى الأمن والراحة. وكان أن قال الربّ لقابيل: أين أخوك؟ فقال: لا أعلم أحارس أنا لأخي.) زار “الختيار” ملّة النصرانيين والهندوس وملّة يقال لها ملّة المسلمين. دخل بلاد السند والهند والصين، ووصل ذات مساء حتى أقاصي أفريقيا السوداء؛ حتى نيلسون مانديلا الذي خبر في سجنه الويلات كلّها نصحه بالتريّث. فقفل راجعا إلى ناسه في غزّة والضفّة.ك

بناية متواضعة، خمسة طوابق. مدخل كبير قدّامه بعض الشباب يحملون رشّاشات ويبتسمون مرحّبين. باب حديدي يفتح. يدور الباب على صائره محدثا صوتا أصمّ. تمرق السيارات. الطابق الرابع. ندخل قاعة صغيرة. في الوسط ثمّة مائدة في منتهى الصّغر عليها منفضة سجائر. استقبلنا مبتهجا. جلس في وسطنا على تلك المائدة نفسها. وبنبرته المتهدّجة دائما حرص على أن يشكر الجميع ويشكر الأمة العربية. تفهم من كلامه أنه مبتهج بالانتفاضة لاعتقاده أنها ستسقط من جديد أقنعة ابنة صهيون الضالّة، فينكشف الجحيم المتكتّم على نفسه في صميم فكرة دولة بني اسرائيل، فالفكرة ذاتها مضرّجة بالويلات والشرور والدم المراق. كان يحدّثنا مبتهجا وهو على يقين من أن صورة محمّد الدرّة وحدها كفيلة بأن توقظ في الدنيا بقايا من إنسانيّة. لكنه سيمضي إلى باريس. ومن باريس يشدّ الرحال إلى شرم الشيخ. من شرم الشيخ سيعاود الرحيل مكدودا إلى قمّة جمعت ما تبقّى من العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة. ومن هناك سيعود منكسر النفس إلى ناسه وبلده. فالعالم بأسره قرّر أن يكتفي بالتفرّج على الدم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قيامي مروّع باتجاه المقابر. وطوبى للحاكم العربي سفّاحا وأمّيا وأشياء أخرى. ومجّدت أمّة العرب. فهذا زمن الموظّفين وأمريكا. جاء جيل الموظّفين ليسود ويحكم ويمضي بالعربة حثيثا باتجاه الهاوية. “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت.” وطوبى للحزانى. مُجّد اسمك أوسلو. مُجّد اسمك أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء.م

في البناية ذاتها استقبلنا أبو مازن. تحدّث طويلا عن المفاوضات والمواقف الصلبة التي أبداها المفاوض الفلسطيني. لم أفهم إلى الآن ماذا قصد الأخ أبو مازن بقوله: “إن الدول تبنى بالمحاكم. ونحن الآن بصدد إعداد قانون وتأسيس محكمة فلسطينيّة.”  كان ذهولي عظيما لا سيّما أنني لا أفقه في تأسيس الدول شيئا يذكر. أنا المنتمي إلى هذا الجيل المكلّلة أيامه جميعها بالسواد وطعم النحيب أشهد أنني لم أفهم. وأشهد أنني أعرف أن المفاوض الاسرائيلي سيظلّ يفاوض مستحضرا مكر ابنة صهيون التي دوّخت السماء من أجل بقرة صفراء فاقعٌ لونها. فما بالنا إذا كانت المسألة تخصّ الأرض والربح والغلبة والقهر. المفاوض الصهيوني يدرك تماما أن المسائل التي يتفاوض في شأنها مع السلطة العائدة كثيرة متنوّعة. فإذا استغرقت كلّ نقطة عشرين سنة من التفاوض، سيعود المسيح في نهايات الزمان وسيجد المفاوضات مازالت في بداياتها. والمستوطنات قد وصلت حتى بلاد شنقيط موريتانيا العظمى وسحقت جزيرة العرب نفسها. مُجّد اسمك أوسلو. وطوبى لأمريكا! طوبى للجريمة. طوبى للعواصم العربيّة ثكلى مكلّلة بعار لن يطفأ الدهر كلّه.م

*  *  *

اتفاقات تذروها الرياح زبدا وطواحين ريح. وفي رفح شباب يواجهون العسكر بالحجارة ويقتلون. في الناصرة والجليل وفي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله والبيرة، المشهد ذاته في قلقيلية وطولكرم. حجر يواجه دبّابات ومروحيات، في غزّة وجنين ونابلس. غضب وحجارة في كلّ فلسطين… دبّابات وحجارة.. عساكر.. جنائز تسير خببا باتّجاه المدافن. نسمة من جنوب لبنان المتلفّت باتجاه شمالك فلسطين.. نسمتان ونرجس:م

الإمام علي بن أبي طالب لم يدفن. على فرس أبيض ما زال يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. كان الإمام فارسا بطلا صنديدا دوّخ جند الأعداء. سيفه كان بتّارا. في ساحات الوغى كان الإمام علي يضرب الفارس فيشطره هو وفرسه شطرين ويتوغّل السيف في الأرض يكاد يبلغ منها الرحم والأحشاء. كانت الأرض تألم وتتوجّع ويصدر عنها صوت كزفير الجحيم وهي تتوعّد الإمام قائلة: “يأتيك يومك يا عليّ.” الأرض كانت قد أضمرت شرّا عظيما، وأقرّت العزم على أن تثأر لنفسها منه يوم يموت ويقبر في ترابها. قتل الإمام وهو يصلّي صلاة العشاء. قتل غيلة. فكان أن بكاه أهله والمسلمون والدنيا أصابها رجف وسمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب.م 

 وكي لا يتمّ ما به توعّدت الأرض الإمام، كي يدرأ الشرّ الذي أضمرته، كفّنوه ووضعوه على سرج فرسه. فانطلق الفرس الأبيض يسابق الريح خفيفا كفرس من أثير معجون بالنور. الفرس سيظلّ يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. والإمام لن يترجّل إلا يوم القيامة. فيكون عدل؛ وتبدأ الحياة الأبدية؛ والموت يموت ذبحا. كانت الزهور والورود كلّها قد خلقت في الأيّام الستّ الأولى التي ابتدأ فيها الخلق. النرجس لم يكن من بينها. خلق النرجس بعد مقتل الإمام. أزهار النرجس صارت تنبت في مواضع حوافر فرس الإمام الشهيد. كلّ نرجس الدنيا هو البشارة، وهو الأمارة على أن الفرس ما زال يجوب الأرض ملتحفا بالغياب يتراءى وبالكاد يرى.م 

هكذا حدّثوني عندما كنت طفلا. وأنا رأيته، رأيت الفرس يمرق في الأيام الشتائيّة الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا، كثيرا ما كنت أراه. هذه حيل المتخيّل الجماعي في تمجيد الحقّ ومن ناصروا العدل. ولكني رأيته في طفولتي يمرق بين الهضاب والجبال. ويبدو أنه كان هناك في جنوب لبنان يوم ابنة صهيون الضالّة هربت لا تلوي على شيء.م

بيــوت العـــزاء

وصلنا إلى البيرة بعد الظهر عبر طريق ترابيّة وعرة. حفر ومطبّات. سيّارات وشاحنات وجراّرات أرغمت كلّها على أن تتسلّل إلى حاجاتها ووجهاتها عبر هذه المسالك الترابيّة. وهذا جزء من حكمة ابنة صهيون وعدالتها. خيمة كبيرة سويّت على عجل. أعمدة خشبيّة كسيت بالأبيض والأحمر والأسود، خيمة مستطيلة تتوسّط البيوت تحتها ناس كثيرون. هو ذا الشعب الفلسطيني يتقبّل التعازي. أب مثقل بالهمّ يداري الوجع ويصافحنا محتفيا بالاخوة العرب. أب فقد طفله البارحة وجلس اليوم هنا يتقبل التعازي. “شرف لي أنني قدّمت ابني فداء لفلسطين ولكرامة الأمّة العربيّة.” هكذا ظلّ يردّد وهو يصافحنا ويتقبّل تعازينا. عيناه زائغتان. على ملامحه مسحة من ذهول. وتلك ضراوة الموت. ذاك طابعه الكاسر المتوحّش. الأب لم يصدّق بعد أنه لن يرى طفله ثانية أبدا. لم أرفع رأسي كي أرى الملصق. لم أجرؤ على النظر إلى صورة الشهيد. هنيهة،، برهة،، رعشة في المفاصل وتستجمع بقيا من صبر. ترفع عينيك إلى الملصق. طفل عمره 13 سنة. صورة بالألوان والطفل يبتسم. ألوان علم فلسطين. لم ترتجف يد قاتله. تقرأ في أسفل الصورة الشهيد البطل محمد نبيل علي حامد. تدوّن الاسم خلسة كي لا تخدش مهابة الموقف. الذّاكرة ازدحمت بالتفاصيل والويل وقد أنسى الاسم لا سيّما أن أغلب الأطفال الذين سقطوا يحملون اسم محمد. دوّنته خلسة. قتل الطفل ولم ترجف يد قاتله. القنّاص الذي أرداه قتيلا برصاصة في الرأس لا بدّ أنه يحتفل الآن بأمجاده وبطولاته. نغادر المكان في صمت. نحثّ الخطو كأننا نبتعد عن مكان الجريمة. كأننا شركاء فيها. كأننا مورّطون. يكفي أن تكون هنا؛ يكفي أن تعيش مهابة الموقف وترى فظاعة الفقد في عيني الأب الثاكل؛ يكفي أن ترى الهالة التي تحيط بعيني الطفل القتيل الذي ظلّ يرقبنا من الملصق مبتسما؛ يكفي أن تتخيّل روحه وهي ترفض أن تأخذ طريقها إلى مملكة الموت لأن الصبيّ لم يستكمل بعد ألعابه وضحكاته وشيطنته على مقاعد الدرس- يكفي أن تأتي وترى- حتى تشعر أنك مورّط في هذه الجريمة.م

كانت الشمس قد مالت إلى الغرب قليلا وشرعت ترسل خيوطا صفراء فاقع لونها حين وصلنا إلى بيت على منحدر في بيتونيا. فلسطينيون هنا أيضا. الشعب الفلسطيني جالس على كراس يتقبّل العزاء. الأب في الوسط مجلّل بحزن لا يمكن أن يطفأ. نقدّم التعازي. ثم نجلس. الكراسي بالكاد تتماسك فوق الأرض. لافتة كبيرة مثبّتة على عمودين خشبيين كتب عليها: حركة فتح تنعى بكل فخر واعتزاز شهيدها البطل محمود إبراهيم العموسي. شاب بيده فناجين وإبريق يقدّم لنا القهوة مطيّبة بالهال. في مخيّم اليرموك بدمشق تعلّمت من الأصدقاء الفلسطينيين أن من لا يرغب في الاستزادة من هذه القهوة المرّة  يجب أن يمسك الفنجان بإصبعين، السبابة والإبهام، ويحرّكه يمنة ويسرة فيفهم الساقي المضيّف أنك أخذت كفايتك. وإن لم تفعل فإنه سيظلّ يملأ فنجانك كلّما انتهيت من احتسائه. فيما كنا نغادر المكان وصل شباب من قوة الـ17 ليؤدّوا واجب العزاء فالشهيد محمود العموسي رفيقهم في السلاح عمره 23 سنة وقد استشهد الليلة الماضية على الساعة الواحدة والنصف. عندما صعدنا الحافلة بدأ السائق يناور كي يديرها فكادت تهوي في المنحدر. لو فعلت لكان سقوطها عظيما، ولابتسم يهوه في الأعالي نكاية وشماتة بالاخوة العرب الذين قدموا إلى أرض كنعان  فيما أحفاد الكنعانيين والنبيّين من الفلسطينيين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة وتمجيدا للحياة.ك

*  *  *

شعاع،، شعاعان،، قرص أصفر في غاية البلاهة يختفي يسيرا يسيرا وراء الهضاب. الشمس غابت تقريبا حين وصلنا إلى مخيّم الأمعري المأهول بالرفض والإصرار. على الجدران شعارات تمجّد حركة فتح… شعارات وقّعها أنصار الديمقراطيّة والشعبيّة والجهاد وحماس تذكّر بالكفاح المسلّح طريقا إلى فلسطين. شعارات تمجّد الشهادة والشهداء وتحقّر إيهودا باراك مجرما وشارون جزّارا وتدعو إلى تحرير كلّ فلسطين. شعارات تندّد باتفاقيات أوسلو وبالسلطة العائدة للتوّ من تيه دام دهرا في بلاد تسمّى المشرق العربي والمغرب العربي.. شعارات تندّد بالأنظمة العربيّة المتخاذلة.. شعارات أخرى تتوعّد بالويل والانتقام كلّ من تسوّل له نفسه أن يروّج المخدّارت.ك

 بعد أن ترجّلنا من الحافلة في مدخل هذا المخيّم المليء بالحياة صاخبة هدّارة مفتوحة على كل الاحتمالات وصلنا إلى مركز شباب الأمعري. ناد رياضي واجتماعي وثقافي للمخيّم. داخل ملعب كرة سلّة فسيح وواسع جدّا حتى لكأنه على استعداد في كلّ لحظة للتحوّل إلى ملعب كرة قدم وضعت الكراسي تحت الجدران المحيطة بالملعب. وعلى الكراسي جلس الشعب الفلسطيني واجما. هي ذي اللافتة المحتفية بالشهيد. هو ذا الملصق وقد ذيّل بالعبارة ذاتها، بالتميمة ذاتها: مخيّم الأمعري ينعى الشهيد البطل عماد عبد الرحمان توفيق العناني. عائلة الشهيد، الأب والاخوة اختاروا لهم مكانا في مدخل الملعب. تعاز. دمع حبيس. من مكبّر صوت يأتي القرآن مرتّلا. آيات تذكّر بأن الذين قتلوا أحياء يرزقون. شابّ ملتح وسيم أوقف آلة التسجيل ورحّب بنا في لغة عربيّة أنيقة موقّعة كالنشيد. ندّد بالصمت العربي والتواطؤ العالمي. وسّع المسافة الفاصلة بين الأنظمة العربيّة وشعوبها ” الشعب العربي من المحيط إلى الخليج معنا.. لسنا وحدنا.. الشارع العربي معنا.. نحن نعلم هذا ونحفظ الأمانة.. لسنا وحدنا.. لسنا وحـ…ـدنا.” هكذا اختتم كلمته. عاد صوت المقرئ. بعد قليل سيتفرّق الجمع وستخلو عائلة الشهيد إلى الوجع ربّانيا.ك

 حين غادرنا مركز شباب الأمعري كان سيف الرحبي يمشي مذهولا ويهمس: “العدم الضاري ..العدم الضاري.” أنا سمعته ورأيته يجرّ الخطى مذهولا. من خلل الغيم المتناثر طلع قمر أصفر باهت الصفرة وبدأ يتسلّق السماء متعبا مكدودا. الفلسطينيون أحفاد الكنعانيين والنبييّن يعلمون علم اليقين أن يهوه مقرّ العزم على إبادة الحياة وعلى إفسادها وتحويلها إلى جحيم. وهم على يقين أيضا بأن يهوه يستدرج الحياة إلى الهاوية. وها هم يتسابقون إلى الموت لأنهم مؤتمنون على استمرار الحياة. من هنا تستمدّ المواجهة في ديارهم عنفها المدوّخ الضاري.ك

فلسطين يا بيت العرب. ذات ربيع رحل أوكتافيو باز. كتب شعرا ثم رحل. لست أنا القائل بل هذا الشاعر الذي اسمه أوكتافيو باز هو القائل: “لا يجب علينا أن نترك التماسيح الكبيرة تصنع تاريخ البشريّة. إنني لا أستبعد الانهيار الأمريكي، فالتاريخ لا يمكن أن يتحمّل إلى ما لا نهاية هذا الالتحام الهائل بين الموت والموت. لذلك أدعو دول العالم الثالث إلى العودة إلى الجوهر، وإلى الوقوف وقفة واحدة في مواجهة الجحيم.” حتما لم يكن أوكتافيو باز يدري أن الفلسطينيّ سيقف في مواجهة الجريمة وأمريكا وحيدا. ومحمود درويش، الشاعر الذي كان طفلا يحسب أن البرتقال ينبت في الصناديق، سيحرص كما شعبه على الترحاب بالأصدقاء العرب، يلغي سفره إلى باريس ويستبقنا إلى رام الله ليرحّب بنا في فلسطين، وهو الذي أعلن أن الجريمة صنو أمريكا فكتب وبيروت تتّقد نارا وصبرا:ك

وحدنا نصغي لما في الريح من عبث ومن جدوى
وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقوديّة
يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا
نعسنا
أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا
وأمريكا لأمريكا
وهذا الأفق اسمنت لوحش الجوّ
نفتح علبة السردين، تقصفها المدافع
نحتمي بستارة الشبّاك، تهتزّ البناية، تقفز الأبواب،ك
أمريكا
وراء الباب أمريكا.ك

وادي النار، الطريق إلى بيت جالا المتلفّتة صوب بيت لحم 

الإضراب في رام الله مازال متواصلا. والمدينة تبدو مقفرة خلاء لولا أبواق بعض سيّارات الإسعاف تملأ المكان ولولة بين الحين والآخر، فيما تردّد المباني صدى الطلق الناري القادم من تخوم المدينة ومدخلها الرئيسي حيث الحواجز والمواجهات. على الجدران ملصقات لشباب استشهدوا، بعضها قديم ألوانه باهتة، وبعضها فاقعة ألوانه كأنه ألصق هذا الصباح. وفي أسفل الملصقات كلمات تعرّف بأسماء الشهداء وتمجّد البطولة. على كلّ الجدران ملصقات لشهداء يبتسمون ابتسامات مجلّلة بالحزن. وتلك مفعولات الموت ضاريا كاسرا. يكفي أن تحدّق في العيون وستراها طافحة بهالة من سحر الموت وجاذبيّته وفتنته. الكلمات التي تمجّد البطولة والاستشهاد تبدو ذليلة لم تتمكّن من القضاء على فجائيّة الموت وضراوته وطابعه الكاسر. وعبارة “الشهيد البطل” التي تذيّل بها الملصقات ليست سوى تميمة تدرأ الوجع وتدجّن الموت، لكنّها لا تمحو طابعه المتوحّش الضّاري. فوراء عبارة الشهداء نفسها ثمّة شباب وأطفال سقطوا في العتمة. بيوت اجتاحها النوح. قلوب داهمها الوجع كاسرا. ثكل ودمع ولا عزاء.ك

وصلنا إلى البيرة عبر طريق ترابيّة وعرة. مطبّات وحفر من جميع الأحجام. على الهضاب المجاورة يلمع قرميد المستوطنات تحت شمس باهتة. ثمّة حشد من غيوم رماديّة بالكاد تتحرّك. يكفي أن تحدّق فيها قليلا. يكفي أن تديم النظر إليها وسترى يدا خشنة معروقة تمتدّ من خلال تلك الغيوم وتتوعّد الحياة نفسها بالويل والخراب. إنها يد إلوهيم، يد يهوه ربّ الجنود المأخوذ بالدمّ الفلسطيني. ليست زخّات رصاص هذه التي تدوي في الجوّ. إنها قهقهة هذا الربّ العائد من ليل التاريخ مخفورا بخسران بني البشر أجمعين. كانت الحافلة تعبر وادي النار. والطريق ترابيّة ملتوية. ويهوه ربّ الجنود من هناك يراقب المشهد ممنّيا النفس بمزيد من الدم الفلسطيني.ك

 فجأة حفنة من بيوت،، حفنتان على هضبة. الهضبة تصير هضابا والبيوت تزداد وضوحا. بيوت معلّقة على مرتفع من الأرض. بيت جالا، بيت لحم حيث يقيم الفلسطينيون. ومستعمرة جيلو المأهولة بنسل ابنة صهيون شذّاذ الآفاق. على بعد عدّة فراسخ لا غير من بيت لحم وبيت جالا يربض الوحش الصهيوني مدجّجا بالليل في مستعمرة جيلو المزروعة في المكان هزءا ورزءا.ك

عبرنا بيت جالا. مدينة في حجم بلدة مبنية على الصخر. الشوارع مقفرة تماما والبيوت مقفلة على نفسها. يقال إن ناس هذه المدينة يستدرّون من الكروم نبيذا يزيل الصدأ عن الروح ويطهّر الجسد. ولا بدّ أن تكون الخمر التي قدّمها المسيح لتلامذته كي يباركهم مجلوبة من هذه الديار المقفلة بالأسرار. وحتما شهدت بيت جالا خطى يوسف النجار وهو يسوق حماره ويحثّ الخطو باتجاه مصر. من هنا مرّ المجوس أيضا. ومن هنا مرّ النجم الذي كان يتقدّمهم دليلا وبشارة حتى موضع كنيسة المهد حيث المغارة التي شهدت مولد يسوع. كنا نعبر باتجاهك بيت لحم. وكان يهوه في الأعالي يرقبنا. نابه الأزرق يلمع من خلل السحاب. ومن خلل السحاب مازال يمدّ يده الغليظة المعروقة مزدهيا بجرائم شعبه المختار، مباهيا بابنة صهيون بين الأمم.ك

دير العبيدية: دير مقفل. جدران عالية. باب صغير مثل كوّة في جدار ضخم. قدّام الباب راهب يحدّق في الفراغ. كأنه على يقين من أن يهوذا هو الذي قام لا المسيح. وصلنا حقل الرعاة. فجأة: بيت لحم. لافتة ترفرف كلما هبّت نسمة من هواء:ك

الجمعيّة الخيريّة الوطنيّة ترحّب بقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني.ك

هذه اللافتة هي ما تبقّى من احتفالات الألفيّة الثانية التي حضرها البابا القادم من روما. كلّ ليلة تقصف بيت لحم والبابا لا يحرّك ساكنا. الأب عطاء الله حنّا المرابط في كنيسة القيامة بالقدس يعرف كيف يحافظ على شرف الاسم ويصون أمجاد رجال عاهدوا التاريخ العربي وتواصوا بالصبر رسوليّا. البابا بعد الاحتفالات لم يتلفّت صوبك بيت لحم. هي ذي كنيسة المهد. كنيسة وسط ساحة عظيمة. مدخلها كمدخل دير العبيدية مجرّد كوّة صغيرة مستطيلة. يجب أن تنحني حتى لتكاد تلامس الأرض بيديك كي تدلف إلى الداخل. مطران يشبه كائنا من أثير يلبس رداء أسود استقبلنا على العتبة ونبّهنا إلى ضرورة الانحناء كي لا نصدم بالجدار هاماتنا. صوته حفنة من الوشوشات بالكاد تسمع. داخل الكنيسة حشد من السياح الأجانب ونظرات بلهاء. قطعان من العجائز والشيوخ. والكنيسة من الداخل على شكل صليب. أيقونات في منتهى البهاء: هو ذا المسيح الرضيع يبتسم لنا. هي ذي أمّه العذراء. والمجوس جاؤوا. هاهم يسجدون له ويطرحون كنوزهم قدّامه. عباءات سود تسير على الأرض في تؤدة وسكون وتحيط بنا. داخل العباءات مطارنة بالحزن والوجل والنور طفحت وجوههم. مطارنة فلسطينيون يبتسمون لنا مرحّبين بالاخوة العرب الذين جاؤوا في هذه اللحظة التاريخيّة التي يسفك فيها الدم الفلسطيني مسيحيا ومسلما في بيت لحم. وروما تلزم الصمت كأنها جزء من النظام العربي الباسل.ك

أنزلونا إلى المغارة حيث شهد المسيح النور. رائحة البخور والرطوبة والشموع تملأ المكان. هنا ولدته العذراء التي حبلت به من الروح القدس. هنا المجوس سجدوا له. صوت الراهب كان خفيضا كنسمة رقيقة تمرق بين أعشاب يابسة. “الاسرائيليون هم الذين يستفيدون من كنيستنا ويستثمرونها سياحيا. لهم 1500 دليل سياحيّ. أما نحن الفلسطينيون فلا نملك إلا 150 دليل. وفي دعاياتهم لاستجلاب السيّاح يرفعون شعار زوروا اسرائيل تنعموا بزيارة كنيسة المهد.” هكذا قال المطران فيما طفحت عيناه بحزن صامت عميق يجعلك تخجل من انتمائك للجنس البشريّ.ك

 يهوه، يا ربّ الجنود أعرف أنك في الخارج بانتظارنا, وجندك شذّاذ الآفاق على مرمى حجر من كنيسة ترجّلت النجوم في ساحاتها ذات نهار. حين كنا نغادر كنيسة المهد خيّل إليّ أنني رأيت على الجدران بقيا من غبار أجنحة الملائكة. وكنت على يقين من أن يهوه لم يرسل جنده لتدمير كنيسة المهد لأنها تدرّ على عبدته نسل ميليكداس مالا وفيرا. وللقردة في الدنيا قاطبة أن تنوح على نفسها. فثمة قرب سور الأقصى قردة مخبولة تهزّ الرؤوس زاعمة أن السور حائط أعدّ لدموع التماسيح ما كان منها وما سيكون. وطوبى للعرب المستسلمة.ك

مهد المسيح في خطر. والبابا يوحنّا بولس الثاني لا يحرّك ساكنا. لعلّه على يقين من أن يهوه ربّ الجنود لن يأمر عساكره بإحراق كنيسة المهد لأنها تدرّ على ما يسمّى دولة بني اسرائيل مالا وفيرا. شارع بولس السادس، شارع النجمة، طريق المطارنة. من ساحة المهد تتفرّع الطرق جميعها والبيوت تنتشر محيطة بالكنيسة كأنها تخشى على المسيح من الصلب ثانية. طريق المطارنة شارع يمتدّ من ساحة كنيسة المهد حتى سوق بيت لحم. في وسطه بالضبط بالقرب من مدرسة الراهبات مدرج ينحدر متسلّلا بين البيوت المقفلة. ولا شيء هناك. لا شيء. فجأة لمحت قطّة رماديّة منقّطة بنقط سوداء تهبط المدرج لائذة بالجدار. تمهّلت في مشيتها. وقفت. الرأس مال. الرأس دار. جذعها لم يتحرّك. عينان صفراوان أشعّا في عتمة المدرج. واصلت القطّة الهبوط كسلى مخفورة بسحر سرّي. لعلّها رهبة المكان. صورة محمد الدرّة ثانية. والروح صارت رمادا. الكرامة العربيّة صارت مجرّد ذكرى بعيدة. وعلى الفلسطيني أن ينهض للصراع من جديد ليبدّد بعضا من نكد أيّامنا. صوت صارخ في شاشة التلفزيون: مات الولد… مات الولد.. مات… وحكام، رؤساء، ملوك: موظّفون سادوا في نهايات الزمان العربي وقد استبدّ بهم الرّعب من الوعد فلسطينيّا حتى غدوا أقنعة للهلع يطلعون كالفزّاعات على الشاشات والفضائيات مرتبكين مرتعبين من الزلزلة. وتلك مفعولات رسالة الفلسطيني، ذاك طابعها الرسوليّ وبعدها الإشاريّ والرمزيّ.ك

*  *  *

     مطعم بيت جالا. صاحب المطعم في عمر المسيح يوم أسلمته ابنة صهيون الضالّة إلى حتفه. شاب ملتح وسيم وقف يرحّب بنا نحن الاخوة العرب الذين نمثّل جزءا من الوجدان العربي في أمّة غدا ناسها مثل الهوام بالضبط لا أمل ولا فرح ولا غاية، شابّ فلسطيني كنعاني خالص أسلافه رأوا يوسف النجار يحثّ الخطى باتجاه مصر وحموا المسيح رضيعا مهدورا دمه، جاء يخدمنا مبتهجا بالاخوة العرب. سألته حذرا:ك

عزيزي اسمح لي ، هل أنت مسيحي؟

أنا فلسطيني مسيحي. مرحبا! يا هلا!ك

قيل لي إن بيت جالا تستدرّ من الكروم نبيذا فردوسيّا.ك

أمّي تصنع نبيذا في البيت لو جبت الأرض لن تجد له مثيلا.؛

سألته مداعبا هل عندك اخوة، فأجابني بأنه سادسهم. فاقترحت عليه مداعبا أن أصير أخا له، وسألته هل تقبل أمّه بأن أصير لها ابنا سابعا. فكان أن أهداني قنينة التأمت بعدها شظايا من روحي التي صارت مزقا ونفايات. بعد مغادرتنا للمطعم بعشر دقائق ابتدأت المواجهات في بيت جالا. واختطف الموت شهيدين في مقتبل العمر.؛

العشـــاء الأخير

غدا صباحا سنغادر رام الله إلى الجسر. فندق “باست إيسترن”  وقت العشاء. مطعم الفندق في القبو. والنور خافت. الفوانيس المعلّقة على الجدران بالكاد تطرد العتمة. والشباب في المطعم يخدموننا بتفان وبكرم منقطع النظير. الابتسامة وعبارة “هلا، تؤمر” تسبق النادل إليك. الشباب فرحون بنا نحن الاخوة العرب القادمون من العواصم العربيّة التي “استتبّ فيها الأمن” تماما حتى غدا الناس فيها مثل الظهورات من شدّة وطأة الديمقراطيّة المخفورة برجال الأمن وبالخوذات والعساكر وأحذية الجنرالات. نحن القادمون من أوطان غادرها المستعمرون بدءا بالنصف الثاني من القرن العشرين علينا أن نفرح ونهلّل. فنحن نملك تحت الشمس علما ووطنا وأشياء أخرى. لكننا جميعا حزانى حزنا صامتا تعوّدنا عليه وألفناه حتى غدا جزءا من كياننا. الجميع يائسون يدركون أن العدالة في الوطن العربي مجرّد فكرة تلوذ بالكوى المعتمة وكثيرا ما تتلفّت في السرّ مذعورة من أحذية العسكر ورجال الأمن، وفي الليالي الشتائيّة الموحشة كثيرا ما تجلس مسدلة الشعر في منعطفات الشوارع وتمعن في النحيب. كبير الطبّاخين في مطعم فندق “باست إيسترن” يتقن إعداد شوربة البصل. أنا طلبتها مرارا قبل هذا العشاء الأخير. هذه الليلة جاءني النادل بها دون أن أطلبها. سألته عن كيفيّة إعدادها. ودوّنت ذلك. فجأة:ك

هو ذا ابن الشعب يدخل. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني الناس والأسطورة يهبط الدرج إلى المطعم ومعه بعض من رفاقه من مناضلي حركة فتح. مروان البرغوثي. هذا هو اسمه. حيّانا مصافحا. ورفاقه أيضا صافحونا بحرارة. عيونهم كانت زائغة قليلا. للتوّ قدموا من خطوط التّماس حيث تجري المواجهات. أمين سرّ حركة فتح. درس في جامعة بير زيت. عرف السجون الإسرائيليّة. وذاق الإبعاد. ووصل حتى الشمال الأفريقي ذات مساء بعد مجيء المقاومة كسيرة النفس والأمل إلى تونس. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني جاءنا. نحن لم نمض إليه. هو الذي اختطف نفسه واصطحب رفاقا له في الكفاح وجاء إلينا ليلة العشاء الأخير. سألناه عن الوضع. من طريقته في صياغة جمله وترتيبها والتلفّظ بها سرعان ما تدرك أنك في حضرة قائد ميداني. شكر الأمّة العربيّة. شكر العرب. نوّه بالشارع العربي مليئا بالغضب. “لن نقول بعد اليوم يا وحدنا! لسنا وحدنا. وجودكم معنا في هذه اللحظة يدلّ على أننا لسنا وحدنا. الشارع العربي معنا. لم نكن يوما وحدنا.” عن قتل الأطفال حدّث؛ عما رأيناه في بيوت العزاء وما رأيناه في المستشفيات، عن إصرار الأم الفلسطينيّة حدّث. أبو إياد لم يقتل في تونس إذن. هي ذي روحه تعود إلى الأرض. وأبو جهاد تسمع نبرته في صوت ابن الشعب هذا. والرفاق من الديمقراطيّة والشعبيّة والحزب والاخوة من الجهاد وحماس، كلّ الذين قتلوا غيلة وغدرا تكاد تسمعهم في صوت ابن الشعب هذا الذي جاءنا وقت العشاء الأخير. الشباب الذين كانوا قبل مجيئه يخدموننا في المطعم، أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا يصيخون السمع إلى هذا الصوت الحامل وجع الفلسطينيّ وإصراره على أن يولد في الليل العربي نهار-أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا- أشهد أن عيونهم كانت تفيض بنوع من الفرح الطفوليّ الساحر والحنان. يهوه! يا يهوه! يا ساديّا ووحشيّا! يهوه، ‍‍‌‍‌‍ يا قادما من مملكة الدياجير. يا يهوه! يا ربّ الجنود لست أنا القائل ولا أنت وإنما هو صوت صارخ في البريّة يدوي قائلا: “كما تنبع العين مياهها، هكذا تنبع ابنة صهيون الضالّة شرّها، ظلم وقتل ومثل قفص ملآن طيورا هكذا بيوت أبناء صهيون ملآنة مكرا.” في الشارع يسمع دوي القصف، ولعلعة الرصاص. ابن الشعب هذا الذي جاء إلينا أعلمنا أن المروحيات قد دخلت المواجهات. حجر ودبابات. حجر وصواريخ. حجر وقنّاصة. حجر وطائرات. مجّدت يا أمّة العرب. ومجّدت معك أمريكا.ك

* * *

من نافذة طائرة الملكيّة الأردنيّة لمحت القدس التي منعنا الجند الغزاة من زيارتها. لمحت قبّة الصخرة وأنا عائد إلى تونس. رأيت حيفا. طائرات حربيّة صهيونيّة حلّقت على بعد فراسخ من طائرتنا، ولم تقصفنا لتثبت لنا أن للسلام  الذي هو صنو الاستسلام محاسن وفضائل وأشياء أخرى.؛

*  *  *

وصلت إلى بيتي ومعي شيئان: شيكلان وكيس زعتر اشتريته من رام الله. كيس من نايلون عليه ورقة خضراء كتب عليها بالأحمر:ك

زعـــتر أبنــاء الـريف ZATAR  ABNA  AL-REIF

مفروك بالزيت البلدي

المحتويات: زعتر بلدي –سمسم بلدي- سمّاق- ملح.              تاريخ الانتهاء 30 03 2001

رام الله- المنــــطقة الصنـــــاعيّة- تلـــفون: 022981713

 

 وشيكلان: قطعتان معدنيتان مدوّرتان كعيني حيّة رقطاء. افتقدتهما في صباح الغد. وكان أن عاد ابني علاء 13 سنة من المدرسة حانقا ووجلا بعد الظهر. صارحني معتذرا  بأنه قد تسلّل إلى مكتبي خلسة واستولى على الشيكلين. وهناك قدّام المدرسة اجتمع هو وأقرانه واقتطعوا من كرّاساتهم ودفاترهم أوراقا لفّوا فيها الشكلين وأضرموا فيهما النار وهم يردّدون الاسم، كانوا يرفعون الاسم عاليا، اسم الحلم العظيم الضّاري: فلسطين. ولكم كان ذهولهم عظيما عندما لم تأت النار على الشكليين المعدنيين. فكان أن ازدادوا إصرارا وانهالوا على القطعتين سحقا بالحجارة حتى أتلفوهما.؛

* * *

أنا لطفي اليوسفي المقيم في الشمال الافريقي، أنا الذي ذهبت ورأيت أعترف أنني هناك في فلسطين رأيت الوجع ربّانيا، ورأيت الفعل رسوليّا. وأعترف أيضا بأن ما رأيته في بيوت العزاء وفي المستشفيات والشوارع ليس شهادة واستشهادا فحسب، بل هو حدث عبور للحدود الفاصلة بين السماويّ والأرضي، بين ما هو بشريّ وما هو ألوهي. ثمّة فسحة من أمل في دياجير هذا الليل العربي. خطوة باتجاه الطريق المؤدّية، خطوة.. خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم. ولتحيا الحياة.م

فلسطين المكان الذي غدر به الزمان

محمد لطفي اليوسفي

 الهبوط إلى العالم السّفلي

سأحدّث عن المكان.ا

لأنني كنت هناك في أريحا ورام الله وبيت لحم ومخيّم الأمعري والبيرة وبيتون ومشارف القدس؛ لأنني ذهبت للمشاركة في مهرجان فلسطين الشعري الأول لكن الشعب الفلسطيني العظيم أبى إلا أن يجعلنا نعيش فلسطين متوهّجة غضبا ودما ونارا، فشهدنا انتفاضة الأقصى تسطّر أمجادها؛ ولأنه من الصعب على من يدخل فلسطين أن يشفى منها تماما فحالما يطأ ترابها يتسلّل شيء ما قدسيّ، شيء سحري،ّ هشّ، مشتهى، شيء يخترق الجسد ويستبدّ بالروح، سأحدّث عن المكان.ا

 لأنني رأيت كيف يتخفّف المكان من مادّيته وصلابته ويستعير من الحلم شفافيته وفتنته؛ لأنني رأيت الحلم يشهد من التكثيف ما يحوّله إلى مكان صلب قاسٍ مَهيبٍ يربك الجسد ويدوّخ الحواس سأحدّث عن المكان. عن الهبوط الجحيمي إلى أرض أريحا الصابرة تحت شمسٍ قرّرت أن تحرق كبد العالم؛ عن جبالها الرواسي وخطوات المسيح على جبل التجربة؛ عن رام الله الناظرة صوب القدس المحاصرة بشذّاذ الآفاق؛ عن وادي النار؛ عن بيت لحم؛ عن كنيسة المهد؛ عن فلسطين المكان الذي غدر به الزمان.ا

سأحدّث عن أبٍ مثقلٍ بالهمّ مكدود نتقدّم إليه بالعزاء فيغالب الوجع مزدهيا بأنه قدّمَ ابنَهُ الطفل محمد نبيل علي حامد البالغ من العمر ثلاث عشرة سنة فداء لفلسطين وكرامة الأمة العربيّة. عن المكان عدوانياً ووحشياً؛ عن المكان واقعا أرضيا مضرّجا بدم الأبرياء؛ عن الفعل رسوليا؛ عن الوجع ربّانيا؛ عن قطّة هدّها الإعياء رأيتها تهبط مدرجا يتفرّع عن شارع النجمة طريق المطارنة المتلفّت صوب كنيسة المهد. سأحدث عن الدمع مكتوما وسرّيا؛ عن الأرض أُمًّـا تتغذّى بلحم بنيها؛ عن عرب الجهالين يحيطون بالقدس خياما وقطعان ماعزٍ تبحث بين الصخر عن أعشاب وهميّة لا ترى وتعلك الضجر؛ عن طفلة تلبس مريلة صفراء وقفت في الساعة التاسعة صباحا قدّام بيت متداع في مدخل البيرة تراقب أطفالا في سنِّها لم يتجاوزوا السابعة يجمّعون حجارة وإطارات سيارات استعدادا لمواجهات بعد الظهر.ا

 عن الزغاريد مأهولة بالنوح مكتوما سأحدّث؛ عن معركة سرّية تجري في المكان بين الألوان، الأصفر والأزرق والأبيض وما بينها من صراع رمزيّ إشاريّ مدوّخ؛ عن المغارة التي سجد فيها المجوس قدّام المسيح وطرحوا كنوزهم ذهباً ولباناً ومرّاً؛ عن المساجد تبكي مسجد عبد الله بن عمرو بن العاص في الرملة وقد صار مرقصا ليليا، عن الكنعانيين يسرق حلمهم وتراثهم ومدائنهم وطريقة مقامهم على الأرض؛ عن جبل أبو غنيم؛ عن قمم الجبال والهضاب مزروعة بالمستوطنات؛ عن المكان حين يصبح جندا ويصير عسكرا وخسرانا لبني البشر أجمعين، عن الصبر فلسطينيّا، عن الرّعب صهيونيّا، عن اتفاقات أوسلو يذروها مكر ابنة صهيون الضالّة هباء ومرارات، زبدا وطواحين ريح.ا

*  *  *

توجّهنا إلى فلسطين بعد يوم واحد من استشهاد محمد الدرّة في حضن والده يوم الأحد 1 تشرين الأوّل 2000، قتل الطفل على مرأى من الدنيا قاطبة. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا الشمس أفلت. وحده الدم ظلّ صارخا في العراء. قتل الطفل البارحة وها نحن نتوجّه صوب فلسطين، صوب جسر الملك حسين. صباح اليوم الاثنين 2 تشرين الأول أي بعد مضي52 سنة لا غير على وقوع فلسطين في قبضة اليهود شذّاذ الآفاق، وبعد مضيّ 10 سنوات فحسب على محرقة العامريّة واللّحم العربيّ مشويّا حتى التفحّم، وبعد مضيّ سبعة قرون لا أكثر على رحيل القائد الأعظم صلاح الدين الأيوبي. صار عمر الولايات المتّحدة الأمريكيّة قرنين من الزمان لا غير.ا

*  *  *

هبوط مدوّخ باتّجاه الغور حيث نهر الأردن. مكدودة تنزل الحافلة على الطريق الملتوية باتجاه المكان الأشدّ انخفاضا في العالم حوالي 350 مترا تحت سطح البحر. الضغط يصمّ الآذان. هناك بعيدا في الأفق تبدأ جبال أريحا بالظهور جرداء لا نبتَ ولا شجرَ، شهباء مشوبة بصفرة باهتة حتى لكأنها غيوم هائلة تجمّدت على الأرض. هكذا يبدو المشهد للوهلة الأولى. مشهد قياميّ لا يمكن أن يجري إلا في حلم. لكأن المكان نفسه يفقد صلابته كلّما اقتربنا منه ويتخفّف من مادّيته فتفقد الموجودات ألفتها لتتّشح بغلالة من القسوة والفظاظة.ا

في غور الأردن لا شيء يدلّ على وجود حياة سوى بعض مزارع الموز التي تبدو مثل بُقَعٍ خضراء محاصرة بالقحط والسُّخط في آن معا. مزارع الموز تبدو مصابة بالذعر. شجيرات متلاصقة متراصّة بعضها متداخل بالبعض الآخر كأنه يبحث عن حضن أو عن بعض من دفءٍ. بالقرب من تلك المزارع حدثت في ذات يوم تلك المعركة التي سيسمّيها العرب تبرّكا معركة الكرامة. دمٌ فلسطيني ودمٌ أردنيّ توحّدا ضدّ جيش الأعداء. إشراقةُ نورٍ باهتٍ في عتمة الليل العربي، التماعةُ نورٍ خافت لم تتمكّن رغم كلّ ما قيل حولها من محو ما حدث في شهر أيلول، أيلول الأسود سيّد الشهور وأقساها في زمان العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة.ا

على الطرف الآخر من الجسر الفاصل بين الأردن وأرض فلسطين التي صارت تسمّى حتى لدى العرب أنفسهم إسرائيل بعضٌ من حياةٍ توحي به أشجار أريحا الصابرة ومزارعها التي تبدو مثل بقع خضراء رُمِيتْ في المكان صدفة واتّفاقا. كنا نتقدّم باتجاه فلسطين، الحلم العربي الذي ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيها الكرامة العربيّة مجرّد ذكرى، وتصبح الشعوب العربيّة مثل الهَوَام لا أملِ ولا فرحِ ولا نسمةً من حياة.ا

فلسطين لم تعد موجودة على خارطة العالم. لقد تمّ محو الاسم. حدث فعل استبداله. ونحن لا نتقدّم باتجاه بلدٍ بل نمضي إلى حلمٍ شرسٍ مروّع أو باتجاه وهْـمٍ. المكان لا يملك تحت الشمس غير اسمه. واسم فلسطين قد تمّ محوه من خارطة العالم، تم محوه من المعاجم ودروس الجغرافيا حتى لدى بعض المؤسسات الحكوميّة العربيّة المجيدة. لكن الاسم احتمى بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل. وطوبى للحزانى.ا

*  *  *

مشهد خلفيّ يشبه المهزلة: عندما ذهبت إلى السفارة الأردنية طلبا لتأشيرة العبور إلى الأشبار المحرّرة من أرض فلسطين كانت نبيلة معي. على شبّاك مكتب الاستقبال وضعت ورقة تحمل البشارة للمواطنين العرب بأن سعر التأشيرة قد تضاعف مرّاتٍ. أشارت نبيلة إلى الخارطة وهمست: إنك تذهب إلى بلد غير موجود على الخارطة، إذا ضعت كيف أبحث عنك في مكان لا يوجد على خارطة الدنيا؟ لم أفهم ما قَصدتْ، فأشارت إلى الجهة اليسرى. على الجدار عُلِّقتْ خارطة ترسم حدود بلدان المنطقة: العراق الأردن سوريا لبنان إسرائيل مصر. قلت لها مداعبا: هذا خطأ مطبعي. فغضبتْ. قلت: اسمعي نحن أمّة ذات رسالة عظيمة حتما سنستردّ أمجادنا في نهايات الزمان، وسنسود العالم من جديد. إن غدا لناظره… هكذا جاءتني الإجابة. قاطعتها قائلا: عندما يحين الحين و يأتي زماننا سنسمّي أمريكا أرض الرجال الحمر أسياد الدنيا، ونعينهم على طرد الرجل الأبيض زارع الخراب. وسنسمّي المكسيك بلاد المايا والأزتيك. سنثأر لأنفسنا من روما التي روعّت أطفال قرطاج، وسنستورد من السماء حكّاما عربا عادلين  يملأون بالحلوى والأقلام الملوّنة جيوب الأطفال ولا يأكلون اللحم العربي نيِّئاً… في المساء  رفضت أن  تعود معي لاستلام جواز السفر وادّعت أنني أخطو باتجاه خيانةٍ ما. دخلت السفارة وحيدا بعد أن آليت على نفسي أن لا أنظر إلى الخارطة. ونجحت في تحقيق هذه البطولة التي ستنضاف إلى أمجاد العرب العاربة والعرب المستسلمة.  خيّل لي أن موظّف السفارة يبتسم لي فابتسمت له.ا

*  *  *

الحافلة تواصل التقدّم ودرجة الحرارة تزداد ارتفاعا. كنت على يقين من أننا لا نمضي إلى مكان بل نتقدّم باتّجاه حلمٍ له كلّ مواصفات الكابوس. هي ذي… هي ذي فلسطين. الأرض المقدّسة التي برعت في أكل لحم أبنائها المتسابقين إلى الموت. مكان غدر به الزمان. مكان يلتقي فيه يوشع بن نون مع العمالقة من الكنعانيين وربّه إله الجنود يستحثّه في نبرة ساديّة مروّعة على إراقة الدم وقتل النسل وإحراق الزرع. لحظة ويحطّ البراق على حائط المسجد الأقصى وتنفتح السموات. فيكون إسراءٌ. ويكون معراجٌ والنجوم تترجّل في ساحة الأقصى. لحظة أخرى ويأتي يهودٌ من شذّاذ الآفاق يهزّون الرؤوس مثل قردةٍ مخبولةٍ بقرب الحائط الذي سيدّعون أنه أُعِدَّ لبكائهم ولتجميع دموع التماسيح في الأرض قاطبة.ا

ريتشارد قلب الأسد يعبر البحار مدجّجا بالضّغينة. صليبيون جاؤوا وأبادوا الناس في عكّا.  توني بلار والعجوز الشمطاء أولبرايت التي اكتشفت ذات صباح أنها من نسل يهوذا تأتي هي الأخرى. صلاح الدين الأيوبي العابر من جبال الأكراد على فرسٍ صارع الريح والنوء يأتي منقذا ومخلّصا. دمُ محمد الدرّة وصمة في ضمير العرب شعوبا وقبائل, حكّاما وسلاطين, هُزْءا ورُزْءا وأشياء أخرى. الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يخرج للتوّ من مقصورة في الأقصى ويمضي باتجاه دمشق. عبد الغني النابلسي هنا أقام، هنا درّس قبل مجيء اليهود بقليل. المغاربة ببرانيسهم الصوفيّة جاؤوا من شمال أفريقيا وخلعوا اسمهم على باب من بوابات الأقصى.ا

يوحنّا المعمدان يكرز في البرّية قائلا تُوبُوا لأنه اقترب ملكوت السماء، أليعازر ينهض من القبر، يوسف النجّار يسوق حمارا مكدودا ينشد الوصول إلى أرض مصر كي يتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل من مصر دعَوْتُ ابني. عمر بن الخطّاب يترجّل عن فرسه الآن وكبير مطارنة كنيسة القيامة يدعوه للصلاة في كنيسته فيبادله كرما بكرمٍ. صوت في الرامة نوح وعويل رَاحِيلُ تبكي أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين. هي ذي فلسطين إذن. هو ذا المكان. مكان غدر به الزمان. وللفلسطيني أن يدفع الثمن دماً ودموعاٍ. ولنا نحن المقيمين خارج فلسطين أن نسمّي ذلك بطولة كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير. وطوبى للحزانى!!!ا

  عبــور الصّــراط : جسر الملك حسين

جسر على نهر الأبديّة. جسر تسيل تحته مياهٌ ضحلةٌ ضاربةٌ إلى الصفرة. هو ذا نهر الأردن. جسر خشبيّ كأنه خربشة بقلم رصاصٍ على ورقةٍ منزوعةٍ من كتاب قديم نهشته الأرَضَةُ دهْراً. جسر متواضع في منتهى التواضع. طوله عشرة أمتار أو أقلّ. وعرضه بالكاد يتجاوز المترين. في وسطه، في وسطه بالضّبط، رُسِمَ بالطلاء الأبيض خطّ هو الحدّ الفاصل بين الأردن وفلسطين القابعة في الأسر. والخطّ الأبيض يضعك منذ الوهلة الأولى في حضرة عدالة ابنة صهيون الضالّة التي أعطت للأردن نصيبَه من هذا الجسر وأخذت نصيبها. نحن في حضرة قسمَةٍ عادلة تشبه جميع المهازل في هذا الليل العربي المُثقَل بالمكائد وخسران العرب أجمعين. من جديد تأتي التسميّة لتشرع في حبك مكائدها. جسر الملك حسين يقول الأردنيون والعرب. جسر اللنبي تقول ابنة صهيون والعالم من ورائها. قد يصبح بعد التسويّة الشاملة إن تمّت “جسر الملك حسين واللنبي.” ووقتها سيضطلع حرف الواو بأشدّ أدواره وساخة في تاريخ اللغة العربيّة. سيضعنا في حضرة مصالحة مخزية كأيّامنا.ا

على يسار هذا الجسر الخشبي الهرم الذي رأى الويلات كلّها، وشهد وصول الانجليز والأمريكان، ورأى وصول اليهود شذّاذ الآفاق، ورأى خيانات الحاكم العربي وهجْرات الفلسطنيين في اتجاه بقاع ستسمّى مخيّم اليرموك، مخيّم فلسطين، مخيم صبرا، مخيّم شاتيلا، مخيّم الوحدات مخيم عين الحلوة، ثم تصير المخيّمات مُدُناً من إسمنت رماديّ ضارب إلى السواد؛ تصير المخيّمات أحلاما بعودة تزداد استحالة كلما انضاف إلى الزمن العربي ليل آخر -على يسار هذا الجسر المقفل بالوجع ربّانيا-  ثمّة أشغالٌ حثيثة.ا

جرّافات، شاحنات، أعمدة حديديّة ضخمة. تلك تباشيرُ هبات السّلام. تلك ثمار الاستسلام. مرّة أخرى تأتي التسميّة مُحمَّلّة بالمكائد. لكن الجذر اللغوي نفسه يفضح ما بين الكلمتين من إنابة ومداورة ومخاتلة. وطوبى لصانعي السلام. مطلوب منا أن نهلّل ونفرح نحن العرب الواقفين على شفا الهاوية. علينا أن نفرح ونهلّل فسيقع استبدال الجسر الصغير، الجسر الخشبي الذي هدّته السنون والويلات تتوالى تباعا، بجسر عظيم كبير ضخمٍ فخمٍ يسرّ الناظرين ويملأ بالبهجة قلوب العابرين إلى أرض كانت تسمّى فلسطين. سيقام جسر يليق بالعلاقة الحميمة التي ستنشأ بين العرب ودولة إسرائيل.ا

 ولنا أن نتخيّل المشهد في المستقبل. ستتوالى الخيرات من هناك من تلك الأرض التي كانت تسمّى فلسطين عسلا ولبانا ومرّا. سيعمّ الخير والرفاه بلاد العرب من البحرين حتى أقاصي بلاد شنقيط موريتانيا العظمى، وستنال الصحراء الغربيّة نصيبها من الغنيمة أيضا. وعلى العرب أن يفرحوا. عليهم أن يهلّلوا للصدقات إسرائيليّة هذه المرّة. ولهم أن يبتهجوا بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات. وكافرٌ كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الانسان.ا

غريبٌ أمر هذا الشعب الفلسطيني لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة. مدهشٌ أمر هذا الشعب الفلسطينيّ الذي شهد أسلافه خطوات المسيح على جبل التجربة، ورأوا يوحنا المعمدان وعلى حقويه منطقة من جلد وهو لا يتغذّى إلاّ بقليل من الجراد والعسل البرّي. غريبٌ ومدهشٌ أيضا أمر هذا الشعب الذي سمع أسلافه ذات ليلة حفيف أجنحة البُراق وهو يحطّ خفيفا على سور الأقصى والدنيا تضيءُ. تلك حيل المتخيّل الجماعي وذاك طابعه المقاوم. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بذاكرته المنقوشة في المكان. أزمنة متراصّة مكثّفة. هي ذي فلسطين إذن: زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات، أقاصيص وملاحم، سماء تنفتح في وجه الأرض، أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير. ثم يلتقيان. الأرض والسماء يغدوان واحدا.ا

* * *

مكـــانان

بنـــايتان

مدخلان

 والطريق إلى أحشاء الوحش على مرمى حجرٍ. ومثلها الطريق إلى الحلم العظيم، الحلم الضاري الذي نسمّيه فلسطين.ا

* * *

  البناية الأولى متواضعةٌ كأنها وضعت للتوّ على عجل. على مدخلها كتبت لافتة: القادمون إلى السلطة الفلسطينيّة. البناية الثانيّة فخمة عالية عليها لافتة بالعبريّة أعدّت لاستقبال الدنيا والمُطبّعين العرب نسلُ يَهُوذا. منذ الوهلة الأولى تبدأ المعركة إشاريّة ورمزية. البنايات تحدّث، والمداخل تحدّث، والمكان يحدّث بأن العدالة قد فُقِدت من الأرض تماما، والسلام هو التجسيد الفعلي للاستسلام. وهو صنوه وسميّه ووجهه المروّع الفاجع. نتخطّى العتبة فيصبح الطابع الإشاري أكثر عنفا. شبابيك ونوافذ. ناسٌ من الفلسطينيين ينتظرون إذنا بالدخول. نساء يرتدين السواد خَفَراً وحشمة أو حدادا. أطفال في الزاوية واجمُون لا يلعبون. ثمة دكّان صغير شبه مقهى أو شبه مشرب.ا

الدينار الأردني يختفي وصورة الملك حسين تغيم تماما. ويطلّ الشيكل برأسه الإبليسي. عمْلَةُ عبدة الذهب نسل ميليكداس. ثمّة شيء يطبق على الروح كالدوّار. شبابيك ونوافذ. وراء كلّ شبّاك يجلس أحد رجال الشرطة من الفلسطينيين العائدين مع اتفاقيات أوسلو. يجلس الشرطيّ الفلسطيني الذي كان فدائيا محاربا داخل زِيِّه الكُحلي مُتْعبا مكدودا. وبجانبه مُجَنَّدَةٌ صهيونيّة شابّة تجلس مرتاحة في جسدها. مطلوبٌ أن تسلّم جواز سفرك وتصريح الدخول إلى الشرطي الفلسطيني. وهو بدوره يتولّى الحكي مع ابنة صهيون المجنّدة. لكأن الشرطي الفلسطيني يحرص على تجنيبك ويْلَ التعامل مع نسل الحيّات. درعٌ واقيةٌ هُوَ، أو غلالةٌ مضللّة. ثمّة في العيون غيض مكتوم. في عينيها حقد شيطاني؛ وفي عينيه وعيدٌ ربّاني. هنا يجلس الفلسطيني الضحيّة ومعه تجلس جنديّة من الجلادين. الدّمُ وسافكُهُ. المقتول والقاتل.ا

بنتٌ تمثّل السيادة الاسرائيليّة المستندة إلى الحديد والنار والجريمة وأمريكا وساديّة الحاكم العربي. شرطيٌّ فلسطينيٌّ لم يصدّق بعد أنّ آلاف الضحايا وقوافل الشهداء في المدن العربيّة وعلى الحدود مع ما كان يسمّى الكيان الصهيوني قد رحلوا سدى. لم يصدّق بعد أن الحلم العظيم صار كابوسا فظيعا. الشرطيّ الذي كان فدائيّا مخفورا بالأغاني الثوريّة، الشرطيّ الذي كان مقاتلا تَهابُهُ الدنيا يجلس الآن مذهولا ويرحّب بالإخوة العرب. “أنت من تونس الخضراء يا هَلاَ!” ‌‍قلت: “إنها تصفرّ الآن حتى لكأنها مصابة بالتهاب الكبد”.ا

*  *  *

الشرطيّ الذي كان بالأمس القريب فدائيّا يخطو باتجاه الحلم أُلُوهيا وربّانيا لم يفقد الأمل تماما. ففي عينيه المكدودتين يتراءى الأمل معجونا بالتّعب وحاجة الأطفال إلى القوت. لقد كان في تونس، جاءها في سفينة حرص رُبَّانُها على أن يضيف للأوديسيا فصلا فاجعا لا يمكن لهوميروس نفسه أن يتخيّل عنفه. حتما لم يكن الربّان وهو يرسي السفينة على شاطئ مدينة بنزرت التونسيّة يدري بأنه كان يدوّن في سجّلات خسران العرب ونكد أيّامهم يوما آخر له مذاق النوح وطعم النحيب. الشرطي الفلسطيني الذي تسلّم جوازي، صديقي هذا الدِّرع الواقية، هذا الغلالة المضلّلة، كان قبل ذلك في عَمّان ورأى قمر جرش في شهر أيلول يهوي من السماء ملطّخا بالدم أحمر زهريّا. القمر ذاته رآه في بعلبك وبيروت وتلّ الزعتر محاطا بالدم مظلما لا ينير.ا

 هذا الفدائيّ الذي ارتدى زيّ الشرطة، يعلم أن الطريق التي اختارها محمد الدرّة هي الطريق المؤدّية. ثمّة فسحة من أملٍ إذن. ففي اللحظة التي “استتبّ فيها الأمن”، في اللحظة التي صارت فيها الكرامة العربية مجرّد ذكرى بعيدة، في اللحظة التي أيقن فيها الحاكم العربي بأمر أمريكا أن الجماهير العربيّة غدت مثل الهوام لا أملَ ولا فرحَ ولا غاية، عاود الغضب الفلسطيني الظهور ليشير إلى الطريق المؤدّية.ا

 أرض أريحا الصــابرة 

اهذا جوازك تفضّل ومرحبا بك في فلسطين.” تحاول أن تردّ على تحيّة الشرطي الذي كان فدائيّا وصار الآن صديقا دِرْعاً واقية أو غلالة مضلّلة. لكنّ الصوت يخون. وجع اتّخذ من الجسد معبرا وتسلّل إلى عروق القلب. تكتفي بردّ التحيّة بحركة باتجاه القلب. يبتسمُ. تبتسمُ. هل هذا عبور الصِّراط. رجفةٌ… رعشةٌ… بردٌ يتسلّل إلى المفاصل… إحساسٌ بلا معنى الوجود أصلا… شعورٌ بالضآلة… شعورٌ بالعجز… دمْعٌ حبيسٌ يُثْقِل الصدر.ا

في الجانب الأيسر من البناية المتهالكة ثمّة قبالة المدخل باب ضيّق، باب ضيّق كأفراحنا ينفتح فجأة ونعبر. غسّان زقطان، المتوكّل طه، أذرع دافئة تحضنك. تنسيك لِلَحظةٍ أنك كنت تعبر الصراط. تكاد تنسى أنك صرت الآن في أحشاء الوحش تماما. “يجب أن نسرع، اصعدوا إلى الحافلة، اطلعوا في هذه السيّارة. يجب أن نسرع قبل أن تبدأ المواجهات. سنفتتح المهرجان بعد قليل افتتاحا رمزيا. يا هَلاَ! يا هَلاَ! مرحبا بكم في فلسطين شرّفتم فلسطين، سنهتم بالحقائب…”ا

هو ذا المكان: أرض أريحا. لم تعد الجبال مجرّد أشكال تتراءى في الأفق. إنها هنا جاثمة راسية كلسيّة رمليّة. ملحٌ وطينٌ. صُفْرَةٌ باهتة ضاربة إلى الرماد قليلا. الحرارة لا تطاق. والشمس مُزْمِعَةٌ فعلا على أن تحرق كبد العالم. جنديّ إسرائيلي مدجّج بالسلاح أشقر على وجهه بثور ورديّة وعلى رأسه قبّعة خضراء يغلق الباب الحديديّ. يصرخ السائق الفلسطيني في وجهه بالعبريّة لغة شذّاذ الآفاق المسروقة من الكتب واللغات والمتاحف. الجندي يغضب. ينادي جنديا آخر بشرته البنّية تدلّ على أنه قادم من أثيوبيا. يأتي شاهرا رشّاشه. عصبيّا متوتّرا ظلّ يراقبنا تكاد شهوة الدم تستبدّ بروحه. يجري الجندي ذو الوجه الموشّى بالبثور ورديّة قانية اتصالا هاتفيا من جهاز معلّق على حائط مخفر المراقبة. ثم يفتح لنا الباب الحديدي الأصفر. نعبر. يشرع السائق الفلسطيني في شتم العالم ودولة بني إسرائيل. سباب وشتائم وغضب: “الجبناء، نحن نعرفهم وما نخافهم، أوغاد، حِلّوا عنّا. هلاَ ! هلاَ! بالاخوة العرب في أريحا. انظروا هنا وقعت مواجهات الأمس استشهد شابان… الملازم أيضا قتلوه أمام بيته، الملازم المكلّف بالتنسيق الأمني.. لو تأخّرت تصاريحكم إلى اليوم لما عاد بإمكانكم الدخول.. مرحبا نوّرتوا فلسطين هلاَ!!”ا

*  *  *

هي ذي أريحا. هي ذي أرض كنعان التي تفيض لبنا وعسلا. هي ذي أرضك أريحا وقد دارت الحياة دورتها. هي ذي أرض أريحا الصابرة. حين وصل إليها يوشع بن نون ليتجسّسها ويخرّبها ارتعدت فرائصه هلعا فحدّث عنها مرتعبا: “إنها تفيض لبنا وعسلا، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتزّ والمدن حصينة عظيمة جدّا، رأينا فيها أناسا طوال القامة فكنّا في أعيننا كالجراد وهكذا كنّا في أعينهم.” وللفلسطيني أن يفخر بأسلافه الذين ملأوا بالهلع قلب يوشع بن نون القادم من التّيه العائد إليه. للفلسطيني أن يفخر بأطفاله، فأن يختار طفلٌ موته، أن يمضي شابٌ لملاقاة دبّابات وعسكر ولا سلاح معه غير جسده وإصراره، فمعنى ذلك أن المقدّس فيه قد تجلّى.ا

*  *  *

المكان: أرض أريحا. والمشهد عبثيّ تماما. مشهد يليق بشريط سينمائي غرائبي لا يقدر حتى غودار المناصر لقضيّة فلسطين أن يتخيّله. أرض رمليّة كلسيّة صفراء. أرض أشدّ قسوة من صحراء. وفي الوسط بناية ضخمة عالية شاهقة تمتدّ بين السماء والأرض مثل لعنة ارتعدت لها فرائص الأرض. إنه كازينو أريحا. بعض منجزات السلطة الفلسطينية العائدة. الفلسطينيون لا يذهبون إلى هذا الكازينو. وتأتيه الجنسيات الأخرى لتتسلّى. قيل إنه يدرّ من الأموال ما يعين السلطة على تحمّل أعباء السنوات العجاف بعد أن تراجع الدعم العربي وشحّ المال والماء والأمل.ا

بيت الشعر بأريحا: افتتاح سريع. تمجيد للشهداء. تمجيد للشعر وسلطان الكلمة. احتفاء بنا نحن الاخوة العرب الذين عبرنا إلى فلسطين والدم يراق شلاّلا وأرواح تزهق والعالم يتقن الفرجة. في اللحظة التي كنّا نفتتح فيها المهرجان افتتاحا رمزيا استشهد ثلاثة من شباب فلسطين على مرمى حجر من القاعة. اختزلت الكلمات. وكانت القاعة مليئة بالناس. كنت على يقين من أنهم لم يأتوا لسماع الشعر والأدب والنقد، بل جاؤوا لأنهم اعتبروا دخولنا إلى فلسطين في هذه الظروف ذا طابع رمزي إشاريّ. كانوا يعتبروننا جزءا من الوجدان العربي. ولا يمكن للمرء في مثل هذه الحال إلا أن يشعر بأنه ضئيل عاجز عن تقديم أيّة مساعدة عمليّة.ا 

 ثمّة كآبة ما تخترق الجسد وتطبق على الروح. رغبة في البكاء، رغبة في النشيج تستبدّ بك حين ترى كم هو قاس قدر الفلسطينيّ في هذا الليل العربي الذي مافتئ يزداد كثافة ودياجير. وكم هي مهـيـبة رسالته. ولا تقدر أن تفعل شيئا عمليّا.ا

*  *  *

نحن في السيّارات من جديد وهي تمرق سريعة في الشوارع الخاليّة إلا من بعض عابري السبيل. على الجدران شعارات تدعو إلى المقاومة وتمجّد الشهادة والاستشهاد. هي ذي أريحا الصابرة. رائحة بارود وصوت سيّارات إسعاف. فجأة فندق فخم يقف قبالة سلسلة الجبال الراسيّة مثل كائن خرافي ينتظر فرصة الانقضاض على الدنيا لسحقها مزقا وغبارا.ا

قرية أريحا السياحيّة:ا

فندق ومنتجع صحّي.ا

شارع بيسان قرب قصر هشام.أريحا فلسطين.ا

Jericho Resort

Village

Hotel&Spa

Near Hisham Palace, Bisan St, Jericho-Palestine

فلسطيني صاحب الفندق. العمال فلسطينيون. الترحاب فلسطينيّ مشوب ببعض من كرم الأنبياء. والمواجهات تجري هناك بعيدا عن الفندق. نحن في أحشاء الوحش إذن. والطريق إلى رام الله يعبر من تلك الجبال الراسيّة. أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر. المكان رحم الدنيا. لعلّ الحياة بدأت هنا. حتما بدأت من هنا. كائنات بحريّة خطت باتجاه اليابسة حين شرعت المياه في الانحسار. وبدأ العنف تاريخه الدمويّ. كائنات بحريّة كانت تحيا في هذا المكان. هنا عاشت. هنا تناسلت. هنا نفقت… المكان خرافة مدوّخة. أن تنام في فندق يقع على عمق 350 مترا تحت سطح البحر والبحر قحط وخلاء: هي ذي أريحا المكان الشبيه بخرافة قادمة من ليل الدهور.ا

هي ذي أريحا بوّابة فلسطين. الاسم لم يُمْحَ من الأرض إذن. كما لن يُمْحَ من ذاكرة أطفالنا. لقد تمّ محوه في الخرائط والعديد من المؤسّسات العربيّة. على يقين أنا من أن الذاكرة هبة من السماء. ليست الذاكرة مجرّد ملكة تحفظ الوقائع والوجوه. إنها إدراك مقاوم لسطوة الموت وسلطانه. والنسيان صنو الموت وسميّه وقناعه. علينا أن لا ننسى أبدا. ولكم هو عظيم أن يمتلك المرء ذاكرة. وهذا هو الصراع في بعده الإشاريّ العظيم. يافطة الفندق. كارت الفندق نفسها فعل مقاومة. وللتسميّة مفعولات التميمة والبلسم. أريحا، فلسطين، قصر هشام. كان الخليفة هشام يأتي إلى أريحا شتاء وكان للعرب وقتها كرامة.ا

 يتامى نحن في هذا الزمان. وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. للمكان ذاكرة تحميه. وصانعو السلام يطالبوننا بالنسيان وحشيّا ضاريّا. لن ننسى. من أين للنسيان أن يجد طريقه إلينا. في هذا المكان أرض فلسطين المجلّلة بالدم المراق والغضب تبنى ذاكرة المستقبل، ذاكرة الأجيال، وستكون هذه الذاكرة مدوّنة إشهاد واعترافات. محمد الدرة سيظلّ يحدّث عن العنف وحشيّا، عن القتل نظاميّا، عن القهر ضاريّا، عن ظلم حكّام من ذوي القربى خرّوا ساجدين للأعداء. إن محمدًا يشهد ويحرس ذاكرة الآتي، وللاسم دلالته الرمزيّة.ا

*  *  *

الثلاثاء 3 تشرين الثاني صباحا. سدّوا المنافذ إلى رام الله. الطريق إلى القدس مغلقة هي الأخرى. عسكر ودبابات. “هناك طرق ومسالك ترابيّة سنسلكها. لابدّ أن نغادر أريحا قبل المواجهات، يجب أن نسرع.” الفلسطينيون رفاقنا كانوا حريصين على سلامتنا وهكذا استحثّونا. لا يجب أن نصاب بأي خدش في أجسادنا. لا يجب أن يطالنا أي أذى أو أي مكروه. سنغادر أرض كنعان وأجسادنا سليمة تماما. لكن لا أحد سأل عن الروح.ك

روحي صارت دياجير وظلمات. حزن صامت عميق يداخل شغاف القلب. إحساس باللاجدوى. ماذا يمكن للمرء أن يفعل. كيف يمكن أن يكون عمليّا وهو لا يتقن غير الكلمات. حتى الكتابة في مثل هذه الحال خيانةٌ ودنسٌ، خزيٌ وعارٌ. كنت أدوّن جميع ما أرى. جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها خلسة. حملت معي من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب. كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى، كيف يكتبه محاطا بهالته الأسطورية دون أن يقع في نقل الواقع أو وصفه وصفا إخبارياّ مسطّحا يُفْقِرُهُ ويلغي كثافته، كيف يكتب جانبه السحريّ الأسطوريّ المروّع. الحياة أقدس من النص، والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات لا سيّما إذا كان الفعل أسطوريّا رسوليا على النحو الذي نرى.ك

*  *  *

أريحا الصابرة!ك

سلاما.ك

سلاما.ك

 لفندق جاور قصر هشام وأصرّ على أن يعرّف الجار والجيرة ويذكّر اليتامى من نسل هشام بأمجاد أريحا. وطوبى لنا!! طوبى للحزانى!!! طوبى لثعالب الأرض نائحة على ثعلب الصحراء الذي دنّس بأمر أمريكا اسم الفصيلة كلّها.ك

الطــريق إلى رام الله 

الوجهة رام الله. والجبال تزداد عتوّا عندما نتوغّل في الطريق الملتوية التي تخترقها. ليس طريقا هذا الخيط الاسفلتي الذي يمتد بين ضلوع الجبال دوائر والتواءات بل هو ثوب حيّة رقطاء نسيته هنا في بدايات الزمان.ا

حتما تمّ تشييع شهداء يوم الأمس. بالزغاريد شيّعوهم. وبعد قليل أمهات واخوة  وأقارب وأصدقاء سينخرطون في نوح مكتوم، نوح اختار أن يكون سرّيا نكاية بابنة صهيون الضالّة. ثمّة في هذا البكاء السرّي رسالة خفيّة إلى العرب المستسلمة تريهم كيف يلقى أحفاد الأنبياء حتفهم. وثمّة داخل هذا كلّه إصرار على تدجين الموت وقتل فجائيته وإلغاء طابعه المتوحّش الضّاري.ا

*  *  *

أربكت الحواس كلّها والروح أثقلت بالليل.م

 مرّة أخرى صورة محمد الدرّة. أريحا! يا أريحا الصابرة! يا قصر هشام! يا صديقي الشرطي الفلسطيني الذي كان من قبل فدائيّا سلاما. لم أسألك في غمرة عبور الصراط حتى عن اسمك فمعذرة. معذرة وسلاما.م

*  *  *

الساعة التاسعة صباحا. الشمس ساحت في السماء ناشرة نورا أصفر ثقيلا. حالما تخطو خارج بهو فندق أريحا المتلفّت صوب قصر هشام تتلقّفك الأرض طينيّة صفراء كلسٌ وملحٌ وصفرةٌ. ويبدو المشهد قياميّا تماما. لو صَوّتَ في السماء بوقٌ لسلّم المرء بأن نهايات الدنيا قد حان حينها. شيء كالزفير المكتوم تحسّه في الهواء يصّاعد من الأرض التي خزّنت في ترابها الموات لهب شمس البارحة. وها هي الشمس ذاتها تعاود الظهور من جديد مُقِرَّةً العزم على الخطب العظيم ذاته: إحراق كبد العالم. ما رأيته البارحة بعد عبور الجسر- الصراط  لم يكن مجرّد وهم إذن. ها هي الشمس تطلع شاحبة نورها أصفر معجون بالرماد. وها هي أرض أريحا وَجِلَة مأهولة بالخطوب قادمة من ليل التاريخ. والجبال، الجبال ما زالت هنا. لَسْتَ مطالبا بأن تنظر إليها. هي التي تأتيك… هي التي تداهمك وتقتحم جسدك ضخمة عاتيّة جرداء لا نسمة ولا حياة. خِلْسَةً تنظر إليها كأنك تسترق النظر إلى وحش مرعب تخشى أن تستفزّه فيرتدّ البصر كسيرا.م

*  *  *

نصعد الحافلة “مرحبا.. نوّرتوا فلسطين.. هلاَ! هلاَ بالاخوة العرب.. الطرق مسدودة بالدبابات والعسكر.. سنأخذ طرقا ترابيّة.. أهلين! يا مرحبا!… سنسلك الطرق، الطرق الترابيّة… طرق وعرة قليلا.. بعد قليل ستبدأ المواجهات…” يرتفع صوت المحرّك وتضيع كلمات السائق فتصبح كالتمتمتة أو الوشوشة “اليـ..هـود… استشهاد.. ومستوطنون…”م

 نحن الآن على الطريق باتجاه رام الله. بدأنا نصعد من أشدّ الأمكنة انخفاضا تحت سطح البحر باتجاه الدنيا. من العالم السفلي نصعد. الكلّ صامت. إنها مهابة المشهد. كانت الجبال تقترب. ها هي تزداد قربا. هي ذي تزداد قسوة وشراسة. أريحا بدأت تبتعد. بقع خضراء وبعض مبان. الكازينو يتراءى هو الآخر. لقطة من شريط سينمائي مدوّخ سيقف غودار مذهولا قدّام عبثيّة المشهد. أريحا صارت هناك. مذهلة ومدهشة تجربة الصعود هذه وأريحا هناك في الأسفل صابرة.م

*  *  *

  أريحـــا!م

 يا أريحا الصابرة. أحتاج قليلا من صبرك الربّاني فالروح محض عذاب. جسر على نهر. كازينو في أرض موات. قصر ينوح في السرّ ليلا على أمجاد من سكنوه. والشمس تعاود الظهور. رجفٌ يستبدّ بالأرض وليتَ نور القمر لا يضيء. طوبى لنا!! لكن من أين سيجد العزاء طريقه إلى الحزانى.م

*  *  *

ثمّة في تجربة الصعود هذه من أريحا إلى رام الله المتلفّتة صوب القدس، من العالم السفلي إلى الدنيا، شيء سحريّ يربك الحواس جميعها. قسوة الجبال، عظمتها، جدبها، عراؤها، هالة المهابة التي تجلّلها، كل هذا يجعلك تكاد تسلّم بأنك قفزت في العمى والكون لم يزل بعد سديما. بعد قليل، بعد برهة قد تنحني آلهة ما، قد يأتي ملاك ما، قد يتجلّى كائن أثيري ما ويقتطع من طين الجبال قسطا، حفنة أو حفنتين، ويبدأ التكوين. من هنا، من جبال أريحا يسهل الصعود إلى السماء. يكفي أن نحدّق قليلا وسندرك أن السماء تتكئ فعلا على هذه الجبال العارية من كلّ نسمة أو عشبة أو حياة. وليس غريبا أن يكون المعراج هنا من أرض فلسطين. ليس غريبا أن تنفتح السماء في وجه المسيح ويأتي روح الله نازلا عليه مثل حمامة وتدوي السماء بالصوت قائلا: “هذا ابني الحبيب الذي به سررت.” المشهد قاس ومروّع، فظاظة رقيقة، هشاشة صلبة، غلظة حانية، جبال صلبة مثل لعنة أبديّة، هشّة كجبال من الغيم الضارب إلى الصفرة، طين تجمّد: هذه هي جبال أريحا المتلفّتة صوب رام الله والقدس عروس المدائن ثكلى العواصم.م

*  *  *

الحافلة مكدودة تصعد من أشدّ الأماكن انخفاضا إلى قمم الجبال، الطريق يمتدّ ثـنيّة بين ضلوع الأرض. ثمّة شيء خرافي، ثمّة شيء إشاريّ مدهش في تجربة الصعود هذه، الجبال يمينا ويسارا مهيبة مجلّلة بالصمت والقحط، مسخوطة تبدو ومتحرّكة. يكفي أن يستسلم المرء قليلا لحواسه ويتملّى ما يراه دون أن يعَقْلِنَ المشهد وسيشعر بأنه في حضرة كائن أسطوري مروّع، كائن خرافي يتحرّك في ثقة وتؤدة وثبات باتّجاه كون أزمع على أن يهلكه. غير أن هذا الشعور سرعان ما يتراجع ويتحوّل الوحش المخيف إلى كائن خرافي مسكون بأسى لا يطفأ.م

 الأبديّة هنا في هذا المكان متوارية خلف غلالة شفّافة، غلالة في منتهى الرقّة، لو خدشنا الهواء الجاف قليلا لوجدنا أنفسنا هناك في الماوراء حيث نهر الأبديّة ودموع بني البشر أجمعين. جبل التجربة أحد هذه الجبال الواقفة في المهبّ ما بين المادي الصلب والأثيري الشفاف. على اليسار قليلا بناية بيضاء تبدو كأنها تتشبّث بالجبل، بالكاد تتماسك ولا تسقط. إنه دير قرنطل المحتمي بجبل التجربة. دير صغير، دير معلّق يجاهد الأفول متلفّتا إلى الهاوية. لو هبّت نسمة من هواء لتداعى؛ ولكان سقوطه عظيما.م

الأبديّة متوارية خلف غلالة رقيقة حتى لتكاد تتراءى من خلال المكان من فجوات في الهواء. لا بدّ أن يكون يسوع المسيح قد عاش هذه اللحظة. لابدّ أن يكون هذا المكان موطنا للأنبياء ومرتعا لنجوم السماء. هي ذي جبال أريحا إذن: مكان محمّل بالاشارات، غابة من رموز وإيماءات. لا يمكن للمرء أن يعبر من هناك ولا يرى بعضا من تلك الإشارات والإيماءات التي تملأ المكان قسوةً ومهابةً وهشاشةً. فالمشهد يربك الجسد ويدوّخ الحواس. وحيدا خاض يسوع المسيح التجربة في هذا المكان. ظلاله ما زالت في المكان مثل رَفّ جناح… جناح خُطَافٍ شهد فعال ابنة صهيون الضالّة فاتّشح بالسواد. بعد قليل سيدقّ اليهود لحمه بالمسامير صدئة. سيصعد إلى الجلجلة. وبعد قليل يوم الاربعاء 4 تشرين الأول سنة 2000  حين  نكون في فندق  “باست إيسترن” برام الله سيدخل شابّ فلسطيني فزعا ويخبرنا أن المستوطنين قد أمسكوا فلسطينيا ودقّوا المسامير ذاتها في جسده.م

هكذا يتّخذ الحلم طابع الكابوس ويلتحف بجميع سماته. يكفي أن يحدّق المرء قليلا في الجبال الجرداء، في صفرتها الشاحبة المعجونة بالرماد، في الكيفيّة التي تتماسّ بها ويتكئ البعض منها على البعض الآخر فيما هو يواصله، حتى يخيّل إليه أنها جبال متحرّكة، جبال تزحف باتجاه فلسطين تريد سحقها نهائيا ثم تطحن الكون بأسره. من هنا سينتهي العالم.م

وأحفادنا نحن العرب المطاردون والمقهورون الصابرون سيحضرون تلك اللحظة الجلل. لن تهنأ ابنة صهيون. ولن تخلد إلى الراحة أمريكا. فالدم صارخ في البرّية.م

صرنا في الأعالي، عبرنا الهاوية. حين تلتفت باتّجاه الجبال وقد صارت بعيدة تراها جبالا متحرّكة تحثّ الخطو وراءنا وهديرها المكتوم يطبّق الآفاق. يتغيّر لون الأرض. يصير التراب أحمر ضاربا إلى السواد قليلا. شجيرات زيتون هنا. شجيرات هناك. ولاشيء يشدّ العين على الطريق المؤدّية إلى رام الله التي تتفرّع عنها الطريق المؤدّية إلى القدس وبيت لحم وبيسان غير الحجارة. حجارة وصخور مرمية على الأرض مثل قطعان من الأغنام والماعز وصغار أبقار خرجت للتوّ من شكيمتها. أحجار من كل الأحجام. حجارة تكاد تغطّي أديم الأرض كلّه. لكأن الأرض زلزلت زلزالها. لكأن هذه الأحجار هي أثقال الأرض مقذوفة في العراء.م

هي ذي أرض رام الله. على قمم الجبال المجاورة يلمع قرميد المستوطنات. على كلّ الجبال المحيطة بالقدس مستعمرات بنيت بالطول لا بالعرض فصارت عبارة عن سور أفعواني ضخم يحيط بالقدس والقرى المجاورة لها. الكنعانيون القدامى كانوا يقيمون على رؤوس الجبال ويتّخذون منها دروعا وأحصنة، وها هي ابنة صهيون تسرق منهم طريقتهم في بناء المدائن والقرى. اتفاقيات أوسلو التي ترقد الآن في الرفوف كسيرة النفس مخذولة ككل أحلام العرب نصّت على ضرورة تفكيك هذه المستوطنات. ومنذ تلك اللحظة التي صافحت فيها الضحيّة قاتلها والمستوطنات تزداد اتساعا وتحكم الطوق حول القرى الفلسطينية متقدّمة باتّجاه القدس تريد خنقها.م

*  *  *

هي ذي فلسطين.م

 لا عسل ولا لبان ولا مرّ. وإنما هي حجارة منثورة وصخور تطلّ برؤوسها من الأرض لتشهد على قسوة المكان. يقال إن شمال فلسطين يشبه جنات من تحتها تجري الأنهار. لن نذهب إليها وتلك حكمة صهيون. من أين جاءت أرض رام الله بكلّ هذه الصخور، من أين أتت بكلّ هذه الحجارة. لكأننا في كوكب آخر. لكأن الأرض تحثّ بنيها على استخدام الحجر سلاحا. حين ترى هذا الكمّ الهائل من الأحجار منثورا على الأرض يداخلك الشكّ في أن انتفاضة الأقصى وانتفاضة يوم الأرض وكلّ الانتفاضات التي دوّخ بها الشعب الفلسطيني العالم ليست فعلا اختياريا أتاه شعب محاصر بالليل، بل هي تلبية لنداءات الأرض. تكاد تسلّم بأن الأرض تطرح كنوزها أحجارا وصخورا والفلسطينيّ يلبّي النداء. فالأرض هي التي ترجم ابنة صهيون الحاقدة بالحجارة. ليس الفلسطيني سوى وسيلة في معركة الأرض ضدّ غزاتها، وسيلة اتخذتها الأرض لترجم بأحجارها بنت صهيون الحاقدة. هذه الأرض المزروعة صخورا وحجارة، هذه الأرض المسخوطة هي نصيب الفلسطينيين من كلّ فلسطين. ولنا أن نفرح. لنا أن نهلّل. وطوبى للحزانى لأنهم عند الله يتعزّون.م

*  *  *

شارات مرور إرشاديّة: أورشليم القدس  بيسان- بيت شآن- رام الله. عسكر ودبّابات. يتقدّم الجند. يقومون بإشارات. فوهات رشاشاتهم موجّهة نحو الحافلة. يفهم السائق أن العبور ممنوع. يتراجع قليلا ويعود ثم ينهال بالسباب والشتائم: “أوغاد.. سفلة .. سنسلك طريقا ترابيّة… وحياة المصحف راح نمرق رغما عن أبيكم… هذا طريق القدس.. يلوّح في الهواء بقبضته.. رأيتم كيف نحيا… حياتنا معهم هيك.. كل يوم هيك..” تدخل الحافلة مسلكا ترابيا ملتويا وتشرع في الصعود والسائق ما زال يلعن أم اليهود وخالاتهم من الرضاعة والأمم المتحدة.م

هي ذي رام الله:م

مجموعة هضاب ملتفّتة حول حشد من المنخفضات. أشجار وطرقات وبيوت من الصخر. قبل اتفاقات أوسلو كان البناء ممنوعا. ترميم البيوت ممنوع هو الآخر. أما بعد الاتفاق فقد صار بإمكان الفلسطيني في رام الله أن يبتني تحت الشمس سقفا. من تداعى بيتـه للسقوط فبإمكانه أن يرمّمه ولا خوف عليه من الجند وباراك وشارون وإلوهيم ربّ الجنود آكلات لحم بني البشر. مجّد اسمك أوسلو!! وللحاكم العربيّ أن يزدهي بفعاله وصنائعه. له أن يسير مخفورا بالدم وخسران العرب أجمعين. أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء!! هيكل وهمي ويهود مثل قردة مخبولة يهزّون الرؤوس فتضحك أمريكا.م

*  *  *

وصلنا إلى منطقة البيرة. بلدة متكئة على رام الله. بلدة تقع على خطّ النار. درع واقية لرام الله. بيوت من طوب رماديّ. بيوت وبنايات كتلك التي تراها في مخيّمات الفلسطينيين عادة ولست تدري هل هي كئيبة أم مقفلة بالوجع والأسرار. رفع السائق علم فلسطين، وعلّقه شرع العلم يرفرف حفيف أجنحة ووشوشات. في مدخل البيرة سيارة محروقة. “هاي سيارة أحد المستوطنين. الشباب أحرقوها أمس. جاء ليطلق عليهم نارا” قال السائق مبتسما. حجارة مرميّة هنا وهناك على الطريق الاسفلتي المغبرّ. أطفال لم يتجاوزوا السابعة من عمرهم يجّمعون الحجارة بالقرب من السيارة المتفحّمة.م

ثمانية أطفال، تسعة، لا، هاهو طفل آخر يأتي راكضا وهو يدحرج  إطار عجلة سيّارة. يضع الإطار قرب كومة الأحجار. ويهمس لرفاقه شيئا فينخرطون في ضحك طفولي عابث. أحد الأطفال استلقى على ظهره من شدّة الضحك وبدأ يفحص الأرض بقدميه. في الزاوية قدّام بيت متداع بابه مفتوح قليلا هناك بنيّة صغيرة على عتبة الباب تلبس مريلة صفراء وقفت تراقبهم. تفرك عينيها بيد. وبالأخرى تسوّي جديلتها. يطفح القلب بأسى مهلك صامت مبيد. لو أنه بإمكان المرء أن يوسّع بين جدران الروح مكانا لهذه البنيّة. لن أعرف اسمها أبدا. لن أراها ثانية. هذه حكمة أبناء صهيون. وهؤلاء أحفاد صلاح الدين نسل الأنبياء, والمقدّس فيهم قد تجلّى. الروح صارت خرابا. محمد الدرّة من جديد والدمع الحبيس يحزّ شغاف القلب. بالكاد ترى البيوت المتراصّة على جانبي الطريق. لكأنها ترقص في بحيرات من الدمع. الدمع حبيس والروح خرقة وصدأ. وطوبى للحاكم العربي جلاّدا وسفّاحا وأشياء أخرى.م

*  *  *

 الحافلة تعبر. أفهمنا السائق أنهم يعدّون لمواجهات ما بعد الظهر. دخلنا رام الله وشوارعها مقفرة إلا من بعض العابرين. الدكاكين مغلقة والإضراب عامّ. على الجدران شعارات تمجّد الشهداء، ملصقات نعي، ملصقات شباب خطفهم الموت فصاروا شهداء. شباب في زهرة العمر ينظرون إلينا مبتسمين. صور بالألوان لشباب مضوا في الشوط إلى أقصاه. فجأة فندق  “باست إيسترن” برام الله. شباب مسلّحون من فرقة الـ17 الشهيرة أمام الفندق يراقبون السيارات متحفّزين لأي طارئ. هي ذي رام الله. وغدا سيكون نهار آخر. سنمرق من وادي النار إلى بيت جالا، ومن بيت جالا إلى بيت لحم، إلى كنيسة المهد. سنزور بيوت العزاء في بيتونيا والبيرة ومخيّم الأمعري. وللحكاية أن تواصل نسج فصولها.م

درب الآلام

يوم الثلاثاء 3 تشرين الأول 2000 الساعة العاشرة صباحا. حين وصلنا قدّام مشفى رام الله. الشعب الفلسطينيّ كان هناك يذرع الساحة في اتجاه باب الخروج مجلّلا بالغضب. كان الموكب مهيبا. فلسطينيون من كلّ الأعمار. أطفال وشيوخ وشباب يتقدّمون واجمين. تنحّينا جانبا لأننا كنّا نتقدّم في الاتجاه المعاكس نريد الدخول إلى المشفى لعيادة الجرحى. الموكب مهيب ومروّع. هو ذا العلم الفلسطيني وقد غدا كفنا. على الأكتاف شاب في ربيع العمر مسجّى في الأسود والأخضر والأبيض والأحمر. هو ذا شهيد ثان. الكفن ذاته. الوجه مكشوف. والفتى الثاني، الفتى الذي خطفه الموت يبدو نائما مثل الفتى الأول تماما. الفلسطينيون يكفّنون شهداءهم هكذا. يتركون الوجه مكشوفا يواجه السماء. كأنهم يولّونه للسموات كي تراه، كي تحفظه، كي لا تنساه أبدا بعد أن ضاقت الأرض به. الموكب مهيب مروّع. شيء في قاع الروح يتفتّت. دمع حبيس يحزّ شغاف القلب. يرقص المشفى كلّه في بحيرات من الدمع الحبيس في عينيك. ستصوّر الجنازة وستتناقلها الفضائيات. هو ذا الموت فرجويا متوحّشا قاسيا فظّا بدائيا ساديّا همجيّا عاتيا ضاريا فاجعا. هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب. الأرض لم تصب بقشعريرة ولا باندهاش. إنها تأكل بنيها.م

في أروقة المشفى ومدارجه نساء يدارين الوجع.. أطفال جاؤوا لعيادة جرحاهم.. رجال.. شباب.. المشفى مليء بالناس. كأن الشعب الفلسطيني كلّه هنا يعود جرحاه. فيما الشعب الفلسطيني الآخر ذهب يشيّع الشهداء المقتّلين. شهداء قتلوا بالرصاص. ثم قتلوا بالصمت العربي. ثم قتلوا بلامبالاة الدنيا قاطبة. أنا على يقين من أن الانتماء إلى الجنس البشريّ جناية لن تغفرها السماوات. ندخل إلى غرف الجرحى.. المشهد يخلع القلوب.. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة رافقنا من غرفة إلى غرفة. في كلّ غرفة أسرّة. وعلى الأسرّة يرقد الشعب الفلسطينيّ جريحا. رام الله كلّها هنا. أطفال جرحى.. كهول جرحى.. شباب.. المشهد يخلع القلوب.. قوارير الأوكسجين.. خراطيم في الأفواه.. خراطيم تنتهي بإبر حادّة مغروزة في عروق الأذرع.. بعض الجرحى في حالة موت سريري…. الطبيب الجرّاح فوزي سلامة شخص نشط متفان في خدمة ناسه وشعبه. لقد أنقذ العديد من الجرحى من هلاك محقّق. صارع الموت مرارا وغلبه أحيانا. كان يحدّثنا بفرح طفوليّ مشوب ببعض من حزن الأنبياء عن كيفيّات نجاحه في طرد الموت وإعلاء الحياة. ارتعش صوته حين تحدّث عن تلك اللحظات التي غلبه فيها الموت وافتكّ منه شابّا أو طفلا أو قطعة من بدن.م

 مكتب الدكتور موسى أبو حميد مدير المستشفيات. ندخل. يرحّب بنا نحن الاخوة العرب. يحدّثنا عن عدد الإصابات. “إنهم يريدون ترويعنا فيقتنصون الأطفال. لقد بلغت نسبة المصابين من الأطفال 52°/° ونسبة المصابين من الذين أعمارهم أقلّ من الثلاثين سنة 98°/°.” هكذا حدّثنا متوتّرا. تدخل ممرّضة شابّة حسناء. خفر وجمال تجلّله الأحزان. تعتذر وتهمس في أذن المدير شيئا مّا. “سنخبرهم في ما بعد هاي مصيبة. لا تخبريهم الآن. إنه وحيد والديه”. هكذا قال لها فخرجت مجلّلة بالوجع ذاته مخفورة بالبهاء ذاته. أرانا ما يسمّى الرصاص المطّاطي. رصاص حقيقي مغلّف بقشرة مطّاطيّة لا يتعدى سمكها ميلميترا واحدا. على كلّ رصاصة وضعت ورقة تحمل اسم المصاب الذي طاله الغدر.م

 حين غادرنا المشفى كانت الشمس في الأعالي قرصا أحمق عاجزا حتى عن القشعريرة والرّجف والأفول قدّام كلّ هذا الويل. لو كان في هذا القرص الناريّ الأبله بعض من حنان لانهار على الأرض وسحقها. متى ينتهي العالم؟ متى الدنيا تنتهي؟ الحياة فسدت. وهذا الكوكب الأرضي يمتلئ بالشرور والدياجير ويهوه ربّ الجنود يكشّر عن نابه الأزرق. لا يجب أن تنتهي الحياة إكراما للذين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة. أنا على يقين من أن أمريكا ستظلّ تدحرج العالم باتجاه الهاوية حيث لاشيء غير الموت وصرير الأسنان. فالصهاينة ومن ورائهم أمريكا وكلّ قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب يريدون أن يقنعوا الناس بأن الفلسطينيين هم الذين يحملون أجسادهم ويضربون بها الرصاص الصهيوني النائم في الرشاشات. وهم الذين يستفزّون الموت الغافي في الصواريخ والدبابات وقلب ابنة صهيون. وليس الجند المدجّجون بالضغينة والحقد هم الذين يقتلون الأبرياء قدّام العالم. شريك في الجريمة هذا العالم الذي يكتفي بالتفرّج على الدم العربيّ مراقا. ثمّة حرص على الإقناع بأن الفلسطيني يعاني من عقدة الحياة والجندي الإسرائيلي يخلّصه من تلك العقدة عندما يطلق عليه النار ويرديه قتيلا. وهذا هو منطق الإنسانيّة في مطلع الألفيّة الثالثة.م

اتفاقيــات تذروها الرياح

قبل رحيله إلى باريس بحوالي ثلاث ساعات وجّه إلينا الدعوة. وها نحن في الطريق إليه. “الختيار” يسميّه الفلسطينيون تحبّبا. وحين يغضبون أو يعتبون عليه يصبح اسمه ياسر عرفات أو عرفات فقط. لقب ولا اسم. ينادونه أيضا الأخ أبو عمار. ويحلو للبعض أن ينعته بالقائد الرمز أو السيّد الرئيس بحسب السياق والمقام. وبعد ما سمّي من قبيل السخرية السوداء بقمّة كامب دايفيد الثانيّة جاب “الختيار” الدنيا بلدا، بلدا. ذهب عند العرب الذين مازالوا يسمّون أنفسهم الأشقّاء (وحدث أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله في شهر أيلول ثم وارى رفاته في جرش. ثم جرجر الرفات وواراه في تل الزعتر. ثم امتلأ قلبه بالضغينة فمزّقه إربا وزّعها بالتساوي على العواصم العربيّة وخلد إلى الأمن والراحة. وكان أن قال الربّ لقابيل: أين أخوك؟ فقال: لا أعلم أحارس أنا لأخي.) زار “الختيار” ملّة النصرانيين والهندوس وملّة يقال لها ملّة المسلمين. دخل بلاد السند والهند والصين، ووصل ذات مساء حتى أقاصي أفريقيا السوداء؛ حتى نيلسون مانديلا الذي خبر في سجنه الويلات كلّها نصحه بالتريّث. فقفل راجعا إلى ناسه في غزّة والضفّة.ك

بناية متواضعة، خمسة طوابق. مدخل كبير قدّامه بعض الشباب يحملون رشّاشات ويبتسمون مرحّبين. باب حديدي يفتح. يدور الباب على صائره محدثا صوتا أصمّ. تمرق السيارات. الطابق الرابع. ندخل قاعة صغيرة. في الوسط ثمّة مائدة في منتهى الصّغر عليها منفضة سجائر. استقبلنا مبتهجا. جلس في وسطنا على تلك المائدة نفسها. وبنبرته المتهدّجة دائما حرص على أن يشكر الجميع ويشكر الأمة العربية. تفهم من كلامه أنه مبتهج بالانتفاضة لاعتقاده أنها ستسقط من جديد أقنعة ابنة صهيون الضالّة، فينكشف الجحيم المتكتّم على نفسه في صميم فكرة دولة بني اسرائيل، فالفكرة ذاتها مضرّجة بالويلات والشرور والدم المراق. كان يحدّثنا مبتهجا وهو على يقين من أن صورة محمّد الدرّة وحدها كفيلة بأن توقظ في الدنيا بقايا من إنسانيّة. لكنه سيمضي إلى باريس. ومن باريس يشدّ الرحال إلى شرم الشيخ. من شرم الشيخ سيعاود الرحيل مكدودا إلى قمّة جمعت ما تبقّى من العرب العاربة وأختها العرب المستسلمة. ومن هناك سيعود منكسر النفس إلى ناسه وبلده. فالعالم بأسره قرّر أن يكتفي بالتفرّج على الدم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قيامي مروّع باتجاه المقابر. وطوبى للحاكم العربي سفّاحا وأمّيا وأشياء أخرى. ومجّدت أمّة العرب. فهذا زمن الموظّفين وأمريكا. جاء جيل الموظّفين ليسود ويحكم ويمضي بالعربة حثيثا باتجاه الهاوية. “كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت.” وطوبى للحزانى. مُجّد اسمك أوسلو. مُجّد اسمك أمريكا يا قاتلة نسل الأنبياء.م

في البناية ذاتها استقبلنا أبو مازن. تحدّث طويلا عن المفاوضات والمواقف الصلبة التي أبداها المفاوض الفلسطيني. لم أفهم إلى الآن ماذا قصد الأخ أبو مازن بقوله: “إن الدول تبنى بالمحاكم. ونحن الآن بصدد إعداد قانون وتأسيس محكمة فلسطينيّة.”  كان ذهولي عظيما لا سيّما أنني لا أفقه في تأسيس الدول شيئا يذكر. أنا المنتمي إلى هذا الجيل المكلّلة أيامه جميعها بالسواد وطعم النحيب أشهد أنني لم أفهم. وأشهد أنني أعرف أن المفاوض الاسرائيلي سيظلّ يفاوض مستحضرا مكر ابنة صهيون التي دوّخت السماء من أجل بقرة صفراء فاقعٌ لونها. فما بالنا إذا كانت المسألة تخصّ الأرض والربح والغلبة والقهر. المفاوض الصهيوني يدرك تماما أن المسائل التي يتفاوض في شأنها مع السلطة العائدة كثيرة متنوّعة. فإذا استغرقت كلّ نقطة عشرين سنة من التفاوض، سيعود المسيح في نهايات الزمان وسيجد المفاوضات مازالت في بداياتها. والمستوطنات قد وصلت حتى بلاد شنقيط موريتانيا العظمى وسحقت جزيرة العرب نفسها. مُجّد اسمك أوسلو. وطوبى لأمريكا! طوبى للجريمة. طوبى للعواصم العربيّة ثكلى مكلّلة بعار لن يطفأ الدهر كلّه.م

*  *  *

اتفاقات تذروها الرياح زبدا وطواحين ريح. وفي رفح شباب يواجهون العسكر بالحجارة ويقتلون. في الناصرة والجليل وفي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله والبيرة، المشهد ذاته في قلقيلية وطولكرم. حجر يواجه دبّابات ومروحيات، في غزّة وجنين ونابلس. غضب وحجارة في كلّ فلسطين… دبّابات وحجارة.. عساكر.. جنائز تسير خببا باتّجاه المدافن. نسمة من جنوب لبنان المتلفّت باتجاه شمالك فلسطين.. نسمتان ونرجس:م

الإمام علي بن أبي طالب لم يدفن. على فرس أبيض ما زال يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. كان الإمام فارسا بطلا صنديدا دوّخ جند الأعداء. سيفه كان بتّارا. في ساحات الوغى كان الإمام علي يضرب الفارس فيشطره هو وفرسه شطرين ويتوغّل السيف في الأرض يكاد يبلغ منها الرحم والأحشاء. كانت الأرض تألم وتتوجّع ويصدر عنها صوت كزفير الجحيم وهي تتوعّد الإمام قائلة: “يأتيك يومك يا عليّ.” الأرض كانت قد أضمرت شرّا عظيما، وأقرّت العزم على أن تثأر لنفسها منه يوم يموت ويقبر في ترابها. قتل الإمام وهو يصلّي صلاة العشاء. قتل غيلة. فكان أن بكاه أهله والمسلمون والدنيا أصابها رجف وسمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب.م 

 وكي لا يتمّ ما به توعّدت الأرض الإمام، كي يدرأ الشرّ الذي أضمرته، كفّنوه ووضعوه على سرج فرسه. فانطلق الفرس الأبيض يسابق الريح خفيفا كفرس من أثير معجون بالنور. الفرس سيظلّ يجوب الأرض حتى نهايات الزمان. والإمام لن يترجّل إلا يوم القيامة. فيكون عدل؛ وتبدأ الحياة الأبدية؛ والموت يموت ذبحا. كانت الزهور والورود كلّها قد خلقت في الأيّام الستّ الأولى التي ابتدأ فيها الخلق. النرجس لم يكن من بينها. خلق النرجس بعد مقتل الإمام. أزهار النرجس صارت تنبت في مواضع حوافر فرس الإمام الشهيد. كلّ نرجس الدنيا هو البشارة، وهو الأمارة على أن الفرس ما زال يجوب الأرض ملتحفا بالغياب يتراءى وبالكاد يرى.م 

هكذا حدّثوني عندما كنت طفلا. وأنا رأيته، رأيت الفرس يمرق في الأيام الشتائيّة الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا، كثيرا ما كنت أراه. هذه حيل المتخيّل الجماعي في تمجيد الحقّ ومن ناصروا العدل. ولكني رأيته في طفولتي يمرق بين الهضاب والجبال. ويبدو أنه كان هناك في جنوب لبنان يوم ابنة صهيون الضالّة هربت لا تلوي على شيء.م

بيــوت العـــزاء

وصلنا إلى البيرة بعد الظهر عبر طريق ترابيّة وعرة. حفر ومطبّات. سيّارات وشاحنات وجراّرات أرغمت كلّها على أن تتسلّل إلى حاجاتها ووجهاتها عبر هذه المسالك الترابيّة. وهذا جزء من حكمة ابنة صهيون وعدالتها. خيمة كبيرة سويّت على عجل. أعمدة خشبيّة كسيت بالأبيض والأحمر والأسود، خيمة مستطيلة تتوسّط البيوت تحتها ناس كثيرون. هو ذا الشعب الفلسطيني يتقبّل التعازي. أب مثقل بالهمّ يداري الوجع ويصافحنا محتفيا بالاخوة العرب. أب فقد طفله البارحة وجلس اليوم هنا يتقبل التعازي. “شرف لي أنني قدّمت ابني فداء لفلسطين ولكرامة الأمّة العربيّة.” هكذا ظلّ يردّد وهو يصافحنا ويتقبّل تعازينا. عيناه زائغتان. على ملامحه مسحة من ذهول. وتلك ضراوة الموت. ذاك طابعه الكاسر المتوحّش. الأب لم يصدّق بعد أنه لن يرى طفله ثانية أبدا. لم أرفع رأسي كي أرى الملصق. لم أجرؤ على النظر إلى صورة الشهيد. هنيهة،، برهة،، رعشة في المفاصل وتستجمع بقيا من صبر. ترفع عينيك إلى الملصق. طفل عمره 13 سنة. صورة بالألوان والطفل يبتسم. ألوان علم فلسطين. لم ترتجف يد قاتله. تقرأ في أسفل الصورة الشهيد البطل محمد نبيل علي حامد. تدوّن الاسم خلسة كي لا تخدش مهابة الموقف. الذّاكرة ازدحمت بالتفاصيل والويل وقد أنسى الاسم لا سيّما أن أغلب الأطفال الذين سقطوا يحملون اسم محمد. دوّنته خلسة. قتل الطفل ولم ترجف يد قاتله. القنّاص الذي أرداه قتيلا برصاصة في الرأس لا بدّ أنه يحتفل الآن بأمجاده وبطولاته. نغادر المكان في صمت. نحثّ الخطو كأننا نبتعد عن مكان الجريمة. كأننا شركاء فيها. كأننا مورّطون. يكفي أن تكون هنا؛ يكفي أن تعيش مهابة الموقف وترى فظاعة الفقد في عيني الأب الثاكل؛ يكفي أن ترى الهالة التي تحيط بعيني الطفل القتيل الذي ظلّ يرقبنا من الملصق مبتسما؛ يكفي أن تتخيّل روحه وهي ترفض أن تأخذ طريقها إلى مملكة الموت لأن الصبيّ لم يستكمل بعد ألعابه وضحكاته وشيطنته على مقاعد الدرس- يكفي أن تأتي وترى- حتى تشعر أنك مورّط في هذه الجريمة.م

كانت الشمس قد مالت إلى الغرب قليلا وشرعت ترسل خيوطا صفراء فاقع لونها حين وصلنا إلى بيت على منحدر في بيتونيا. فلسطينيون هنا أيضا. الشعب الفلسطيني جالس على كراس يتقبّل العزاء. الأب في الوسط مجلّل بحزن لا يمكن أن يطفأ. نقدّم التعازي. ثم نجلس. الكراسي بالكاد تتماسك فوق الأرض. لافتة كبيرة مثبّتة على عمودين خشبيين كتب عليها: حركة فتح تنعى بكل فخر واعتزاز شهيدها البطل محمود إبراهيم العموسي. شاب بيده فناجين وإبريق يقدّم لنا القهوة مطيّبة بالهال. في مخيّم اليرموك بدمشق تعلّمت من الأصدقاء الفلسطينيين أن من لا يرغب في الاستزادة من هذه القهوة المرّة  يجب أن يمسك الفنجان بإصبعين، السبابة والإبهام، ويحرّكه يمنة ويسرة فيفهم الساقي المضيّف أنك أخذت كفايتك. وإن لم تفعل فإنه سيظلّ يملأ فنجانك كلّما انتهيت من احتسائه. فيما كنا نغادر المكان وصل شباب من قوة الـ17 ليؤدّوا واجب العزاء فالشهيد محمود العموسي رفيقهم في السلاح عمره 23 سنة وقد استشهد الليلة الماضية على الساعة الواحدة والنصف. عندما صعدنا الحافلة بدأ السائق يناور كي يديرها فكادت تهوي في المنحدر. لو فعلت لكان سقوطها عظيما، ولابتسم يهوه في الأعالي نكاية وشماتة بالاخوة العرب الذين قدموا إلى أرض كنعان  فيما أحفاد الكنعانيين والنبيّين من الفلسطينيين يتسابقون إلى الموت إعلاء للحياة وتمجيدا للحياة.ك

*  *  *

شعاع،، شعاعان،، قرص أصفر في غاية البلاهة يختفي يسيرا يسيرا وراء الهضاب. الشمس غابت تقريبا حين وصلنا إلى مخيّم الأمعري المأهول بالرفض والإصرار. على الجدران شعارات تمجّد حركة فتح… شعارات وقّعها أنصار الديمقراطيّة والشعبيّة والجهاد وحماس تذكّر بالكفاح المسلّح طريقا إلى فلسطين. شعارات تمجّد الشهادة والشهداء وتحقّر إيهودا باراك مجرما وشارون جزّارا وتدعو إلى تحرير كلّ فلسطين. شعارات تندّد باتفاقيات أوسلو وبالسلطة العائدة للتوّ من تيه دام دهرا في بلاد تسمّى المشرق العربي والمغرب العربي.. شعارات تندّد بالأنظمة العربيّة المتخاذلة.. شعارات أخرى تتوعّد بالويل والانتقام كلّ من تسوّل له نفسه أن يروّج المخدّارت.ك

 بعد أن ترجّلنا من الحافلة في مدخل هذا المخيّم المليء بالحياة صاخبة هدّارة مفتوحة على كل الاحتمالات وصلنا إلى مركز شباب الأمعري. ناد رياضي واجتماعي وثقافي للمخيّم. داخل ملعب كرة سلّة فسيح وواسع جدّا حتى لكأنه على استعداد في كلّ لحظة للتحوّل إلى ملعب كرة قدم وضعت الكراسي تحت الجدران المحيطة بالملعب. وعلى الكراسي جلس الشعب الفلسطيني واجما. هي ذي اللافتة المحتفية بالشهيد. هو ذا الملصق وقد ذيّل بالعبارة ذاتها، بالتميمة ذاتها: مخيّم الأمعري ينعى الشهيد البطل عماد عبد الرحمان توفيق العناني. عائلة الشهيد، الأب والاخوة اختاروا لهم مكانا في مدخل الملعب. تعاز. دمع حبيس. من مكبّر صوت يأتي القرآن مرتّلا. آيات تذكّر بأن الذين قتلوا أحياء يرزقون. شابّ ملتح وسيم أوقف آلة التسجيل ورحّب بنا في لغة عربيّة أنيقة موقّعة كالنشيد. ندّد بالصمت العربي والتواطؤ العالمي. وسّع المسافة الفاصلة بين الأنظمة العربيّة وشعوبها ” الشعب العربي من المحيط إلى الخليج معنا.. لسنا وحدنا.. الشارع العربي معنا.. نحن نعلم هذا ونحفظ الأمانة.. لسنا وحدنا.. لسنا وحـ…ـدنا.” هكذا اختتم كلمته. عاد صوت المقرئ. بعد قليل سيتفرّق الجمع وستخلو عائلة الشهيد إلى الوجع ربّانيا.ك

 حين غادرنا مركز شباب الأمعري كان سيف الرحبي يمشي مذهولا ويهمس: “العدم الضاري ..العدم الضاري.” أنا سمعته ورأيته يجرّ الخطى مذهولا. من خلل الغيم المتناثر طلع قمر أصفر باهت الصفرة وبدأ يتسلّق السماء متعبا مكدودا. الفلسطينيون أحفاد الكنعانيين والنبييّن يعلمون علم اليقين أن يهوه مقرّ العزم على إبادة الحياة وعلى إفسادها وتحويلها إلى جحيم. وهم على يقين أيضا بأن يهوه يستدرج الحياة إلى الهاوية. وها هم يتسابقون إلى الموت لأنهم مؤتمنون على استمرار الحياة. من هنا تستمدّ المواجهة في ديارهم عنفها المدوّخ الضاري.ك

فلسطين يا بيت العرب. ذات ربيع رحل أوكتافيو باز. كتب شعرا ثم رحل. لست أنا القائل بل هذا الشاعر الذي اسمه أوكتافيو باز هو القائل: “لا يجب علينا أن نترك التماسيح الكبيرة تصنع تاريخ البشريّة. إنني لا أستبعد الانهيار الأمريكي، فالتاريخ لا يمكن أن يتحمّل إلى ما لا نهاية هذا الالتحام الهائل بين الموت والموت. لذلك أدعو دول العالم الثالث إلى العودة إلى الجوهر، وإلى الوقوف وقفة واحدة في مواجهة الجحيم.” حتما لم يكن أوكتافيو باز يدري أن الفلسطينيّ سيقف في مواجهة الجريمة وأمريكا وحيدا. ومحمود درويش، الشاعر الذي كان طفلا يحسب أن البرتقال ينبت في الصناديق، سيحرص كما شعبه على الترحاب بالأصدقاء العرب، يلغي سفره إلى باريس ويستبقنا إلى رام الله ليرحّب بنا في فلسطين، وهو الذي أعلن أن الجريمة صنو أمريكا فكتب وبيروت تتّقد نارا وصبرا:ك

وحدنا نصغي لما في الريح من عبث ومن جدوى
وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقوديّة
يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا
نعسنا
أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا
وأمريكا لأمريكا
وهذا الأفق اسمنت لوحش الجوّ
نفتح علبة السردين، تقصفها المدافع
نحتمي بستارة الشبّاك، تهتزّ البناية، تقفز الأبواب،ك
أمريكا
وراء الباب أمريكا.ك

وادي النار، الطريق إلى بيت جالا المتلفّتة صوب بيت لحم 

الإضراب في رام الله مازال متواصلا. والمدينة تبدو مقفرة خلاء لولا أبواق بعض سيّارات الإسعاف تملأ المكان ولولة بين الحين والآخر، فيما تردّد المباني صدى الطلق الناري القادم من تخوم المدينة ومدخلها الرئيسي حيث الحواجز والمواجهات. على الجدران ملصقات لشباب استشهدوا، بعضها قديم ألوانه باهتة، وبعضها فاقعة ألوانه كأنه ألصق هذا الصباح. وفي أسفل الملصقات كلمات تعرّف بأسماء الشهداء وتمجّد البطولة. على كلّ الجدران ملصقات لشهداء يبتسمون ابتسامات مجلّلة بالحزن. وتلك مفعولات الموت ضاريا كاسرا. يكفي أن تحدّق في العيون وستراها طافحة بهالة من سحر الموت وجاذبيّته وفتنته. الكلمات التي تمجّد البطولة والاستشهاد تبدو ذليلة لم تتمكّن من القضاء على فجائيّة الموت وضراوته وطابعه الكاسر. وعبارة “الشهيد البطل” التي تذيّل بها الملصقات ليست سوى تميمة تدرأ الوجع وتدجّن الموت، لكنّها لا تمحو طابعه المتوحّش الضّاري. فوراء عبارة الشهداء نفسها ثمّة شباب وأطفال سقطوا في العتمة. بيوت اجتاحها النوح. قلوب داهمها الوجع كاسرا. ثكل ودمع ولا عزاء.ك

وصلنا إلى البيرة عبر طريق ترابيّة وعرة. مطبّات وحفر من جميع الأحجام. على الهضاب المجاورة يلمع قرميد المستوطنات تحت شمس باهتة. ثمّة حشد من غيوم رماديّة بالكاد تتحرّك. يكفي أن تحدّق فيها قليلا. يكفي أن تديم النظر إليها وسترى يدا خشنة معروقة تمتدّ من خلال تلك الغيوم وتتوعّد الحياة نفسها بالويل والخراب. إنها يد إلوهيم، يد يهوه ربّ الجنود المأخوذ بالدمّ الفلسطيني. ليست زخّات رصاص هذه التي تدوي في الجوّ. إنها قهقهة هذا الربّ العائد من ليل التاريخ مخفورا بخسران بني البشر أجمعين. كانت الحافلة تعبر وادي النار. والطريق ترابيّة ملتوية. ويهوه ربّ الجنود من هناك يراقب المشهد ممنّيا النفس بمزيد من الدم الفلسطيني.ك

 فجأة حفنة من بيوت،، حفنتان على هضبة. الهضبة تصير هضابا والبيوت تزداد وضوحا. بيوت معلّقة على مرتفع من الأرض. بيت جالا، بيت لحم حيث يقيم الفلسطينيون. ومستعمرة جيلو المأهولة بنسل ابنة صهيون شذّاذ الآفاق. على بعد عدّة فراسخ لا غير من بيت لحم وبيت جالا يربض الوحش الصهيوني مدجّجا بالليل في مستعمرة جيلو المزروعة في المكان هزءا ورزءا.ك

عبرنا بيت جالا. مدينة في حجم بلدة مبنية على الصخر. الشوارع مقفرة تماما والبيوت مقفلة على نفسها. يقال إن ناس هذه المدينة يستدرّون من الكروم نبيذا يزيل الصدأ عن الروح ويطهّر الجسد. ولا بدّ أن تكون الخمر التي قدّمها المسيح لتلامذته كي يباركهم مجلوبة من هذه الديار المقفلة بالأسرار. وحتما شهدت بيت جالا خطى يوسف النجار وهو يسوق حماره ويحثّ الخطو باتجاه مصر. من هنا مرّ المجوس أيضا. ومن هنا مرّ النجم الذي كان يتقدّمهم دليلا وبشارة حتى موضع كنيسة المهد حيث المغارة التي شهدت مولد يسوع. كنا نعبر باتجاهك بيت لحم. وكان يهوه في الأعالي يرقبنا. نابه الأزرق يلمع من خلل السحاب. ومن خلل السحاب مازال يمدّ يده الغليظة المعروقة مزدهيا بجرائم شعبه المختار، مباهيا بابنة صهيون بين الأمم.ك

دير العبيدية: دير مقفل. جدران عالية. باب صغير مثل كوّة في جدار ضخم. قدّام الباب راهب يحدّق في الفراغ. كأنه على يقين من أن يهوذا هو الذي قام لا المسيح. وصلنا حقل الرعاة. فجأة: بيت لحم. لافتة ترفرف كلما هبّت نسمة من هواء:ك

الجمعيّة الخيريّة الوطنيّة ترحّب بقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني.ك

هذه اللافتة هي ما تبقّى من احتفالات الألفيّة الثانية التي حضرها البابا القادم من روما. كلّ ليلة تقصف بيت لحم والبابا لا يحرّك ساكنا. الأب عطاء الله حنّا المرابط في كنيسة القيامة بالقدس يعرف كيف يحافظ على شرف الاسم ويصون أمجاد رجال عاهدوا التاريخ العربي وتواصوا بالصبر رسوليّا. البابا بعد الاحتفالات لم يتلفّت صوبك بيت لحم. هي ذي كنيسة المهد. كنيسة وسط ساحة عظيمة. مدخلها كمدخل دير العبيدية مجرّد كوّة صغيرة مستطيلة. يجب أن تنحني حتى لتكاد تلامس الأرض بيديك كي تدلف إلى الداخل. مطران يشبه كائنا من أثير يلبس رداء أسود استقبلنا على العتبة ونبّهنا إلى ضرورة الانحناء كي لا نصدم بالجدار هاماتنا. صوته حفنة من الوشوشات بالكاد تسمع. داخل الكنيسة حشد من السياح الأجانب ونظرات بلهاء. قطعان من العجائز والشيوخ. والكنيسة من الداخل على شكل صليب. أيقونات في منتهى البهاء: هو ذا المسيح الرضيع يبتسم لنا. هي ذي أمّه العذراء. والمجوس جاؤوا. هاهم يسجدون له ويطرحون كنوزهم قدّامه. عباءات سود تسير على الأرض في تؤدة وسكون وتحيط بنا. داخل العباءات مطارنة بالحزن والوجل والنور طفحت وجوههم. مطارنة فلسطينيون يبتسمون لنا مرحّبين بالاخوة العرب الذين جاؤوا في هذه اللحظة التاريخيّة التي يسفك فيها الدم الفلسطيني مسيحيا ومسلما في بيت لحم. وروما تلزم الصمت كأنها جزء من النظام العربي الباسل.ك

أنزلونا إلى المغارة حيث شهد المسيح النور. رائحة البخور والرطوبة والشموع تملأ المكان. هنا ولدته العذراء التي حبلت به من الروح القدس. هنا المجوس سجدوا له. صوت الراهب كان خفيضا كنسمة رقيقة تمرق بين أعشاب يابسة. “الاسرائيليون هم الذين يستفيدون من كنيستنا ويستثمرونها سياحيا. لهم 1500 دليل سياحيّ. أما نحن الفلسطينيون فلا نملك إلا 150 دليل. وفي دعاياتهم لاستجلاب السيّاح يرفعون شعار زوروا اسرائيل تنعموا بزيارة كنيسة المهد.” هكذا قال المطران فيما طفحت عيناه بحزن صامت عميق يجعلك تخجل من انتمائك للجنس البشريّ.ك

 يهوه، يا ربّ الجنود أعرف أنك في الخارج بانتظارنا, وجندك شذّاذ الآفاق على مرمى حجر من كنيسة ترجّلت النجوم في ساحاتها ذات نهار. حين كنا نغادر كنيسة المهد خيّل إليّ أنني رأيت على الجدران بقيا من غبار أجنحة الملائكة. وكنت على يقين من أن يهوه لم يرسل جنده لتدمير كنيسة المهد لأنها تدرّ على عبدته نسل ميليكداس مالا وفيرا. وللقردة في الدنيا قاطبة أن تنوح على نفسها. فثمة قرب سور الأقصى قردة مخبولة تهزّ الرؤوس زاعمة أن السور حائط أعدّ لدموع التماسيح ما كان منها وما سيكون. وطوبى للعرب المستسلمة.ك

مهد المسيح في خطر. والبابا يوحنّا بولس الثاني لا يحرّك ساكنا. لعلّه على يقين من أن يهوه ربّ الجنود لن يأمر عساكره بإحراق كنيسة المهد لأنها تدرّ على ما يسمّى دولة بني اسرائيل مالا وفيرا. شارع بولس السادس، شارع النجمة، طريق المطارنة. من ساحة المهد تتفرّع الطرق جميعها والبيوت تنتشر محيطة بالكنيسة كأنها تخشى على المسيح من الصلب ثانية. طريق المطارنة شارع يمتدّ من ساحة كنيسة المهد حتى سوق بيت لحم. في وسطه بالضبط بالقرب من مدرسة الراهبات مدرج ينحدر متسلّلا بين البيوت المقفلة. ولا شيء هناك. لا شيء. فجأة لمحت قطّة رماديّة منقّطة بنقط سوداء تهبط المدرج لائذة بالجدار. تمهّلت في مشيتها. وقفت. الرأس مال. الرأس دار. جذعها لم يتحرّك. عينان صفراوان أشعّا في عتمة المدرج. واصلت القطّة الهبوط كسلى مخفورة بسحر سرّي. لعلّها رهبة المكان. صورة محمد الدرّة ثانية. والروح صارت رمادا. الكرامة العربيّة صارت مجرّد ذكرى بعيدة. وعلى الفلسطيني أن ينهض للصراع من جديد ليبدّد بعضا من نكد أيّامنا. صوت صارخ في شاشة التلفزيون: مات الولد… مات الولد.. مات… وحكام، رؤساء، ملوك: موظّفون سادوا في نهايات الزمان العربي وقد استبدّ بهم الرّعب من الوعد فلسطينيّا حتى غدوا أقنعة للهلع يطلعون كالفزّاعات على الشاشات والفضائيات مرتبكين مرتعبين من الزلزلة. وتلك مفعولات رسالة الفلسطيني، ذاك طابعها الرسوليّ وبعدها الإشاريّ والرمزيّ.ك

*  *  *

     مطعم بيت جالا. صاحب المطعم في عمر المسيح يوم أسلمته ابنة صهيون الضالّة إلى حتفه. شاب ملتح وسيم وقف يرحّب بنا نحن الاخوة العرب الذين نمثّل جزءا من الوجدان العربي في أمّة غدا ناسها مثل الهوام بالضبط لا أمل ولا فرح ولا غاية، شابّ فلسطيني كنعاني خالص أسلافه رأوا يوسف النجار يحثّ الخطى باتجاه مصر وحموا المسيح رضيعا مهدورا دمه، جاء يخدمنا مبتهجا بالاخوة العرب. سألته حذرا:ك

عزيزي اسمح لي ، هل أنت مسيحي؟

أنا فلسطيني مسيحي. مرحبا! يا هلا!ك

قيل لي إن بيت جالا تستدرّ من الكروم نبيذا فردوسيّا.ك

أمّي تصنع نبيذا في البيت لو جبت الأرض لن تجد له مثيلا.؛

سألته مداعبا هل عندك اخوة، فأجابني بأنه سادسهم. فاقترحت عليه مداعبا أن أصير أخا له، وسألته هل تقبل أمّه بأن أصير لها ابنا سابعا. فكان أن أهداني قنينة التأمت بعدها شظايا من روحي التي صارت مزقا ونفايات. بعد مغادرتنا للمطعم بعشر دقائق ابتدأت المواجهات في بيت جالا. واختطف الموت شهيدين في مقتبل العمر.؛

العشـــاء الأخير

غدا صباحا سنغادر رام الله إلى الجسر. فندق “باست إيسترن”  وقت العشاء. مطعم الفندق في القبو. والنور خافت. الفوانيس المعلّقة على الجدران بالكاد تطرد العتمة. والشباب في المطعم يخدموننا بتفان وبكرم منقطع النظير. الابتسامة وعبارة “هلا، تؤمر” تسبق النادل إليك. الشباب فرحون بنا نحن الاخوة العرب القادمون من العواصم العربيّة التي “استتبّ فيها الأمن” تماما حتى غدا الناس فيها مثل الظهورات من شدّة وطأة الديمقراطيّة المخفورة برجال الأمن وبالخوذات والعساكر وأحذية الجنرالات. نحن القادمون من أوطان غادرها المستعمرون بدءا بالنصف الثاني من القرن العشرين علينا أن نفرح ونهلّل. فنحن نملك تحت الشمس علما ووطنا وأشياء أخرى. لكننا جميعا حزانى حزنا صامتا تعوّدنا عليه وألفناه حتى غدا جزءا من كياننا. الجميع يائسون يدركون أن العدالة في الوطن العربي مجرّد فكرة تلوذ بالكوى المعتمة وكثيرا ما تتلفّت في السرّ مذعورة من أحذية العسكر ورجال الأمن، وفي الليالي الشتائيّة الموحشة كثيرا ما تجلس مسدلة الشعر في منعطفات الشوارع وتمعن في النحيب. كبير الطبّاخين في مطعم فندق “باست إيسترن” يتقن إعداد شوربة البصل. أنا طلبتها مرارا قبل هذا العشاء الأخير. هذه الليلة جاءني النادل بها دون أن أطلبها. سألته عن كيفيّة إعدادها. ودوّنت ذلك. فجأة:ك

هو ذا ابن الشعب يدخل. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني الناس والأسطورة يهبط الدرج إلى المطعم ومعه بعض من رفاقه من مناضلي حركة فتح. مروان البرغوثي. هذا هو اسمه. حيّانا مصافحا. ورفاقه أيضا صافحونا بحرارة. عيونهم كانت زائغة قليلا. للتوّ قدموا من خطوط التّماس حيث تجري المواجهات. أمين سرّ حركة فتح. درس في جامعة بير زيت. عرف السجون الإسرائيليّة. وذاق الإبعاد. ووصل حتى الشمال الأفريقي ذات مساء بعد مجيء المقاومة كسيرة النفس والأمل إلى تونس. هو ذا ابن الشعب الفلسطيني جاءنا. نحن لم نمض إليه. هو الذي اختطف نفسه واصطحب رفاقا له في الكفاح وجاء إلينا ليلة العشاء الأخير. سألناه عن الوضع. من طريقته في صياغة جمله وترتيبها والتلفّظ بها سرعان ما تدرك أنك في حضرة قائد ميداني. شكر الأمّة العربيّة. شكر العرب. نوّه بالشارع العربي مليئا بالغضب. “لن نقول بعد اليوم يا وحدنا! لسنا وحدنا. وجودكم معنا في هذه اللحظة يدلّ على أننا لسنا وحدنا. الشارع العربي معنا. لم نكن يوما وحدنا.” عن قتل الأطفال حدّث؛ عما رأيناه في بيوت العزاء وما رأيناه في المستشفيات، عن إصرار الأم الفلسطينيّة حدّث. أبو إياد لم يقتل في تونس إذن. هي ذي روحه تعود إلى الأرض. وأبو جهاد تسمع نبرته في صوت ابن الشعب هذا. والرفاق من الديمقراطيّة والشعبيّة والحزب والاخوة من الجهاد وحماس، كلّ الذين قتلوا غيلة وغدرا تكاد تسمعهم في صوت ابن الشعب هذا الذي جاءنا وقت العشاء الأخير. الشباب الذين كانوا قبل مجيئه يخدموننا في المطعم، أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا يصيخون السمع إلى هذا الصوت الحامل وجع الفلسطينيّ وإصراره على أن يولد في الليل العربي نهار-أنا الذي رأيتهم واجمين مثلنا- أشهد أن عيونهم كانت تفيض بنوع من الفرح الطفوليّ الساحر والحنان. يهوه! يا يهوه! يا ساديّا ووحشيّا! يهوه، ‍‍‌‍‌‍ يا قادما من مملكة الدياجير. يا يهوه! يا ربّ الجنود لست أنا القائل ولا أنت وإنما هو صوت صارخ في البريّة يدوي قائلا: “كما تنبع العين مياهها، هكذا تنبع ابنة صهيون الضالّة شرّها، ظلم وقتل ومثل قفص ملآن طيورا هكذا بيوت أبناء صهيون ملآنة مكرا.” في الشارع يسمع دوي القصف، ولعلعة الرصاص. ابن الشعب هذا الذي جاء إلينا أعلمنا أن المروحيات قد دخلت المواجهات. حجر ودبابات. حجر وصواريخ. حجر وقنّاصة. حجر وطائرات. مجّدت يا أمّة العرب. ومجّدت معك أمريكا.ك

* * *

من نافذة طائرة الملكيّة الأردنيّة لمحت القدس التي منعنا الجند الغزاة من زيارتها. لمحت قبّة الصخرة وأنا عائد إلى تونس. رأيت حيفا. طائرات حربيّة صهيونيّة حلّقت على بعد فراسخ من طائرتنا، ولم تقصفنا لتثبت لنا أن للسلام  الذي هو صنو الاستسلام محاسن وفضائل وأشياء أخرى.؛

*  *  *

وصلت إلى بيتي ومعي شيئان: شيكلان وكيس زعتر اشتريته من رام الله. كيس من نايلون عليه ورقة خضراء كتب عليها بالأحمر:ك

زعـــتر أبنــاء الـريف ZATAR  ABNA  AL-REIF

مفروك بالزيت البلدي

المحتويات: زعتر بلدي –سمسم بلدي- سمّاق- ملح.              تاريخ الانتهاء 30 03 2001

رام الله- المنــــطقة الصنـــــاعيّة- تلـــفون: 022981713

 

 وشيكلان: قطعتان معدنيتان مدوّرتان كعيني حيّة رقطاء. افتقدتهما في صباح الغد. وكان أن عاد ابني علاء 13 سنة من المدرسة حانقا ووجلا بعد الظهر. صارحني معتذرا  بأنه قد تسلّل إلى مكتبي خلسة واستولى على الشيكلين. وهناك قدّام المدرسة اجتمع هو وأقرانه واقتطعوا من كرّاساتهم ودفاترهم أوراقا لفّوا فيها الشكلين وأضرموا فيهما النار وهم يردّدون الاسم، كانوا يرفعون الاسم عاليا، اسم الحلم العظيم الضّاري: فلسطين. ولكم كان ذهولهم عظيما عندما لم تأت النار على الشكليين المعدنيين. فكان أن ازدادوا إصرارا وانهالوا على القطعتين سحقا بالحجارة حتى أتلفوهما.؛

* * *

أنا لطفي اليوسفي المقيم في الشمال الافريقي، أنا الذي ذهبت ورأيت أعترف أنني هناك في فلسطين رأيت الوجع ربّانيا، ورأيت الفعل رسوليّا. وأعترف أيضا بأن ما رأيته في بيوت العزاء وفي المستشفيات والشوارع ليس شهادة واستشهادا فحسب، بل هو حدث عبور للحدود الفاصلة بين السماويّ والأرضي، بين ما هو بشريّ وما هو ألوهي. ثمّة فسحة من أمل في دياجير هذا الليل العربي. خطوة باتجاه الطريق المؤدّية، خطوة.. خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم. ولتحيا الحياة.م