الكتاب الملعــون

الكتاب الملعــون

الكتاب الملعــون

و61 وحين حان الحين، حين أزف الزمن المدعو “كواوتل إهووا”،ا

عندها، فوق هاتيك الصخرة المدوّرة،ا

الصخرة المعدّة للتضحية البطولية، أُظهروا للناس وبدوا للعيان؛

أولئك الذين سيجلدون أُظهروا للناس.ا

 و62 والذين كان الموت المحقق ينتظرهم، مطلوب منهم أن: “يقيموا السواري التي سيجلد عليها من سيجلدون.”ا

ل63 لقد جيء بهم إلى “يوبيكو”، معبد التولتيك.ا

ه64 هناك أُخبِروا بالطريقة التي يلزمهم أن يموتوا بها؛ مزقا مزقا قطّعت قلوبهم؛

ب65 استخدموا ترتيّة من الذرة التي لم تليّن بالدبق، استعملوا الـ”يوبي” ترتيّة حتى انتزعوا قلوبهم من الصدور.ا

ل66 لأربع مرّات أُظهروا قدّام الناس،ا

قدّام الناس أخرجوهم ،ا

 كي يراهم الملأ،ا

 كي يراهم الناس أجمعين،ا

 كي يصيروا معروفين للناس أجمعين.ا

  أ67 أعطوا لكل واحد منهم أشياء؛ أعطوا لكل واحد منهم ملابس من ورق.ا

ف68 في المرّة الأولى خلعت عليهم أشياء ليتحلّوا بها، كان لونها أحمر.ا

ص 69 صار لونهم أحمر.ا

ص70 صاروا حمرا.ب

م71 ملابسهم التي سويّت من الورق كانت حمراء.ا

ف72 في المرّة الثانية زينتهم التي قدّت لهم من الورق كانت بيضاء.ا

ف73 في المرّة الثالثة ساروا بملابس حمراء.ا

ف74 في المرة الرابعة كانوا بيضا.ا

أ75 أزفت الساعة فزيّنوهم،ا

حان وقت تقدمتهم قرابين فمنحوهم العطيّة الأخيرة،ا

 أُلبس من سيقدمون قرابين رداء التقدمة،ا

 ذاك الذي سيوصلهم فيه (المضحون) إلى مصارعهم،ا

ذاك الذي ستلفظ فيه آخر أنفاس (الضحايا)،ا

ذاك الذي سيجلدون فيه.ا

من أجل هذه المناسبة لبسوا زينتهم الحمراء.ا

ز77 زينتهم ماعادوا غيّروها: ما عادوا غيّروا زينتهم أبدا.ا

……………………………………….

م2917 معبد السينتيوتل الأبيض

م2918 معبد السينتيوتل الأبيض، هناك كان الأسرى يقضون نحبهم.ا

 أولئك الذين تقرّحت جلودهم،ا

م2919 ما كان أحد يرغب في أكلهم؛

بعد مصرعهم، كان الكهنة يوارونهم التراب.ا

 ل2920 لقد صرعوا  في أيام الصوم، أيام الصوم تمجيدا للشمس.ا

هناك كانوا يجمعونهم أجمعين،ا

الأسرى المقدَّمين أضاحي وقرابين.ا

 أولئك الألى يسمّون تلالوكس

……………………………………………..

ن3104 نحرا بعد تجميعهم أجمعين،ا

 نحرا كانوا ينحرون.ا

 إ3105 إربا إربا كانوا يمزّقون منهم الأجساد بعد طقوس النحر،ا

طهيا يطهونهم.ا

م3106 مازجين اللحم ببراعم الورد المهروسة، كانوا يطبخونهم.ا

و3107 وللنبلاء وأكابر القضاة كانوا يقدّمون الوليمة فيأكلون،ا

 باللحم البشري ينعمون؛

وحدهم الحكام بالوليمة جديرون، والعامة منها لا يقتربون،ا

 العوام لا يأكلون.ا

 وحدهم الحكام بالوليمة ينعمون.ا

From Fr. Bernadino de Sahagun, The Florentine Codex:  General History of the Things of New Spain, Book 2,:

 The Ceremonies. Arthur J.O. Anderson and Charles Dibble, trans. Sante Fe  School of American Research and the University of Utah Press, 1950-1982.

هذا النص مأخوذ من الكتاب الملعون. وهو كتاب حرصت الكنيسة على الاحتفاظ به في العتمة لتوقّي العالم المسيحي والناس أجمعين من مخاطره وفتنته. طيلة أكثر من قرنين ظلّ كتاب الراهب برنادينو دي ساهاغان يعتبر كتابا ملعونا، كتابا سرّيا أبعدته الكنيسة عن الأنظار. فلقد أجمع رجال الدين منذ سنة 1565م على أن سحره لا يقاوم. إنه كتاب فتنة وغواية. ومن يطّلع عليه لا يمكن أن ينجو من الوقوع في دائرة السحر والانقياد لإغواء  كبير المفسدين وزعيمهم بلا منازع: إبليس المكّار. ولذلك أيضا ظلّ الكتاب مخطوطا لا أحد من رجال الدين يجرؤ على التفكير في نشره حتى سنة 1829م تاريخ صدوره في المكسيك.ا

طيلة أكثر من قرنين لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة المجرّب إبليس وثبتوا الثبات كلّه في مجاهدته ومواجهة إغراءاته ووسوسته التي قلّ أن يثبت المرء أمام سطوتها.ا

لم يكن مؤلّف الكتاب، الراهب برنادينو دي ساهاغان، منشقّا على الكنيسة أو معارضا لها حتى يعتبر كتابه كتابا محرّما. بل كان رجل دين مسكونا إلى حدّ الهوس بالدفاع عن الكنيسة والتبشير بتعاليمها. ولم يكن أجنبيا يمكن أن يتحوّل إلى جاسوس يخشى منه على التاج الملكي. بل هو إسباني المولد والنشأة والتكوين. فلقد ولد سنة 11499. وحين بلغ الثانية عشرة من عمره أرسل إلى مدرسة مدينة سلامنكا وشرع في التعلّم. وعلى عجل التحق بكنيسة القديس فرانسوا. وهناك تشرّب التعاليم كلّها وحذق طرائق الرهبان في الالتفاف على الفعال التي تتعارض مع ما تدعو إليه الديانة من إخاء وتراحم. وعلى عجل أيضا تمرّس بالفتاوى والحيل التي كانت الكنيسة تبرّر بها مشاركتها في نسج فصول أشنع جريمة في تاريخ البشرية: إبادة سكّان أمريكا الأصليين.ا

سنة 1529م  وصل برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو التي نهبها الجند الغزاة ودمّروها تدميرا مروّعا، مكسيكو التي أطلق عليها الغزاة اسم “إسبانيا الجديدة” حتى يتسنّى لهم محوها من الدنيا محوا نهائيا. ولاستبدال الاسم دلالته الرمزية وطابعه الإشاري الفظيع على رغبة الغازي والمستعمر في قتل ذاكرة المكان ومحو تاريخه وتملّكه إلى الأبد. وبغريزة منقطعة النظير عرف الراهب المدجّج بالتعاليم التي تدعو إلى مجاهدة الشياطين والمردة وإبادة أتباعهم من البشر –عرف- كيف يلتفّ على الجريمة ويبرّرها. فلم يكن الراهب الذي نذر حياته للتبشير بالتراحم والإخاء ليغفر جريمة نكراء ما تزال خرائب مدينة مكسيكو تشهد على شناعتها وفظاعتها.ا

لذلك سيعمد، مختارا أو مأمورا من قبل رؤسائه من الكهنة، إلى التعجيل بتبرير ما حدث والإقناع بأن المذابح التي راح ضحيّتها السكّان الأصليون والمحارق التي أودت بأشدّ الأمم قربا من الطبيعة وتقديسا للأرض، ليست التجسيد المروّع الفظيع لما تنبني عليه مقولة التقدّم الغربي ومقولة التنوير من وحشيّة وفظاظة، بل هي نقمة السماء على أتباع إبليس الشرّير. والجند الغزاة المتوحشون الذين باركت الكنيسة صنائعهم وحبيت على ذلك من الذهب أكواما رصّعت بها تصاوير القدّيسين ورسومهم في كنائس إسبانيا كلّها، إنما كانوا يؤدّون واجبا مقدّسا. فهم فعلة اصطفتهم السماء كي تنزل العقاب بأتباع إبليس الرجيم. وما حصل للسكان الأصليين إنما هو الجزاء وبئس المصير.ا

هذه هي خطّة الكتاب الملعون. وتلك هي المنطلقات النظرية التي سيبني عليها المؤلّف برنادينو دي ساهاغان مجمل فصول الكتاب. إن الجريمة قد انطلقت من مكسيكو، وستطال القارة الأمريكية بأسرها وتمحو سكانها أمما وشعوبا وقبائل. لن تبقي ولن تذر. إنها جريمة بشعة شنيعة نكراء لا يمكن أن توصف لأن الذي حدث لم يكن غزوا بل إبادة شاملة. وعلى الراهب برنادينو أن يمدّ الكنيسة بما يعيد لها أمنها وطمأنينتها. عليه أن يكشف بما لا يدع مجالا للشكّ، بأن معتقدات السكّان الأصليين ودياناتهم ليست سوى أمارة على ما يمتلكه الشيطان من مقدرة فائقة على نسج المكائد، وفتل الأحابيل والألاعيب، ونصب الفخاخ التي يتصيّد بها أرواح بني البشر. وعليه أن يثبت قدّام العالم المسيحي بأسره أن آلهة السكّان الأصليين هي التي قادتهم إلى الأفول الجماعي لأنها ليست سوى أقنعة وتجلّيات لإبليس الرجيم.ا

 


1 Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, La Nouvelle Revue Francaise, novembre 1979, N=322.

غير أن الكتاب، ظلّ مع ذلك، عبارة عن سفر داخل مناطق بكر، مناطق الغريب والمتوحّش وما لا يقبل العقلنة والترويض. لقد استسلم واضعه لفتنة العالم الذي أرّخ له. لذلك كفّت الكتابة عن كونها مجرّد تأريخ للوقائع والأحداث والممالك وشهدت نوعا من التبدل الخطير. لقد صارت عبارة عن تطواف في مدائن السحر. ورهبان الكنيسة حين صادروه ومنعوا نشره  أو تداوله، إنما كانوا على يقين من أنه ليس كتابا في التاريخ بل هو مدائح وحكايات تضع من يتملاّها في حضرة ثقافة الهنود الحمر وهي تحلم ذاتها وتفكّر ذاتها.ا

وإنه لأمر مذهل مروّع، أن تلتقي في هذا الكتاب رؤيتان للعالم: رؤية الراهب برنادينو دي ساهاغان الذي سينتشل من النسيان الحضارة التي حكم عليها بنو قومه بالزوال والأفول، ورؤية الهنود المكسيكيين الذين كانوا يطرحون قدّام الراهب برنادينو كلّ أخبار عالمهم الذي هلك وجميع أساطيره وكنوزه وأيّامه. سيحدّثونه عن آلهتهم، عن طقوسهم، عن أخبار ملوكهم، عن بطولاتهم وأيامهم. سيحدّثونه عن الحرفيين الذين برعوا في نحت الحجارة وصقل الذهب، عن معارفهم في التنجيم والفلك وخبراتهم في صناعة الأدوية. لذلك سيشرع الكتاب الملعون في الاتساع والامتداد، ويكفّ عن كونه مجرّد كتاب في التاريخ ليصبح كتبا تتوالد غزيرة وتؤرّخ لحكاية لها امتداداتها ولها فصولها وتعرّجاتها.ا

والراجح أن برنادينو دي ساهاغان لم يكن على وعي بأنه كان يكتب موسوعة من أعظم الموسوعات وأكثرها دقّة وتفصيلا. يكفي أن ننظر في فهرس هذه الموسوعة وسندرك، في يسر، أنها تتّسم فعلا بالغنى والوفرة وتؤرّخ لعالم فتّان، عالم ساحر، عالم خلّاب أرغم على السقوط في العتمة:ا

فهرس الكتاب الملعون “التأريخ لأشياء إسبانيا الجديدة”:ا

ا1- الكتاب الأول: في الإخبار عن الآلهة التي كان السكان الأصليون الذين عمّروا هذه الأرض المسمّاة إسبانيا الجديدة يعبدونها.ا

ا2- الكتاب الثاني: في الإخبار عن التقويم الزمني والأعياد والطقوس والقرابين والاحتفالات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون يتقرّبون بواسطتها إلى آلهتهم.ا

ا3- الكتاب الثالث: في الإخبار عن أصل الآلهة التي كانوا يعبدونها.ا

ا4- الكتاب الرابع: في التنجيم التشريعي أو الإخبار عن فنّ العرافة والتنبّؤ الذي كان المكسيكيون يأتونه لمعرفة أيام السعد وأيام النحس، ولمعرفة أقدار الذين كانوا يولدون في تلك الأيام وما هي طباعهم ومميزاتهم الوارد ذكرها في هذا الكتاب. وهذا فنّ أدخل في باب العرافة والفراسة أكثر منه في التنجيم.ا

ا5- الكتاب الخامس: في ذكر التطيّر والفأل الذي كان هؤلاء السكان الأصليون يحدسونه عند رؤية بعض الطيور والحيوانات والحشرات ويتنبّؤون من خلاله بأمور المستقبل.ا

ا6- الكتاب السادس: في البلاغة وفلسفة الأخلاق والشريعة التي كان الشعب المكسيكي يدين بها، حيث نعثر على أمور في منتهى الغرابة تفصح عن جمال لغتهم ورونقها وأمور في منتهى الدقّة تتعلّق بقيمهم الأخلاقية.ا

ا7- الكتاب السابع: في الإخبار عن الفلكيات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون قد توصّلوا إلى معرفتها.ا

ا 8- الكتاب الثامن: في الإخبار عن الملوك وأولي الأمر والطريقة المتّبعة في انتخابهم والطريقة التي كانوا يديرون حسبها شؤون ممالكهم.ا

ا 9- الكتاب التاسع: في الإخبار عن التجار والصيارفة والحرفيين الذين برعوا في نقش الذهب وصقل الحجارة وتسوية الريش النادر وتنضيده.ا

ا10- الكتاب العاشر: في ذكر رذائل هذا الشعب الهندي وفضائله، وذكر الأسماء التي كانوا يطلقونها على أعضاء أجسامهم الظاهر منها والباطن، وذكر  الأمراض والأدوية المضادّة لها، وفي الإخبار عن الأمم التي توارثت هذه الأرض.ا

ا11- الكتاب الحادي عشر: في الإخبار عن خصائص البهائم والطيور والأسماك والشجر والأعشاب والأزهار والمعادن والأحجار وذكر ألوانها.ا

ا12- الكتاب الثاني عشر: في الإخبار عن غزو المكسيك.ا

هذا الكتاب/الموسوعة سيتشكّل مأخوذا باستحضار ماضي الهنود الحمر في لحظة كان الهنود فيها قد صاروا ملكا للماضي. وصارت بطولاتهم وأمجادهم وأيّامهم مجرّد ذكرى. ومعها رحلت طقوس عبادة الشمس، رحل التطبيب بالأعشاب والنباتات. الأعياد التي تقام تمجيدا للحياة ولما تمتلكه الحياة من فرديّة وجاذبيّة وفتنة، سواء أعلنت عن نفسها في الآلهة أو في الإنسان والنبات والجماد، في الظلّ المفاجئ، في الصمت الرهيب في الأدغال والغابات، قد رحلت هي الأخرى إلى الأبد.ا

فحين وصل الراهب برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو كان التشوّه قد أطبق على أرض المكسيك الحاملة أسرار الكون. لذلك ستصبح الكتابة نوعا من المقاومة لسطوة النسيان، ووقوفا في وجه الأفول. ولذلك أيضا سيلتقي في الكتاب صوتان: صوت الراهب الذي يحرص على الالتفاف على الجريمة ليبيّن أن ما حدث هو الجزاء الذي أعدّته السماء للقوم المارقين وبئس المصير، وصوت الذاكرة، ذاكرة الرواة من الهنود الحمر الذين سيشرعون في طرح كنوزهم قدّام الراهب ويحدّثونه عن أمجادهم وأيّامهم وآلهتهم. والذاكرة هنا ليست مجرّد إدراك يحفظ الوقائع والأحداث. إنها طاقة مقاومة لسلطة العدم وسطوته وطابعه الكاسر.ا

إن الطابع الموسوعي الذي اتسم به الكتاب الملعون “التأريخ العام لأشياء إسبانيا الجديدة”، لم يكن اختيارا أتاه المؤلّف. فلقد جاء برنادينو إلى المكسيك ليكتب كتابا في الموعظة والاعتبار. جاء ليدلّل على أن الشيطان هو الذي أضلّ السكّان الأصليين واقتاد خطاهم على الدروب التي أودت بهم إلى خرابهم. كان برنادينو دي ساهاغان رجل دين وصل إلى المكسيك غداة الغزو ليقوم بمهمّة تبشيرية. وكان يعتقد جازما أن ما حلّ بالهنود من دمار وويلات إنما هو القصاص الإلهي، “فالربّ قد ابتلى الهنود الوثنيين واقتصّ منهم على يد الجند المسيحيين. وذاك جزاؤهم وبئس المصير.” كما يقول في الفصل الأول.2د

لكنه يعترف، مع ذلك، في الفصل الثامن والعشرين من كتابه بأن الحضارة الغربيّة قد حملت معها بذرة الفساد والشرّ إلى عالم الهنود. يكتب معترفا: “وإنه لعار علينا أن حكماء الهنود وكهنتهم قد نجحوا في إيجاد الأدوية الناجعة للقضاء على الآلام والشرور التي تعجّ بها هذه الأرض … أما نحن فقد صرنا ننقاد طائعين لميولاتنا الشائنة. وإنّا لنشهد اليوم نشأة جنس من الهنود والأسبان صعب المراس يعسر إنقاذه. فما عاد الآباء والأمهات قادرين على السيطرة على أبنائهم وبناتهم ومنعهم من الانغماس في الرذائل والملذّات التي تعجّ بها هذه الأرض.”3د

وهو يورد في كتابه بعضا من خطبه الوعظيّة التي كان يحرص فيها على جعل الهنود الناجين من الإبادة يتبرّؤون من تراثهم وثقافتهم ودياناتهم. من ذلك مثلا أنه كان يعلّمهم أن آلهتهم ليست سوى أقنعة لأبالسة الجحيم وللمردة والشياطين. كان الهنود يعتقدون أن “كتزلكواتل” وهو ما تفسيره “الثعبان ذو الريش” إله سيّد سيعود إلى الأرض ليخلّص العالم وينقذ الأرض من أوجاعها والناس من محنهم ونكد أيّامهم. وكان برنادينو دي ساهاغان يعلّمهم في شأنه قائلا: “إن ما يزعمه أجدادكم من أن كتزلكواتل قد ذهب إلى تلابلان، وأنه عائد لا ريب في عودته، وعليكم انتظار مقدمه، ليس سوى أراجيف. إننا على يقين من أنه هلك. جسده في الأرض قد تفسّخ وانحلّ. أما روحه فإن الربّ إلهنا قذف بها في غياهب الجحيم حيث تصلى من العذاب الأبديّ ألوانا… أجدادكم أجمعين قد عانوا من الحروب التي لا تبقي ولا تذر، قاسوا الويلات من المجاعات والمذابح. وكي تكون نهاية لكل هذا، أرسل الربّ جنده من المسيحيين فأبادوهم على بكرة أبيهم، هم وآلهتهم.”4د

كان الراهب برنادينو على يقين من أنه يمتلك الحقيقة. لكن فصول الكتاب كثيرا ما طفحت بمسحة من الحزن والشفقة. وكثيرا ما تحوّلت الشفقة إلى تفجّع يكشف تعاطفه مع الأمم والشعوب التي حكم عليها بنو قومه من الجند الغزاة الغربيين بالموت والزوال. ولذلك أيضا كثيرا ما يتحوّل التفجّع بدوره إلى نوع من النوح المكتوم.د

منذ الكتاب الأول  تسلّل الحزن إلى صوت الراهب الذي جاء إلى مكسيكو مدجّجا ببرد اليقين فكتب متأسّيا: “آه عليك ! يا أشدّ الأمم حزنا. يا لحظّك العاثر من دون الأمم!” هذا التأسي الذي سيظلّ يستعاد ويخترق الكتاب في أكثر من موضع، إنما يشير صراحة إلى أن برنادينو كان يصدر عن ضمير معذّب، ضمير رجل يدرك أن الجريمة التي حصلت لم يعرف التاريخ لها مثيلا. ضمير راهب ظلّ يحتمي بتعاليم الكتاب المقدّس كي يلتفّ على الجريمة ويسميها جزاء أو عقابا ربّانيا. لكنه كان على يقين أيضا من أن ما ورد في الكتاب المقدّس من أخبار الملوك الأوَل وتدمير سدوم الضالّة كان أقل فظاعة وأقلّ ويلا من التدمير الذي عصف بالسكان الأصليين وحضارتهم.د


2  M.G. LE CLEZIO, LE REVE MEXICAIN OU LA PENSEE INTERROMPUE, PARIS: GALLIMARD,1988, P68

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د3  أورده

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د4  أورده

حتما كان الراهب برنادينو دي ساهاغان على دراية بما حدث. وحتما كان على بيّنة أيضا من أن الإبادة لم تكن عسكرية فحسب. فلقد تمّت إبادة كل من سوّلت له نفسه مقاتلة الجند الغزاة. أما الناجون من المحارق والمجازر، فلقد تمّ استعبادهم على نحو يجعل المرء يخجل من انتمائه للجنس البشري. فحين انهزم امبراطور الأزتيك مكتزوما وأذعن للقائد العسكري هرنان كورتيس، أمعن كورتيس في تعذيبه وإذلاله وإهانته والسخرية منه قدّام بني قومه. فلم يكن من مكتزوما الامبراطور الذي كان يجسّد، قبل مجيء أبناء الحداثة الغربية، الملك العظيم لأبهى حضارة من حضارات الأرض قاطبة –لم يكن منه- إلا أن قال مخاطبا القائد الغربي المتوحّش كورتيس: “قل لي ماذا تريد مني أن أفعل معك أكثر مما فعلت لأني لم أعد أرغب في الحياة أصلا.” وكانت تلك آخر جملة لهج بها قبل أن يلقى حتفه.ا

بمثل هذه العبارة التي تكشف إلى أي حدّ يمكن أن تداس الكرامة البشرية لهج البطل الصنديد كيوهتيموك. فلقد خلَف هذا البطل الامبراطور القتيل وتزعّم حركة الصمود مؤجّلا -ولو إلى حين- الدمار القادم. وحين أيقن الجند الغزاة أن مواصلة الحرب ستكلّفهم خسائر فادحة، لوّحوا بالسلام وعرضوه على هذا البطل الذي دوّخهم. فجمع البطل الشاب جميع القبائل من بني قومه المتحصنين داخل أسوار مدينة مكسيكو، وحدّثهم هكذا: “إنه لحريّ بنا جميعا أن نموت، وأفضل لنا أن نهلك في هذه المدينة من أن نستسلم للّذين سيجعلون منّا عبيدا لهم وينكّلون بنا من أجل الذهب.”5د

يحدث الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو في كتابه “الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا” عن كورتيس قائلا: “وإنه لمن غريب الصدف أن يحظى كورتيس هذا المغامر المتحدّر من العصور الوسطى، هذا القائد الحربي عديم الذمّة بدعم أكبر ملوك النهضة الأروبيّة الامبراطور شارل كينت. لقد كان كورتيس يعلم إذن أنه لا يقود خمسمائة جندي فحسب بل إنه في طليعة العالم الغربي والمسيحي، حتى لكأنه رأس الثعبان الملقّب بالهدرة، الثعبان ذو التسعة رؤوس أو لكأنه أكثر ألسنة الثعبان امتدادا، تلك الألسنة التي ستلتهم العالم.”6د

ففي سنة 1530 بعد عمليّة الإبادة والتدمير مباشرة، وصل إلى المكسيك المستشار الأسباني ساينوس فانخلع قلبه من هول ما رأى. لقد وجد الهنود يعانون من المجاعة والأوبئة. “وطيلة سبع سنوات من حكم إدارة القائد هرنان كورتيس تمّ استعباد الهنود الناجين من الموت. لقد أرغموا على العمل في المزارع، وفي المدن، وفي مناجم الذهب ومناجم الفضّة أكثر من اثني عشر ساعة في اليوم دون أجر. وبالإضافة إلى الضرائب التي فرضها التاج الأسباني عليهم، كان كلّ واحد من أتباع القائد كورتيس يغنم من الهنود في كل يوم ستّ دجاجات، وعددا وفيرا من الطرائد، وكيسا من الذرة الصفراء، والشوكولاطة والبهارات، وتسعين بيضة.” ويذكر الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه ” الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا ” نقلا عن جوزيه ميراندا في كتابه “ضريبة السكان الأصليين في اسبانيا الجديدة” أنهم “أرغموا قهرا على دفع الخمس من مداخيلهم ضريبة للملك، وما يعادل الخمس نصيبا للملكة وما تبقّى يدفعون منه ضريبة الحرب وضريبة البيع والشراء وضريبة التنقّل.”7د

وإنه لمن التبسيطيّة أن نعتبر موقف برنادينو دي ساهاغان موقفا فرديا، ونرجع ما طفح به كتابه من شفقة وعذاب ضمير إلى كونه رجل دين يدرك تماما أن ما حدث في مكسيكو لا يخصّ الهنود الحمر وحدهم بل يخصّ الشرط الإنساني في جميع الأزمنة ويتعارض مع تعاليم الديانة. فلقد غنمت الكنيسة نفسها من حملات الغزو المتتالية غنائم تفوق تلك الكنوز التي طرحها إبليس المكّار قدّام المسيح ليجرّبه ويغويه. والكنائس المحلاّة بالذهب في اسبانيا ما تزال تروي إلى اليوم فظاعة ما حدث، وتشهد بحجم الغنائم وخسران بني البشر.ا

إن الراهب برنادينو دي ساهاغان إنما يجسّد الضمير الغربي المؤجّل دائما. لقد تمّت الإبادة ونسجت المأساة جميع فصولها… ثمّ تحرّك الضمير الغربي. والضمير، في جميع الحملات الغربية، منذ الهنود، ومنذ فلسطين القابعة في ظلمة، وصولا إلى مدينة السلام وما سيأتي من ويلات، الضمير الغربي، يكون دائما مؤجّلا. تُمنح المآسي فرصتها، وتنسج جميع فصولها، ثم يتحرّك الضمير. وموقف برنادينو، سواء حين يدين الهنود ويعتبرهم أتباع الشيطان أو حين يتأسّى على مصيرهم ويحاول انتشال من تبقّى منهم، إنما هو التجسيد الفعلي لموقف الانسان الغربي المعاصر سليل عصر الأنوار وابن الحضارة الغربية الذي يظل يلوّح بالقيم الانسانية ويبشّر بها عاليا. ثم يشرع في دوسها جميعا حالما يتعلق الأمر بتحقيق الغلبة والتسلّط والربح.ا


أ5  نفسه، ص 50

أ6  نفسه، ص 19

JOSE MIRANDA, LE TRIBUT INDIGENE DANS LA NOUVELLE ESPAGNE, 1952, P 51 :أ7 انظر على التوالي

انظر أيضا:  لوكلوزيو، الكتاب المذكور، ص 33-34.أ

منذ الكتاب الأول طفح الكتاب/الموسوعة بنبرة الافتتان وصار برنادينو دي ساهاغان يحدّث عن لغة المكسيكيين لا باعتبارها مجرد أداة تواصل بل باعتبارها كنزا لا ينضب. يكتب واصفا لغة المكسيكيين “إنها كنز وسبيل مؤدية إلى تحصيل أمور، ومعرفة أمور جديرة بأن تحصّل وتحفظ.” لقد جاء الراهب ليلتفّ على الجريمة ويبرّر ما حدث. لكنه سرعان ما استسلم لحديث الرواة، وصار يصدر أحكاما تكشف افتتانه بدنيا السكان الأصليين، وتفضح تعاطفه معهم وانبهاره بقيمهم، وتكشف إعجابه بعالمهم، وانخطافه بالبهاء الذي سيّجوا به حياتهم وطريقة مقامهم على الأرض. لقد صار الراهب يحدّث متلقّيه المفترض قائلا إن الغاية من كتابه إنما هي “معرفة قيمة هذا الشعب المكسيكي، قيمته التي لم يقع الاعتراف بها إلى حدّ الآن.”8

لم يكن الافتتان مجرد صدفة إذن. إنه جزء من مفاجآت الطريق في رحلة التأريخ لحضارة حكم عليها بنو قومه من أبناء أروبا المأخوذة بفكرة التقدّم بالأفول والتلاشي والزوال. وهو التجسيد الفعلي لما لم يكن في حسبان الراهب أعني الوقوع في دائرة الفتنة. والفتنة هي، في نهاية التحليل، وضع يدرك بالحال لا بالمقال. بل إنها حال تعني الخروج عمّا هو معتاد ومألوف. وهي خروج إلى غير ما كانت الذات عليه قبل حدوث مفعول الفتنة. إنه الخروج من عقال الوعي وأسيجة العقل أي الخروج من الحضور والتطابق، تطابق الذات مع وعيها الذي تعتقد أنه صميمها. بايجاز: إنه الخروج من الهوية نحو ما هو مخالف ومغاير وغريب.ا

 هذا ما ستدركه الكنيسة. وهذا ما سيجعلها تعتبر الكتاب كتابا ملعونا وتحتفظ به في الظلام طيلة أكثر من قرنين، فلا تسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين لا يخشى عليهم من الفتنة.ا

لذلك سيذهب الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه “الحلم المكسيكي” إلى أن برنادينو دي ساهاغان كان مأخوذا إلى حدّ الهوس بالبحث عن العبرة الكامنة وراء ما لحق بالهنود الحمر من دمار وإبادة لأن “فهم السرّ الكامن وراء هذا القضاء الذي نزل على الهنود أمر من شأنه أن يمكنه من ملامسة اللغز المتستّر على نفسه في صميم  المصير المعدّ للبشر أجمعين. ثمّة في تلاوين هذه الصفحات المثقلة بالأحداث الواقعيّة شيء مدوّخ حتى لكأن برنادينو دي ساهاغان قد كان يفتتن الافتتان كلّه بالماضي المجيد، ماضي ذلك الشعب الذي تمّ تحطيمه إلى الأبد فيما هو يكتشف عالم الهنود… لقد كان يوضع، فيما هو يبحث عن جذور الهنود، في حضرة جذوره هو وقدّامها. وهذا هو ما شدّه شدّا إلى ذلك العالم الغني بالأساطير وبالعظمة والمجد.”9ا

فلقد كان الراهب برنادينو المدجّج بالتعاليم الدينية على يقين من أن الشكّ هو الطريق إلى الجحيم، وهو السبيل المؤدّية إلى التهلكة. إن مجرّد الشكّ في أن ما حدث ليس لعنة مقدّرة من السماء بل هو أمارة على جشع أروبا المتحضّرة ودليل على لاإنسانية الجند الغربيين الغزاة، وتوحّشهم لا يمكن أن يكون إلا أمارة على أن إبليس الرجيم بدأ ينسج أحابيله ويتسلّل إلى قلب المؤمن ليوسوسه ما يحبّ ويحرمه من برد اليقين. لذلك سيظل يلحّ على أن جميع آلهة الهنود الحمر مجرّد أقنعة للمردة والشياطين والسحرة، واعتقاداتهم كلّها إنما هي مجرّد أراجيف. فهم يدّعون أن “تيزكاتليبوكا” إله شرّير “يزرع الفتن” ويتقرّبون منه خشية سطوته وفعاله. والحال أنه، في نظر الراهب برنادينو مجرد تجسيد للشيطان الذي لعن في بدء الزمان. أما ما يدّعونه من أنّ “كتزلكواتل” إله اختفى واحتجب عن الأنظار وسيعود إلى الأرض ليملأها بالدعة والطمأنينة والأمن فإنه تجديف محض. “إن “كتزلكواتل” مجرّد إنسان من لحم ودم، إنسان فان مثل البشر أجمعين، وما يزعمونه من أنه كان خيّرا طيّبا ليس سوى دليل على أنه ساحر مراء وخلّ ودود لإبليس.” هكذا كان الراهب يرصّع كتابه بالأحكام.ا

ثمة في هذه الحكايات والأخبار والأساطير التي كان الرواة يطرحونها قدّام الراهب برنادينو دي ساهاغان منطق داخليّ. ثمّة بهاء. ثمّة روعة تخلب العقول. ثمّة جاذبية وسحر. وهذا كله هو الذي جعل الراهب يحتمي بالسماء ويلوذ بالكتاب المقدس محاولا أن يفسّر الأحداث والوقائع وفق طريقة تقيه من الوقوع في دائرة السحر. لذلك سيعمد إلى تأوّل تاريخ بلاد الهنود الحمر، ويصنّف آلهتهم ويفهم كنهها في ضوء قناعاته ومعارفه. فيصبح الكتاب مجمعا للذاكرة. فيه يمتزج الحديث عن الامبراطوريات المتعاقبة بالحديث عن ألاعيب الآلهة ومكائدها وكنهها وكيفيّات تجلّي الربّ الإله من خلالها لتسطير أقدار السكان الأصليين وإدارة مصائرهم.ا

يحدّث برنادينو عن المدائن التي شهدت نشأة الامبراطوريات المتعاقبة وتحوّلت إلى عواصم كبرى، فيذكر أخبار مدينة “تيوتيهواكان” ويشبّهها بطيبة التي كانت في مصر. ويحدّث عن أخبار مدينة “تولا” وهي في نظره تشبه طروادة إلى حد بعيد. ويقول عن مدينة “شولولا” إنها تشبه روما. أما مكسيكو فإنها في نظره على شبه كبير بالبندقية. ويعتبر الإله “هويتزيلوبوشتلي” صنو الإله مارس والإله “كتزالكواتل” صنو هرقل. إنه يتعرّف على الآخر المختلف من خلال الذات. وبذلك يمحو الاختلاف ويقضي على التغاير فيلبّس هذا الآخر المدان بعضا من ملامح الذات ومعارفها وخبراتها وتاريخها حتى يتسنّى له تدجينه والحدّ من توحّشه. لذلك يعمد إلى تأوّل نشأة هذه المدن وخرابها لا في ضوء تاريخها الخاصّ بل في ضوء منطلقاته الدينية وتعاليمه الكنسية. فيذهب إلى أن سقوط امبراطورية “تولا” إنما هو التجسيد الفعلي لإرادة الربّ الإله. فالربّ الإله قد تجلّى للهنود مؤسسي “تولا” وصانعي أمجادها في صورة إلههم “كتزلكواتل” ثم سرعان ما تخلّى عنهم ووقف يشدّ أزر من سيرثون المجد من بعدهم وهم الأزتيك الذين تجلّى لهم في صورة الإله “هويتزيلوبوشتيلي”، فملكوا البلاد وسادوا على العباد واستبدّوا، وما كانوا يدرون أنه كان يمهلهم إلى حين.ا

هكذا حرص الرّاهب برنادينو دي ساهاغان في كل تأويلاته على بناء نسق من التحليل يتماشى مع قناعاته الدينية فيجزم “بأن الرّب الاله، الاله الحقّ، هو الذي اختار أن يتجلّى للهنود الحمر على ذلك النحو ويكشف لهم بعض الحقائق، ويمدّهم ببعض الهبات، وتلك مشيئته وأسراره المحفوظة.”10 وهو يستشهد بحشد من الأساطير الهنديّة التي تجمع كلّها على أن الانكسافات والخسوف وتساقط المذنّبات والنيازك بين الحين والآخر ليست سوى  علامات الأفول الآتي. تحدّثنا بعض الأساطير عن امرأة كلّمتها الآلهة قائلة في صوت واحد: “كفّوا عن تقديم الأضاحي ولا تأتوا بقرابينكم، لأنه من الآن فصاعدا هكذا يكون: الطبول يجب أن لا تقرع، كلّ شيء سيدمّر، لن تكون هناك معابد ولا محارق مقدّسة. سوف لن يتصاعد دخان البخور بعد اليوم. يجب أن يكون كلّ شيء يبابا. أناس آخرون من طينة أخرى سيأتون إلى الأرض.”11

ويروى أيضا “أن الناس ظلّوا لمدّة طويلة يسمعون أصواتا تهتف من كلّ الجهات منذرة الهنود الأزتيك وملكهم بالويل والثبور والأفول الآتي.” وقبل وصول الجند الأسبان بقليل كثرت العلامات المنذرة بالأفول. من ذلك أن “نفرا من الناس تمكّنوا من القبض على طير فظيع الطلعة، كريه المنظر، فحملوه إلى الامبراطور “مكتزوما” وكهنته.” كان الطائر “يحمل على رأسه مرآة، وعلى أديم تلك المرآة كانت الشمس تنعكس، وكانت تميد وترتعش مرسلة نورا مشؤوما الشؤم كلّه وكئيبا جدّا.”12


ا8  نفسه، ص 61

ا9 أورده لوكلوزيو, ص 62

ا10  ميشال بيتور، 176

ا11 أورده لوكلزيو, ص 27

ا12 أورده لوكلزيو, ص 27

من هنا يستمدّ الكتاب الملعون البعض من سحره وجاذبيّته. ومن هنا يتولّد جانب هام من فتنته. إنه لا يؤرّخ للوقائع والأحداث، للأساطير والحكايات والديانات بل يظلّ يتّسع ويمتد فيمتزج فيه الواقعي بالخيالي والأسطوري، ويتماهى البسيط العادي المتعارف مع الغريب والمفارق والمدهش. والناظر في هذا القسم الذي قمت بترجمته عن الفرنسية يلاحظ في يسر أن الراهب سيظلّ وفيا لمنطلقاته وقناعاته الدينية. فلقد جاء إلى مكسيكو ليلتفّ على الجريمة ويبيّن أن إبادة الهنود الحمر كانت الجزاء الذي أعدته السماء للقوم الكافرين. لذلك سيشير إلى آلهة الهنود بعبارة “سحرة” لأن تلك الآلهة في نظره ليست سوى تجلّيات وأقنعة للشيطان زعيم المفسدين وقائدهم الأمهر وحامل لوائهم على الأرض في الأزمنة كلّها.ا

أما الرواة الهنود فإنهم سيطرحون قدّام الراهب المدجّج بالتعاليم الدينية الكنسيّة كنوزهم ويحدثونه عن عالمهم. سيخبرونه عن الكون طفلا، عن البهاء الذي سيّجوا به حياتهم، عن الجمال الذي أثّثوا به الدنيا من حولهم. وفي حين ينعت الراهب برنادينو دي ساهاغان الإله “كتزلكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) بكونه مجرّد ساحر أضلّ الناس في امبراطورية “تولا” فألّهوه وعبدوه وهو الذي قادهم إلى خرابهم عندما فشل في مواجهة آلهة آخرين ينعتهم أيضا بالسحرة ويقول إنهم جاؤوا وأهلكوه هو وأتباعه من التولتيك، يتحدث الرواة الهنود عن “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش) باعتباره الإله الأكبر الذي عُبد ومُجّد في “تولا”.ا

ثم كان أن الإله المدعوّ “الضريس اليسراوي” والإله المسمّى “سيدنا جميعا” والآخر المدعو “وتلاكوبان” جميعهم تآمروا على إله التولتيك (الثعبان ذي الريش) وأمعنوا في الكيد له فأهلكوا جميع أتباعه حتى راعه ما حدث وامتلأ قلبه بحزن لا ينضب. وكان أنهم واصلوا الكيد وفتل الأحابيل حتى أرغموه على الرحيل فركب البحر ومضى إلى المجهول. لكنه سيعود في نهايات الزمان ليسود. ومعه سيأتي قوم من الآلهة “التول” ليتولّوا الحكم فيهم. و”الثعبان ذو الريش” هو الذي سيقودهم ويتقدّمهم ساعة يحين موعد مجيئهم من هناك، من حيث تشرق الشمس، من هناك حيث يلتقي البحر والسماء ويغدوان واحدا. لأنه مكتوب أنهم من هناك يأتون. ولا رادّ لهذا القضاء. لا مهرب أيضا، لأنه مكتوب أيضا أن “كتزلكواتل” (الثعبان ذا الريش) هو الذي سيكون رفيقهم ودليلهم وقائدهم إلى أرض مكسيكو ومدائنها.ا

لم يكن الرواة الهنود يقدّمون للراهب مادّة تاريخية عن عالمهم بل كانوا يمدّونه بتلك الحكايات والأساطير وكانوا يقومون، في الآن نفسه، بتفسير ما حلّ بهم وبعالمهم من دمار. إن خراب مكسيكو، في تصوّرهم، لا يدلّ على تفوّق الجند الهمج الغزاة لأن ما حدث إنما هو القضاء المحتوم الذي لا مفرّ منه. ذلك أن نشأة الأمم وازدهارها، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى خرابها وزوالها وأفولها، إنما يتولّد عن صراع الآلهة. وحين تنهزم آلهة قوم وتولّي الأدبار هاربة أو تهلك وتزول يكون خراب أتباعها من الناس مسطّرا محتوما. والجند الأسبان الغزاة إنما جاؤوا في عهد الأزتيك أيّام ملك الامبراطور “مكتزوما” ليمنحوا ما كان مسطّرا محفوظا فرصة التحقق.ا

وهذا يعني أن خراب سكان مكسيكو ودمار عالمهم إنما يرجع إلى صراع الجبابرة من الآلهة. لأنه مكتوب أن الأيام والحيوات والأمجاد هبات تداولها الآلهة بين الناس: فالتولتيك سادوا قبل الأزتيك وعمّروا البلاد وملأوا الدنيا بالبطولات والفخار والأمجاد ثم هلكوا حين انهزم إلههم “الثعبان ذو الريش” ولاذ بالفرار. أما خراب الأزتيك ودمار مكسيكو فإنه، هو الآخر، حدث جلل آت في نهايات الزمان. وهو قضاء مؤجّل وأمر محتوم سيتحقّق عندما يعود “الثعبان ذو الريش”، ويصطحب معه قوما من “التول” أي الآلهة. حتما سيأتي هؤلاء “التول”. وحتما سيطلبون ما به وُعدوا: السيادة والملك. والإله الملقّب “كوتزالكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) كان الهنود يصوّرونه في شكل “ثعبان ضخم عظيم جدّا جسده محلّى بريش طير الكوتزال. وحين يرسمونه فاتحا شدقيه يتراءى في حلقه وجه بشريّ.”ا

هذا النص الذي قمت بترجمته، مقتطع من كتاب برنادينو دي ساهاغان، نقله إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال بيتور13 وهو يحمل عنوان “مكائد تيتلاكواكان” ويروي ما جرى بين “الثعبان ذي الريش” الذي مجّده التولتيك وعبدوه في بدء الزمان، والآلهة التي سترث الحياة والمجد والملك من بعده وتنعم بها على الأزتيك سكان مكسيكو الذين سيبيدهم الجند الغربيون الهمج. وهو يروي أيضا ما كان من أمر الإله “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش)، وما كان من أمر أتباعه وكيف هلكوا وبادوا. والراهب برنادينو دي ساهاغان يستبدل كلمة “إله” بكلمة ساحر، كي يظلّ وفيا لقناعاته ومنطلقاته الدينية ويقي متلقيه المفترض من الفتنة.ا

يبدأ نص “مكائد تيتلاكواكان” بالحديث عما كان في البدء ويرسم عالما مسيّجا بالبهاء، عالما فاتنا لا نوح فيه ولا وجع ولا موت. وإنما هو نشوة وغبطة والكون طفل. إنه فردوس البداية الذي كان أيّام كانت الحياة قد ولدت للتوّ هشّة طريّة مشتهاة. غير أن الحديث عن الفردوس يأتي مسكونا بنوع من الوعي الفاجع بالمصير. فثمة في هذا النص تسليم بأن الوجود والرعب صنوان. بل إن الرعب هو صميم الوجود وجوهره. ثمة وعي بأن الزوال هو وحده ما يبقى على الدوام. والنص لا يرسم الفردوس باعتباره عالما سماويا مفارقا بل يلحّ على أنه عالم أرضيّ هنا كان. وهو ما يفتأ يكون هنا أيضا. فالآلهة نفسها‘ في نظر الوثنيين، إنما تقيم على الأرض وتحيا مستأنسة بالبشر، بل إنها ظلّت تشاركهم أحزانهم وأيام أعيادهم. يحدّث الراهب برنادينو دي ساهاغان عن هذا الأمر مفتونا فيكتب: “وكانوا يزعمون أن الجبال العظيمة، لا سيما تلك التي تكللها السحب، إنما هي من الآلهة. وكانوا يصوّرون كل واحد منها تصاوير تجسّد كيفيات تمثلهم لفعالها.” وكان الكهنة يجسّدون تلك الآلهة ويلبسون لبوسها ويطلعون على الناس في أيام الأعياد. فيسبّح القوم قائلين: ها آلهتنا تحلّ بيننا. فطوبى لنا! ها أن آلهتنا تصل فالمجد! المجد!”ا

و النص، حين يرسم فردوس البداية الذي كان التولتيك ينعمون فيه لا يكدّر صفو حياتهم أي حادث ثم يشرع في الحديث عما آل إليه أمرهم من خراب، لا ينشد عبرة أو موعظة بل يريد أن يلحّ على أن الذي كان هو الذي يكون. إنها أيام تتوالى. دول تنشأ وتهلك. ووحده الزوال هو الأبقى. لذلك يشرع في الحديث عما كان من أمر التولتيك وأمر إلههم “الثعبان ذي الريش” في نبرة تجمع إلى السخرية الوجع والألم. إن الآلهة التي ستعبد وتمجّد في مكسيكو هي التي ستقضي على “الثعبان ذي الريش” وتهلك أتباعه. وسيتزعم تلك الآلهة الإله الماكر الذي برع في حبك المكائد وأتقن نصب الفخاخ وفاق غيره في فتل الأحابيل. إنه “تيتلاكوكان” العظيم الذي تفسيره “المرآة ذات الدخان”، وهو الإله الذي وهب الأزتيك المجد والملك والعظمة. لذلك كانوا يلقبونه “سيّدنا جميعا”.ا

غير أن برنادينو دي ساهاغان ينعت هذا الإلة بكونه مجرّد ساحر مكّار. ويلحّ على أن الهنود الأزتيك يعتقدون أنه “هو الذي خلق السماء. والأرض سوّاها. وهو الذي وهب كل نفس حية رزقها: أكلا وشرابا ونفائس لا تحصى. وكان هذا المسمّى “تيتلاكواكان” محتجبا عن الأنظار لا يرى. إنه شبيه بالظلّ أو بالريح. أما إذا ظهر وكلّم الناس فإنه يتجلّى في شكل ظلّ… وكان أتباعه من الازتيك يمجّدونه ويؤلّفون مدائح ترفع تمجيدا لاسمه هـكذا: “يا سيّد! يا سيّدنا جميعا! تحت جناحيك العظيمين ملاذنا ومأوانا، تحت جناحيك العظيمين قاتلنا ودرأنا الشرّ عنّا، إنك المحتجب، إنك من دقّ لجلالته أن يلمس، كالليل أنت، كالريح أنت…”.ا

إن نص “مكائد تيتلاكواكان” يكشف ما للأساطير القديمة من سطوة على واضعيها وعلى متخيّل الشعوب التي تظلّ تتوارثها جيلا بعد جيل. والحكايات والوقائع الواردة في النص لا تستمدّ عنفها ومضاءها مما تتوفّر عليه من فتنة وجاذبية وبهاء فحسب، بل تستمدها أيضا من كونها قد اضطلعت بأشد الأدوار خطورة في تحديد مصير الهنود الحمر وقدرهم العاتي الذي سيظلّ يلطّخ بالعار تاريخ الإنسان الغربي “المتحضّر!” ويكشف ما ينبني عليه تاريخ الجنس البشري كله من جريمة ودم وخسران.ا


13  Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, P 179-192 أ

يروي نصّ “مكائد تيتلاكواكان” كيف ستتمّ الإطاحة بـ”الثعبان ذي الريش”. ويذكر ما كان من أمره وأمر المكائد التي نصبها له الإله “تيتلاكواكان” الذي تفسيره (المرآة ذات الدخان/سيدنا جميعا) ويحدّث عن كل ذلك هكذا:ا

في الإخبار عما كان من أمر “الثعبان ذي الريش” الساحر الأكبر، وهو صنو هرقل عند الهنود الحمر، وأين ساد وملك وإلى أين انتهى

اعتبر”كتزلكواتل” من الآلهة، وعبد في “تولا” في الأزمنة الخوالي. كان له معبد عالي البناء صعب المرتقى تقود إليه مدارج ضيّقة جدّا اتساعها أضيق من قدم. وكان تمثاله موفور العناية مغطّى بالأقمشة، ووجهه في منتهى البشاعة. وهو ذو رأس كبيرة شعثاء. وسدنته كانوا جميعا مختصين في الفنون والصناعة بارعين في صقل الحجارة الخضراء المسماة “شالشيهويتس” وفي صهر الفضّة والمعادن. وهذه الفنون كلها إنما علّمهم إياها “الثعبان ذو الريش”.ا

وكانت له منازل بعضها مشيّد من الحجارة الكريمة الخضراء الشالشيهويتس، وبعضها الآخر قُدّ من الفضّة. وله أيضا منازل أخرى بنيت من اللؤلؤ الأحمر والأبيض. وله غيرها مقاما من الأصداف ومن أحجار اليشب. وكان سدنته يخدمونه بسرعة منقطعة النظير. والهنود يدعونهم “تلانكاسيميلهويتيم” وهو ما تفسيره (الذين يقطعون مرحلة في كلّ خطوة). وثمة جبل يحمل اسم “تزاتزيتيبتيل” الذي تفسيره (تلّة المناداة)، وهذا هو اسمه إلى يوم الناس هذا. ومن هناك، من أعلى الجبل كان المنادي يرفع صوته بالنداء ليدعو سكان القرى النائية التي تبعد عن المعبد مائة ميل. وهم يسمّون هذه القرى “أناهوياك” وهو ما تفسيره (ضفة البحر). كان السكان يسمعون المنادي، وعلى عجل يأتون ليتبيّنوا ما الذي يبتغيه منهم “الثعبان ذو الريش”.ا

ويروى أيضا أنه كان ثريا الثراء كله. وهو المملّك على الطعام والشراب. لقد كانت الذرة الصفراء طيلة أيام ملكه وفيرة، والقرع ضخما يبلغ طوله ذراعا، وسبلات الذرة الصفراء كبيرة إلى درجة لا يمكن معها إلا أن تمسك بها بكلتا يديك، وقصب سنابل القمح كان من الطول والعرض حتى أنه يمكن للمرء أن يتسلقه مثل جذوع الأشجار. وكان الناس يزرعون ويجمعون القطن من جميع الألوان: الأحمر والقرمزي والأصفر والبنفسجي والأخضر والأزرق والأسود الداكن والبرتقالي والأصهب. وكانت هذه الألوان كلها طبيعية. فالقطن هو الذي كان يولد من الأرض هكذا. وكان الناس في بلاد “تولا” هذه يتولّون تربية أنواع عديدة من العصافير ذات الريش النفيس: العصفور الأزرق والكاتزال والزاكون والعصفور الأحمر وغيرها من العصافير التي كانت تغني بكل عذوبة.ا

وفوق كل هذا، كان “الثعبان ذو الريش” يملك كنوز الدنيا: الذهب والفضّة وتلك الأحجار الكريمة الخضراء “شالشيهويتس”، وأشياء أخرى نفيسة، وغابات من أشجار الكاكاو ضخمة متعددة الألوان، وهي تسمى عندهم “إكزوشيكاكاوتل”. وكان سدنته أثرياء جدا لم يعوزهم شيء أبدا، ولا هم عرفوا الجوع يوما أو عرفوا نقصا في الذرة الصفراء. وما كانوا يأكلون سبلات الذرة الصفراء التي تكون صغيرة الحجم بل كانوا يتخذون منها حطبا به يدفئون حمّاماتهم. ويقال إنهم كانوا يكفّرون عن ذنوبهم بوخز أجسادهم بأشواك الأغاف حتى تلطّخ بالدم من شدة الوخز، ثم يغتسلون عند منتصف الليل بمياه نبع جار اسمه “اكسيباكويا” وهو ما تفسيره (مغسل الفيروز). وهذا طقس درج عليه الكهنة سدنة الأوثان المكسيكية وهم في ذلك إنما يتبعون السنّة التي كان “الثعبان ذو الريش” قد سنّها في دولة “تولا”.ا

في الإخبار عما آل إليه حظّ الثعبان ذي الريش من تعاسة، وكيف تصدّى له ثلاثة سحرة آخرون وما كان من أمرهم معه

جاء الوقت الذي دالت  فيه دولة “الثعبان ذي الريش” وأتباعه من قبائل التولتيك. فلقد ثار عليهم ثلاثة (آلهة) سحرة يدعون “الضريس اليسراوي” و”سيّدنا جميعا” و”تلاكوبان” وهو ما تفسيره الرجل الخشبي (وهذا اسم آخر من أسماء “هويتزيلوبوشتلي” وقناع من أقنعته). جميعهم أمعنوا في نسج المكائد في دولة “تولا”. بدأ المدعو “سيدنا جميعا” بالمكيدة التالية:ا

اتخذ له هيئة شيخ أشيب مقوّس الظهر ثم تقدّم وجاء حتى وصل بيت “الثعبان ذي الريش” وكلّم الغلمان هكذا: “أريد أن أرى الملك “الثعبان ذا الريش” وأتحدّث إليه.” فقالوا جميعا: “اذهب في حال سبيلك أيها الشيخ! أنّى لعاجز مثلك أن يراه ويمثل في حضرته، فمنظرك لن يكون بالنسبة إليه إلا مصدر قلق واشمئزاز.” عندها قال الشيخ: “لا بدّ لي من رؤيته.” فقال له الغلمان: “سنخبره بالأمر وننظر ما يكون.” وهكذا مضوا وأعلموا “الثعبان ذا الريش” قائلين: “يا سيد، يا سيد بالباب شيخ يريد أن يراك ويتحدث إليك، لقد جررناه إلى الخارج كي يذهب في حال سبيله لكنه ألحّ في السؤال قائلا أن لا بدّ له من ملاقاتك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “ليدخل الآن لأنني كنت أنتظر مقدمه منذ زمان طويل.” وهكذا جاء الشيخ ودخل وقال مخاطبا “الثعبان ذا لريش”: “يا سيد، يا سيدي كيف حالك؟” فقال “الثعبان ذو الريش”: “إن حالي سيئة كيفما قلّبتها، كل أعضاء جسدي تؤلمني ولم يعد بإمكاني أن أحرّك يديّ ورجليّ.”ا

فما كان من الشيخ إلا أن خاطب “الثعبان ذا الريش” قائلا: “سيدي، أيها السيد، ها قد جلبت لك الدواء. إنه دواء فعّال ومنقذ. من يتناوله يسكر وينتعش. فتناول منه إن أردت، سينعشك ويشفيك ويهدّئ من روعك ويجعلك تتحمل محنك وأتعابك وتقبل بموتك أو برحيلك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها  الشيخ! أين تريدني أن أذهب؟” فقال الشيخ: “إنه لضروري جدا أن تذهب إلى “تولانتلابالان” وهو ما تفسيره (تولا الحمراء)، هناك حيث ينتظرك شيخ آخر سيكلّمك بأمور ويحدّثك عن أمور. وبعدها سيعود إليك شبابك بل إنك ستصبح مثل طفل موفور العافية.” وعندما سمع “الثعبان ذو الريش” ذلك الكلام طفح قلبه بشجن لا يطفأ. فما كان من أمر الشيخ إلا أن استأنف الكلام قائلا: “يا سيد، أرجوك اشرب هذا الدواء.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها الشيخ إني لا أريد أن أشرب.” فقال الشيخ: ” يا سيد، اشرب، لتندمنّ إن لم تفعل. خذه على الأقل، وضعه قدّامك، وتناول منه جرعة واحدة.”ا

تناول “الثعبان ذو الريش” الدواء وتذوّقه ثم شرب منه ما تيسّر له أن يشرب وهو يقول: “ما هذا؟ يبدو أنه جيّد ولذيذ، لقد شفاني وخلّصني من المرض. إني لأشعر بأنني موفور الصحة والعافية.” فقال له الشيخ: “تناول منه أكثر مما تناولت لأنه دواء عزيز نفيس وستتحسّن صحتك أكثر فأكثر.” استزاد “الثعبان ذو الريش” من الدواء وشرب منه ما أسكره. وسرعان ما انخرط في بكاء حارّ حزين، ورقّ قلبه وطفح بالأشجان، واستبدت به الرغبة في الرحيل وسكنت منه بين الحشايا والضلوع، فلم يعد قادرا على التفكير إلا في الرحيل. وهذا فخّ نصبه له الساحر الشيخ. ذلك أن الدواء الذي شربه “الثعبان ذو الريش” لم يكن سوى الخمرة البيضاء التي تجود بها تلك الأرض وقد تم استخراجها من الأغاف المسمّى “تيومتل”.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى حبكها هذا الساحر المسمى “سيدنا جميعا

مكيدة أخرى دبّرها “سيدنا جميعا” لـ”الثعبان ذي الريش”، فتجسّد في شكل واحد من هؤلاء الهنود الحمر الغرباء الذين يدعون “توئيّو” وهو ما تفسيره (الهندي المتوحّش). ثم جلس في ساحة السوق التي تقع قبالة القصر وشرع في بيع الفلفل الأخضر وهو عارٍ تماما مثلما هو شأن الهنود المتوحشين من أبناء ذلك الزمان. كان الهيوماك ملكا سيدا يملك على التولتيك، وكانت له ابنة في غاية الجمال في الوقت الذي كان فيه “الثعبان ذو الريش” بمثابة راهب لم يتخذ له صاحبة أبدا ولم ينجب ذرية. جميع الرجال التولتيك طمعوا في الزواج من تلك البنت لأنها حسناء جدا. وكان الهيوماك الملك يمنعها عنهم ويردّهم خاسئين.ا

وكان أن أطلّت ابنة السيد الهيوماك من شرفة القصر على السوق فوقع بصرها على الهندي المتوحش وهو عارٍ تماما ورأت رجولته صارخة. فأنّت له أحشاؤها من شدة الشهوة. وبعد أن رأته على تلك الحال دخلت إلى القصر وازدادت حرقة ووجدا إلى درجة أنها اعتلّت ومرضت وتورّم جسدها. ولما علم السيد الهيوماك بمرضها سأل وصيفاتها قائلا: “ترى ما الذي أصابها؟ وما هو هذا المرض الذي جعل كل جسدها يتورّم هكذا؟” فقالت الوصيفات: “يا سيدي، إن السبب في هذه العلة هو ذلك الهندي المتوحّش الذي يسير عاريا. لقد لمحته ابنتك وملأت بصرها برجولته الصارخة. إن ابنتك الآن مريضة حبّا.” وعند سماع قولهن أصدر السيد الهيوماك أمره قائلا: “آه! يا معشر التولتيك! فتّشوا لي عن هذا المتوحش الذي يبيع الفلفل الأخضر في هذه التخوم كلها. لا مناص من مجيئه في الحال.” فما كان منهم إلا أن فتشوا عنه في كل مكان دون جدوى. وحين يئسوا من ظهوره صعد مناد إلى قمّة جبل “تلّة المناداة” وصرخ بأعلى صوته قائلا: “يا معشر التولتيك، إن عثر أحد منكم على هندي متوحش يبيع الفلفل الأخضر في هذه النواحي فليأت به كي يمثل في حضرة السيد الهيوماك.” فتشوا عنه في الأماكن كلها والتخوم جميعها ولم يعثروا له على أثر. فجاؤوا السيد الهيوماك وأخبروه بأنه قد اختفى حتى لكأن الأرض قد ابتلعته.ا

ثم كان أن ظهر المتوحش جالسا في السوق حيث كان قد باع الفلفل الأخضر. وحال رؤيته مضى الهنود التولتيك راكضين إلى السيد الهيوماك وأخبروه بالأمر. فقال لهم: “هاتوه في لمح البصر.” فنادوا عليه وأخذوه إلى السيد الهيوماك الذي بادره بالسؤال قائلا: “من أين جئت؟” فقال: “ياسيدي، أنا رجل غريب الدار آتي إلى دياركم لأبيع الفلفل الأخضر.” فسأله السيد قائلا: “أية أرض انشقّت عنك؟ لماذا لا تلبس تنورة ولا ترتدي رداء؟” فأجابه قائلا: “يا سيدي، هكذا هي التقاليد والأعراف عندنا.” فقال السيد للهندي المتوحش: “هل ترغب في ابنتي؟ عليك أن تشفيها من علّتها.” ردّ الهندي قائلا: ” يا سيدي، إن ما تدعوني إليه هو المحال عينه بالنسبة إليّ. فاقتلني إن أردت لأن الموت أحبّ إليّ ممّا ترغّبني فيه. لست أهلا لذلك ولا أنا مستحق هذا الفضل. ما حللت بدياركم إلا لبيع الفلفل الأخضر حتى أكسب قوت يومي.” قال السيد: “لا بدّ لك من مداواة ابنتي، فهدئ من روعك ولا تجزع.” ثم كان أنهم أخذوه ليحمّموه ويحلقوا شعره. ثم زيّنوا جسده كلّه بالطلاء وألبسوه تنورة ومعطفا. وبعد ذلك قال له السيد: “امض الآن وادخل على ابنتي في مخدعها.” ففعل. ودخل على البنت وعرفها. وللتوّ تعافت وردّ إليها جمالها. وهكذا صار الهندي المتوحش صهرا للسيد الهيوماك.ا

خبر نقمة أهل تولا على هذا الزواج. يليه خبر عن مكيدة أخرى نصبها “سيدنا جميعا

ما إن تمّ الزواج ودخل الهندي المتوحش على عروسه ابنة السيد الهيوماك حتى تفاقمت نقمة التولتيك، ووصل بهم الأمر إلى حد القدح في عرض السيد الهيوماك وشتمه سرّا وعلانية فيما هم يسائلون بعضهم البعض: لماذا زوّج ابنته لهذا المتوحّش؟ وحين بلغ أمر التولتيك وما يأتونه من قدح وشتائم إلى مسمع السيد الهيوماك دعاهم جميعا وفتح فاه وكلمهم قائلا: “تعالوا، لقد بلغني أمركم وسمعت ما تكيلونه لي من شتائم بسبب صهري المتوحش، وها أنذا أطلب منكم أن تمكروا به وتأخذوه لمحاربة مدينة “زاكاتيباك” وهو ما تفسيره (مدينة تلّة العكرش) ومدينة تلّة الحيّات كي يلقى حتفه على أيدي أعدائنا.ا

وعند سماع هذه الأقوال تقدم التولتيك وجاؤوا كلّهم فتجمهروا وتنادوا للحرب وساروا. ومعهم سار العديد من الجنود، وسار الهندي المتوحش صهر السيد الهيوماك. وعندما وصلوا إلى مكان المعركة طمروه في حفرة وأحثوا عليه التراب مع غلمانهم العرج الأقزام. وتلك لعمري حيلة من حيلهم الحربية! ثم تقدموا لمنازلة جيش أعدائهم الذين قدموا من مدينة تلة الحيات. في ذلك الوقت كان الهندي المتوحّش يهدّئ من روع الغلمان العرج الأقزام قائلا: “لا خوف عليكم ولا أنتم تجزعون، تشجّعوا، فعلينا أن نقتل أعداءنا على بكرة أبيهم.” لكن أهل تلّة الحيات انتصروا، وشرعوا في مطاردة التولتيك الذين كانوا يولون الأدبار طلبا للنجاة مخلّفين وراءهم المتوحش والغلمان في الحفرة والتراب يغطّيهم. كانوا يفرّون وهم يمنون النفس بكل دهاء وبكل مكر أن يفتك الأعداء بالصهر المتوحش ومن معه من الغلمان فتكة بكرا.ا

وكان أنهم وصلوا إلى ديارهم وجاؤوا السيد الهيوماك ليعلموه بالأمر قائلين: “سيدنا، لقد تركنا صهرك المتوحش وحيدا وليس معه من رفيق في مواجهة الأعداء غير الغلمان العرج الأقزام.” وحين علم السيد الهيوماك أن التولتيك قد غدروا بصهره فرح فرحا عظيما جدا معتقدا أنه أهلك ذلك الصهر الأجنبي المتوحش الذي ألحق به العار والخزي. لكن المتوحش المغطى بالتراب، من مخبئه ظل يراقب الأعداء ويحدّث الغلمان قائلا: “لا تخافوا ولا تجزعوا، ها أن الأعداء يصلون إلينا وأنا أعرف أنه عليّ أن أقتلهم على بكرة أبيهم.” ثم كان أنه نهض للطعان والضراب واندفع ينازل الأعداء الذين قدموا من “تلة الحيات” وأولئك الذين أقبلوا من “تلة العكرش”. فكان يطاردهم ويصرع منهم أعدادا لا تحصى حتى هزمهم جميعا.ا

وحين بلغ خبره إلى مسمع السيد الهيوماك ارتعب جدا. لقد هاله الأمر وأدخل عليه قلقا عظيما. فدعا التولتيك وكلمهم هكذا: “لنذهب جميعا لاستقبال صهرنا.” وكان ما سوف يكون. لقد هبّوا جميعا لاستقباله يتقدمهم السيد الهيوماك. حملوا معهم الأسلحة والشعارات المسمّاة عندهم “كتزالابانيكايوتل” وهو ما تفسيره (عارضة ريش الكتزال) والدروع المسماة “أكسيوهشيمالي” الذي تفسيره (مجنّ الفيروز) وقدموها كلها للمدعو المتوحش، واستقبلوه ومعهم غلمانهم وهم يرقصون ويغنون والمزمّرون ينفخون في شباباتهم إيذانا بالنصر والفرحة والحبور.ا

وحين بلغ الموكب السيد الهيوماك قام التولتيك بوضع تاج من الريش على رأس المتوّحش وطلوا جسده بطلاء أصفر اللون ووجهه بطلاء أحمر ووضعوا على رؤوس الغلمان رفاقه أكاليل أيضا ودهنوا أجسادهم ووجوههم. وتلك عادة درجوا عليها في تكريم كل الذين يعودون من ساحات الوغى مظفّرين. بعد ذلك قال السيد الهيوماك لصهره: “الآن وقد امتلأ قلبي بهجة بسبب ما أتيته من أمجاد، وبالبهجة ذاتها امتلأت قلوب التولتيك أجمعين، حقّ لك أن تخلد إلى الراحة، فلقد تصرّفت في مواجهة الأعداء تصرفا محمودا.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه مكّنته من جعل بعض سكان تولا يرقصون حتى الموت

مكيدة أخرى نسجها ذاك الساحر المسمى “سيدنا جميعا”. فبعد أن صرع جميع أعدائه وهزمهم ونال على ذلك رداء قُدّ من ريش ببّغاء أصفر طلب من جميع التولتيك أن يرقصوا وأمر مناديا أن يصعد إلى قمة “تلّة المناداة” وينادي كل الهنود الأجانب حتى يقبلوا ويرقصوا معهم في ذلك الحفل. وكان أن جاء إلى “تولا” عدد لا يحصى من الهنود. أما ما كان من أمر المسمّى “سيدنا جميعا” فإنه قصد بهم، فتيات وفتيانا، مكانا يسمّى “تكسكالابان” وهو ما تفسيره (ماء الصخور). وهناك رفع عقيرته بالغناء فيما هو يرقص ويقرع الطبل. فأخذ الناس أجمعين يرقصون مغتبطين اغتباطا عظيما وهم يردّدون المقاطع التي كان الساحر يترنّم بها وما كانوا قد سمعوها من قبل أبدا.ا

هكذا ظلوا، شطح ورقص وغناء، من غروب الشمس حتى منتصف الليل المسمى عندهم “تلاتلابيتزاليزبان” وهو ما تفسيره (ساعة النفخ في الشبابات). ولما كان عدد الراقصين عظيما جدا فإنهم كانوا يتدافعون ويرتطم البعض منهم بالبعض الآخر. وكثيرون منهم كانوا يسقطون في جرف الوادي المسمى “تكسكاللوهكو”، ويتحولون إلى حجارة. لقد كان على ذلك النهر جسر قُـدّ من الحجارة عمد هذا الساحر إلى تكسيره. وكلّ الذين صعدوا ذلك الجسر سقطوا وهووا في النهر وتحولوا إلى أحجار. وما كان التولتيك يتفطنون إلى أنها صنائع الساحر وفعاله لأنهم كانوا سكارى كما لو أن الخمر قد ذهبت بعقولهم. فكانوا كلما عادوا إلى الرقص يتدافعون فيسقط آخرون في النهر الجاري.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أهلك بها أناسا آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل أحابيلها ذلك الساحر: جلس يوما في قلب “تيانكيز” وهو ما تفسيره (ساحة السوق) وزعم أنه يدعى “الرجل الخشبي” ويسمى أيضا “كيوكسكوش”. وعلى راحتيه كان يقوم بترقيص رجل صغير في حجم عقلة الاصبع يزعم الناس أنه “الضريس اليسراوي”. وحين لمحه القوم من التولتيك نهضوا جميعا وصاروا ينظرون إليه مخطوفي العقول ويتدافعون بكل عنف، كلّ يريد رؤيته إلى درجة أن كثيرين منهم صرعوا ولقوا حتفهم مختنقين في الزحام مرفوسين بالأرجل رفسا. وهذا كثيرا ما كان يحدث لهم. فكثيرون منهم قد لقوا حتفهم من شدة الزحام. عندئذ قال الساحر المدعو “الثعبان ذو الريش” مخاطبا أتباعه: “يا معشر التولتيك! أي معشر التولتيك! ما الذي دهاكم؟ كيف لا تتفطنون إلى أنها مكيدة؟ كيف لا تدركون أن تعويذة السحر هي التي ترقّص هذا الرجل الصغير. هيّا اقتلوهما معا رميا بالحجارة، ارجوموهما.” وهكذا رجم التولتيك الساحر “الرجل الخشبي” وصاحبه الرجل الصغير الذي هو في حجم عقلة الاصبع، وقتلوهما رجما بالحجارة.ا

ثم كان أن جثة الساحر القتيل شرعت في التفسّخ. ومنها انبعثت الرائحة الكريهة حمّالة الوباء. كانت الرائحة النتنة تفسد الهواء وتنتقل مع الرياح مهلكة أعدادا هائلة حيثما حلّت. فنطق الساحر المسمّى “الثعبان ذو الريش” و كلّم أتباعه هكذا: “نحّوا عني هذه الجثة واحملوها بعيدا. إن رائحتها قد أهلكت من التولتيك خلقا كثيرا.” فقاموا بربط الجثة بالحبال وحاولوا أن يجرجروها. لكنها كانت أثقل مما يقدرون عليه، فلم يقدروا على تنحيتها أو إبعادها. كانوا يتوهمون أنهم سيخرجونها من “تولا” على عجل. أرسلوا مناديا ينادي القوم كلهم: “يا معشر التولتيك، يا معشر التولتيك، تعالوا كلكم وخذوا معكم حبالكم كي نربط الجثة ونلقيها خارجا.”ا

وكان أن التولتيك جميعهم تجمهروا حول الجثة وشدوا وثاقها بحبالهم وشرعوا في جرجرتها وهم يتنادون هائجين جدا: “أي معشر التولتيك! جرجروا هذه الجثة بحبالكم.” لكن وزن الجثة كان أكثر مما يقدرون على جرّه. تقطّعت الحبال وأدى انقطاعها إلى هلاك من كانوا يمسكون بها، إذ هوى البعض منهم على البعض الآخر. ولما عجزوا عن نقل هذه الجثة خاطبهم الساحر المسمى “الثعبان ذو الريش” قائلا: “يا قوم، يا معشر التولتيك، هذه الجثة تريد أن نغنّي لها مقطعا من أغنية.” وقام هو نفسه باختيار المقطع وقال لهم ترنّموا هكذا: “جرجروا، هيّا جرجروا، جثة الساحر “الرجل الخشبي” جرجروا، جثة القتيل جرجروا…” وبعد لأي تمكنوا من جرّ الجثة يسيرا يسيرا حتى بلغوا بها الجبل. وكان أن الذين عادوا ولم يهلكوا من شدة الإعياء لم يفهموا ما الخطب الذي حلّ بهم. فلقد صاروا مسطولين حتى لكأنهم سكارى وما هم بسكارى.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أودت بحياة أناس آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل خيوطها الساحر نفسه. فلقد قيل إن الأغذية كلها فسدت وتعفّنت فجأة وما عاد أحد من الناس قادرا على أكلها. وساعتها طلعت على القوم عجوز هندية يقال إنها الساحر نفسه متنكّرا. جلست العجوز في حديقة “اكزوشيتلا” وشرعت تشوي ذرة صفراء، فعبق الجو برائحة الذرة الصفراء المشوية. وكان أن الرائحة انتشرت في كل القرى المجاورة. وعندما داعبت تلك الرائحة أنوف التولتيك مضوا راكضين. وفي أقل من لمح البصر وصلوا إلى الحديقة. فمما يشاع أن التولتيك كانوا قوما في سرعة الريح إن هم ركضوا. أما ما كان من أمر العجوز فإنها كانت تقتل كل من يصل إليها. فلم ينج منهم أحد.ا

في الإخبار عن مكائد أخرى حبكها الساحر نفسه

حبك الساحر ذاته مكيدة أخرى في قلب مدينة “تولا” إذ قيل إن القوم رأوا صقرا أبيض مخرّقا بسهم ظل يمرق هناك في السماء في الأعالي على مرأى من الجميع. مروّعة كانت المكائد والأحابيل التي نسج خيوطها الساحر. وكثيرة هي النفوس التي أهلكها بواسطة تلك المكائد والحيل والأحابيل. لقد عمد هذا الساحر إلى جعل التولتيك يرون حين يرخي الليل سدوله جبل “تلة العكرش” يحترق وألسنة اللهب تصّاعد منه فيجزعون ويملأون الدنيا بالصراخ والزعيق والعويل، ويتملّكهم الوجل والهلع. ومن شدة الحيرة يسائل البعض منهم البعض الآخر قائلين: “أي معشر التولتيك! ها حظنا يكبو بنا، ها أننا نهلك، وها فننا يتلف، وما أبدعناه يتلاشى. يا لرزيتنا! فالنفير! النفير! يا لتعاستنا! يا لضيعتنا! بمن نلوذ؟ بمن نحتمي؟ أين سنولّي وجوهنا؟ يا لفظاعة شقوتنا! فلنحاول أن يسند بعضنا بعضا ونتجلّد.”ا

وفوق هذا كله حاك لهم هذا الساحر أحبولة أخرى. لقد جعل السماء تمطر على التولتيك حجارة من سجّيل. ثم أنزل عليهم جلمود صخر يسمى “تشكاتل” وهو ما تفسيره (صخرة القربان). وحدث أيضا أنه ابتلاهم بعجوز هندية جاءت تسير حتى وصلت إلى مكان يسمونه “شابولتيت كويتلابيلكو” وهو ما تفسيره (تلة الجراد أرض النهاية). ويسمى أيضا “هيتزمكو” الذي تفسيره (مكان السقطة). كانت العجوز تسعى بينهم وتبيع أعلاما صغيرة سوّيت من الورق وهي تنادي: “أعلام جميلة، من يبتغي أعلاما جميلة؟” وكان كل من يرغب في الموت يسارع بالقول: “ابتاعوا لي علما صغيرا، أريد علما صغيرا.” وعندما يشترونه له يعجّل باعتلاء صخرة القربان هناك حيث ينقض عليه الآخرون ويقتلونه. وما كان أحد منهم يتساءل: “ما الذي اعترانا؟” فلقد كانوا كمن أصابهم مسّ من الجنون خطف منهم العقول.ا

في الإخبار عن فرار “الثعبان ذي الريش” إلى مدائن تولا الحمراء وما أتاه من فعال في طريقه إليها

وقع التولتيك في فخاخ أخرى لأن الحظ قد تخلى عنهم. وكان أن المدعو “الثعبان ذا الريش” امتلأ قلبه بالأسى جرّاء تلك المكائد. لقد غلب على أمره فقبل بالرحيل إلى “تولا الحمراء”. وما كان منه قبل رحيله إلا أن أضرم النيران في منازله التي كان قد شيّدها من الفضة واللؤلؤ. وطمر ما يملك من نفائس في قاع الأرض وفي الجبال وجروف الوديان، وحوّل أشجار الكاكاو إلى أشجار أخرى تسمى مزكيت. وفوق ذلك كله، أمر العصافير ذات الريش النفيس تلك التي تسمى “الكتزال” وهي العصافير الزرقاء والعصافير الحمراء بأن تسبقه إلى هناك. فما كان منها إلا أن طارت ومضت حتى بلغت مدينة “ضفة بحر” التي تبعد أكثر من مائة ميل.ا

ثم كان أن “الثعبان ذا الريش” حمل عصا الترحال وشق طريقه مخلّفا وراءه مدينة “تولا”. وحثّ الخطى حتى وصل إلى مكان يقال له “كوهتليان” الذي تفسيره (طرف الغابة). وكان ثمة في ذلك المكان شجرة عظيمة عريضة جدا، وطويلة جدا. فاتكأ “الثعبان ذو الريش” على تلك الشجرة وطلب من غلمانه أن يعطوه مرآة. وللتوّ لبّوا طلبه. فما كان منه إلا أن نظر إلى وجهه في المرآة، وفتح فاه وحدّث نفسه قائلا: “إني الآن شيخ مسنّ هرم.” وللتوّ سمّي ذلك المكان “هيوهيوكوهتيتلان” الذي تفسيره (طرف الغابة الهرمة). ثم كان أنه التقط أحجارا ورمى بها الشجرة فمضت الأحجار وتوغلت في جذع الشجرة وفي أغصانها كلها. ومنذ الزمن ذاك والأحجار عالقة بالشجرة هكذا، من أسفل جذعها إلى ذروتها. وبإمكان المرء أن يرى تلكم الأحجار ملتحمة بالشجرة إلى يوم الناس هذا.ا

هكذا ظل “الثعبان ذو الريش” يضرب في الأرض يتقدمه المزمّرون من أتباعه وهم يزمّرون. ثم كان أنه توقف في مكان آخر ليأخذ له قسطا من الراحة. فجلس على صخرة عظيمة، ووضع راحتيه على سطحها، فتوغلتا في الصخرة وتركتا أثرهما حتى يوم الناس هذا. ولما كان “الثعبان ذو الريش” يتلفّت باتجاه “تولا” التي غادرها فإن قلبه امتلأ بشجن لا يطفأ، فانخرط في نوح أسود مرّ حزين. وكان أن الدمع المتحدر من عينيه مدرارا حفر الصخرة التي كان قد جلس عليها طلبا للراحة، وأحدث فيها ثقبا لا تحصى.ا

في الإخبار عن الآثار التي تركها على الصخر، وهي آثار راحتيه ومؤخرته في المكان الذي كان قد جلس فيه

وحدث أن “الثعبان ذا الريش” وضع يديه على الصخرة الكبيرة التي كان قد قعد فوقها فانحفرت آثار راحتيه عليها حتى لكأن تلك الصخرة كانت من طين. وانحفرت آثار مؤخرته في البقعة التي كان قد جلس فيها. وهذه الآثار بيّنة للعيان إلى يوم الناس هذا. لذلك سمي هذا المكان “تيماكبالكو” وهو ما تفسيره (آثار الراحتين). وكان أن “الثعبان ذا الريش” نهض وواصل طريقه حتى بلغ المكان المسمّى “تينامويان” وهو ما تفسيره (الممرّ). فمن هناك كان يمرّ نهر كبير واسع جدّا، عليه شيّد “الثعبان ذو الريش” جسرا قدّه من الصخر.ا

ثم أكمل طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كواهوابان” وهو المكان الذي سبقه إليه السحرة الآخرون كي يسدّوا عليه طريقه ويمنعوه من التقدم خطوة أخرى. وحين وصل إليهم بادروه بالسؤال قائلين: “إلى أين تمضي؟ ولماذا تهجر شعبك؟ من ستأتمن عليه من بعدك؟ من الذي سيكفّر عن الذنوب التي سيقترفها شعبك من بعدك؟” ففتح فاه وكلّمهم جازما: “إنكم لا تقدرون على منعي من الذهاب إلى حيث أمضي لأن هذا هو قدري.” فسألوه قائلين: “إلى أين ستذهب؟” فأجابهم قائلا: “إلى تولا الحمراء.” قالوا: “ولماذا تذهب إلى هناك؟” فأجابهم قائلا: “لقد دعتني الداعية، الشمس نفسها هي التي دعتني.” وساعتها قالوا له: “ليكن الحظ حليفك في رحلتك هذه. لكن، مكتوب أنه عليك أن تترك هنا كل فنون الصناعة والتقنية: فن تذويب الفضة وصهرها، وفن صقل الحجارة والخشب، فن الرسم، وفن تسوية الريش، وغيرها من الفنون.” وانصرف السحرة في حال سبيلهم. أما عن “الثعبان ذي الريش” فإنه شرع يرمي بكنوزه في نبع جار كان يسمى “كوزكابان” الذي تفسيره (نبع القلادات). وهو يحمل الآن اسم “كوابان” وهو ما تفسيره (نبع الثعبان).ا

واصل “الثعبان ذو الريش” طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كوشتوكان” الذي تفسيره (سِـنة النوم). فطلع عليه ساحر آخر وجاء وقال له: “طريق السلامة، تناول هذه الخمرة التي حملتها لك معي.” فأجابه قائلا: “لا يمكن أن أشرب منها أو أذوق منها جرعة واحدة.” فقال له الساحر الذي اعترض سبيله: “ليس لك من الشرب بد، ولا حول لك، لا بدّ أن تذوق منها جرعة على الأقل لأنني منها أسقي كل ذي نفس حية وبها أسكرهم جميعا، هيّا، اشرب.” فما كان من “الثعبان ذي الريش” إلا أن تناول الخمرة وامتصها مستخدما قشة مجوّفة. فسكر واستسلم للنوم على قارعة الطريق وطبّق شخيره الآفاق. وعندما استيقظ جال ببصره هنا وهناك، وطفح قلبه بالشجن. فشرع يمزّق شعره تمزيقا. ولذلك سمي ذلك المكان “سِـنة النوم”.ا

 خبر غلمان “الثعبان ذي الريش” وكيف هلكوا من شدة البرد في الممرّ الفاصل بين جبل البركان وجبال نيفادا. يليه خبر عن فعاله وصنائعه الأخرى

وكان أن “الثعبان ذا الريش” واصل طريقه على الممر الواقع بين جبل البركان وجبال نيفادا، وهناك هلك جميع غلمانه الذين كانوا أقزاما مُحدَوْدَبي الظهور. فحزن عليهم الحزن كله. ورثاهم بأغنية. فكانت العبرات تخنقه والزفرات تحرق مهجته وهو يتطلّع ببصره إلى الجبل الآخر المغطى بالثلج واسمه “بويوتيكاتل” الذي تفسيره (السحب). وهو جبل يقع على مقربة من “تيكاماشالكو” وتفسيره (الفم الذي قُـدّ من حجر).ا

هكذا مرّ بالأماكن المذكورة كلها وبالقرى وترك آثارا على الأرض وفي الطريق حسب ما قيل. ويقال أيضا أنه قد استبدّ به الفرح فصار يلعب ويمرح فوق جبل عال وأنه جلس على القمة وانحنى حتى لامس السهل. ثم هبط من الجبل. وهذا حدث مرات عديدة. ويقال إنه عمد، في مكان آخر، إلى ابتكار كبّة جوّفها وسوّاها من حجارة مربّعة الشكل في داخلها يمكن للناس أن يلعبوا لعبة “التلاشتلي”. وفي وسطها فتح ثلما أو علامة تسمى “تليكوتل”، فانفتحت الأرض في ذلك الموضع وصار جرف هائل. وعمد، في مكان آخر، إلى تصويب سهم نحو شجرة ضخمة تسمى “بوشوتل”. والسهم نفسه كان شجرة “بوشوتل” اخترقت الأخرى فاتخذتا شكل صليب.ا

ويقال أيضا إنه شيّد منازل تحت الأرض تسمى “ميكتلانكالكو” وهو ما تفسيره (بيوت الموتى). ويقال إنه نقل صخرة ضخمة جدا، وجاء فوضعها على نحو يسهل للمرء معه أن يحركها بخنصره. أما إذا اجتمع رجال عديدون ورغبوا في تحريكها فإنهم لا يتمكنون حتى من زحزحتها.ا

***

عديدة هي الأمور التي أتاها “الثعبان ذو الريش” في العديد من القرى. وكثيرة هي فعاله وصنائعه التي تستحق أن تذكر وتشهر. لقد سمى الجبال كلها، والهضاب والأماكن والبقاع دعاها بأسمائها. وعندما وصل إلى شاطئ البحر صنع لنفسه طوف ثعبان يسمى “كواتلابيشتلي” وهو ما تفسيره (لبوس الثعبان). وجلس فيه مثلما يجلس المرء في قارب. وواصل سفره في البحر الطامي. ولا أحد يعرف كيف أو بأية طريقة وصل إلى “تولا الحمراء”.ا

و61 وحين حان الحين، حين أزف الزمن المدعو “كواوتل إهووا”،ا

عندها، فوق هاتيك الصخرة المدوّرة،ا

الصخرة المعدّة للتضحية البطولية، أُظهروا للناس وبدوا للعيان؛

أولئك الذين سيجلدون أُظهروا للناس.ا

 و62 والذين كان الموت المحقق ينتظرهم، مطلوب منهم أن: “يقيموا السواري التي سيجلد عليها من سيجلدون.”ا

ل63 لقد جيء بهم إلى “يوبيكو”، معبد التولتيك.ا

ه64 هناك أُخبِروا بالطريقة التي يلزمهم أن يموتوا بها؛ مزقا مزقا قطّعت قلوبهم؛

ب65 استخدموا ترتيّة من الذرة التي لم تليّن بالدبق، استعملوا الـ”يوبي” ترتيّة حتى انتزعوا قلوبهم من الصدور.ا

ل66 لأربع مرّات أُظهروا قدّام الناس،ا

قدّام الناس أخرجوهم ،ا

 كي يراهم الملأ،ا

 كي يراهم الناس أجمعين،ا

 كي يصيروا معروفين للناس أجمعين.ا

  أ67 أعطوا لكل واحد منهم أشياء؛ أعطوا لكل واحد منهم ملابس من ورق.ا

ف68 في المرّة الأولى خلعت عليهم أشياء ليتحلّوا بها، كان لونها أحمر.ا

ص 69 صار لونهم أحمر.ا

ص70 صاروا حمرا.ب

م71 ملابسهم التي سويّت من الورق كانت حمراء.ا

ف72 في المرّة الثانية زينتهم التي قدّت لهم من الورق كانت بيضاء.ا

ف73 في المرّة الثالثة ساروا بملابس حمراء.ا

ف74 في المرة الرابعة كانوا بيضا.ا

أ75 أزفت الساعة فزيّنوهم،ا

حان وقت تقدمتهم قرابين فمنحوهم العطيّة الأخيرة،ا

 أُلبس من سيقدمون قرابين رداء التقدمة،ا

 ذاك الذي سيوصلهم فيه (المضحون) إلى مصارعهم،ا

ذاك الذي ستلفظ فيه آخر أنفاس (الضحايا)،ا

ذاك الذي سيجلدون فيه.ا

من أجل هذه المناسبة لبسوا زينتهم الحمراء.ا

ز77 زينتهم ماعادوا غيّروها: ما عادوا غيّروا زينتهم أبدا.ا

……………………………………….

م2917 معبد السينتيوتل الأبيض

م2918 معبد السينتيوتل الأبيض، هناك كان الأسرى يقضون نحبهم.ا

 أولئك الذين تقرّحت جلودهم،ا

م2919 ما كان أحد يرغب في أكلهم؛

بعد مصرعهم، كان الكهنة يوارونهم التراب.ا

 ل2920 لقد صرعوا  في أيام الصوم، أيام الصوم تمجيدا للشمس.ا

هناك كانوا يجمعونهم أجمعين،ا

الأسرى المقدَّمين أضاحي وقرابين.ا

 أولئك الألى يسمّون تلالوكس

……………………………………………..

ن3104 نحرا بعد تجميعهم أجمعين،ا

 نحرا كانوا ينحرون.ا

 إ3105 إربا إربا كانوا يمزّقون منهم الأجساد بعد طقوس النحر،ا

طهيا يطهونهم.ا

م3106 مازجين اللحم ببراعم الورد المهروسة، كانوا يطبخونهم.ا

و3107 وللنبلاء وأكابر القضاة كانوا يقدّمون الوليمة فيأكلون،ا

 باللحم البشري ينعمون؛

وحدهم الحكام بالوليمة جديرون، والعامة منها لا يقتربون،ا

 العوام لا يأكلون.ا

 وحدهم الحكام بالوليمة ينعمون.ا

From Fr. Bernadino de Sahagun, The Florentine Codex:  General History of the Things of New Spain, Book 2,:

 The Ceremonies. Arthur J.O. Anderson and Charles Dibble, trans. Sante Fe  School of American Research and the University of Utah Press, 1950-1982.

هذا النص مأخوذ من الكتاب الملعون. وهو كتاب حرصت الكنيسة على الاحتفاظ به في العتمة لتوقّي العالم المسيحي والناس أجمعين من مخاطره وفتنته. طيلة أكثر من قرنين ظلّ كتاب الراهب برنادينو دي ساهاغان يعتبر كتابا ملعونا، كتابا سرّيا أبعدته الكنيسة عن الأنظار. فلقد أجمع رجال الدين منذ سنة 1565م على أن سحره لا يقاوم. إنه كتاب فتنة وغواية. ومن يطّلع عليه لا يمكن أن ينجو من الوقوع في دائرة السحر والانقياد لإغواء  كبير المفسدين وزعيمهم بلا منازع: إبليس المكّار. ولذلك أيضا ظلّ الكتاب مخطوطا لا أحد من رجال الدين يجرؤ على التفكير في نشره حتى سنة 1829م تاريخ صدوره في المكسيك.ا

طيلة أكثر من قرنين لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة المجرّب إبليس وثبتوا الثبات كلّه في مجاهدته ومواجهة إغراءاته ووسوسته التي قلّ أن يثبت المرء أمام سطوتها.ا

لم يكن مؤلّف الكتاب، الراهب برنادينو دي ساهاغان، منشقّا على الكنيسة أو معارضا لها حتى يعتبر كتابه كتابا محرّما. بل كان رجل دين مسكونا إلى حدّ الهوس بالدفاع عن الكنيسة والتبشير بتعاليمها. ولم يكن أجنبيا يمكن أن يتحوّل إلى جاسوس يخشى منه على التاج الملكي. بل هو إسباني المولد والنشأة والتكوين. فلقد ولد سنة 11499. وحين بلغ الثانية عشرة من عمره أرسل إلى مدرسة مدينة سلامنكا وشرع في التعلّم. وعلى عجل التحق بكنيسة القديس فرانسوا. وهناك تشرّب التعاليم كلّها وحذق طرائق الرهبان في الالتفاف على الفعال التي تتعارض مع ما تدعو إليه الديانة من إخاء وتراحم. وعلى عجل أيضا تمرّس بالفتاوى والحيل التي كانت الكنيسة تبرّر بها مشاركتها في نسج فصول أشنع جريمة في تاريخ البشرية: إبادة سكّان أمريكا الأصليين.ا

سنة 1529م  وصل برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو التي نهبها الجند الغزاة ودمّروها تدميرا مروّعا، مكسيكو التي أطلق عليها الغزاة اسم “إسبانيا الجديدة” حتى يتسنّى لهم محوها من الدنيا محوا نهائيا. ولاستبدال الاسم دلالته الرمزية وطابعه الإشاري الفظيع على رغبة الغازي والمستعمر في قتل ذاكرة المكان ومحو تاريخه وتملّكه إلى الأبد. وبغريزة منقطعة النظير عرف الراهب المدجّج بالتعاليم التي تدعو إلى مجاهدة الشياطين والمردة وإبادة أتباعهم من البشر –عرف- كيف يلتفّ على الجريمة ويبرّرها. فلم يكن الراهب الذي نذر حياته للتبشير بالتراحم والإخاء ليغفر جريمة نكراء ما تزال خرائب مدينة مكسيكو تشهد على شناعتها وفظاعتها.ا

لذلك سيعمد، مختارا أو مأمورا من قبل رؤسائه من الكهنة، إلى التعجيل بتبرير ما حدث والإقناع بأن المذابح التي راح ضحيّتها السكّان الأصليون والمحارق التي أودت بأشدّ الأمم قربا من الطبيعة وتقديسا للأرض، ليست التجسيد المروّع الفظيع لما تنبني عليه مقولة التقدّم الغربي ومقولة التنوير من وحشيّة وفظاظة، بل هي نقمة السماء على أتباع إبليس الشرّير. والجند الغزاة المتوحشون الذين باركت الكنيسة صنائعهم وحبيت على ذلك من الذهب أكواما رصّعت بها تصاوير القدّيسين ورسومهم في كنائس إسبانيا كلّها، إنما كانوا يؤدّون واجبا مقدّسا. فهم فعلة اصطفتهم السماء كي تنزل العقاب بأتباع إبليس الرجيم. وما حصل للسكان الأصليين إنما هو الجزاء وبئس المصير.ا

هذه هي خطّة الكتاب الملعون. وتلك هي المنطلقات النظرية التي سيبني عليها المؤلّف برنادينو دي ساهاغان مجمل فصول الكتاب. إن الجريمة قد انطلقت من مكسيكو، وستطال القارة الأمريكية بأسرها وتمحو سكانها أمما وشعوبا وقبائل. لن تبقي ولن تذر. إنها جريمة بشعة شنيعة نكراء لا يمكن أن توصف لأن الذي حدث لم يكن غزوا بل إبادة شاملة. وعلى الراهب برنادينو أن يمدّ الكنيسة بما يعيد لها أمنها وطمأنينتها. عليه أن يكشف بما لا يدع مجالا للشكّ، بأن معتقدات السكّان الأصليين ودياناتهم ليست سوى أمارة على ما يمتلكه الشيطان من مقدرة فائقة على نسج المكائد، وفتل الأحابيل والألاعيب، ونصب الفخاخ التي يتصيّد بها أرواح بني البشر. وعليه أن يثبت قدّام العالم المسيحي بأسره أن آلهة السكّان الأصليين هي التي قادتهم إلى الأفول الجماعي لأنها ليست سوى أقنعة وتجلّيات لإبليس الرجيم.ا

 


1 Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, La Nouvelle Revue Francaise, novembre 1979, N=322.

غير أن الكتاب، ظلّ مع ذلك، عبارة عن سفر داخل مناطق بكر، مناطق الغريب والمتوحّش وما لا يقبل العقلنة والترويض. لقد استسلم واضعه لفتنة العالم الذي أرّخ له. لذلك كفّت الكتابة عن كونها مجرّد تأريخ للوقائع والأحداث والممالك وشهدت نوعا من التبدل الخطير. لقد صارت عبارة عن تطواف في مدائن السحر. ورهبان الكنيسة حين صادروه ومنعوا نشره  أو تداوله، إنما كانوا على يقين من أنه ليس كتابا في التاريخ بل هو مدائح وحكايات تضع من يتملاّها في حضرة ثقافة الهنود الحمر وهي تحلم ذاتها وتفكّر ذاتها.ا

وإنه لأمر مذهل مروّع، أن تلتقي في هذا الكتاب رؤيتان للعالم: رؤية الراهب برنادينو دي ساهاغان الذي سينتشل من النسيان الحضارة التي حكم عليها بنو قومه بالزوال والأفول، ورؤية الهنود المكسيكيين الذين كانوا يطرحون قدّام الراهب برنادينو كلّ أخبار عالمهم الذي هلك وجميع أساطيره وكنوزه وأيّامه. سيحدّثونه عن آلهتهم، عن طقوسهم، عن أخبار ملوكهم، عن بطولاتهم وأيامهم. سيحدّثونه عن الحرفيين الذين برعوا في نحت الحجارة وصقل الذهب، عن معارفهم في التنجيم والفلك وخبراتهم في صناعة الأدوية. لذلك سيشرع الكتاب الملعون في الاتساع والامتداد، ويكفّ عن كونه مجرّد كتاب في التاريخ ليصبح كتبا تتوالد غزيرة وتؤرّخ لحكاية لها امتداداتها ولها فصولها وتعرّجاتها.ا

والراجح أن برنادينو دي ساهاغان لم يكن على وعي بأنه كان يكتب موسوعة من أعظم الموسوعات وأكثرها دقّة وتفصيلا. يكفي أن ننظر في فهرس هذه الموسوعة وسندرك، في يسر، أنها تتّسم فعلا بالغنى والوفرة وتؤرّخ لعالم فتّان، عالم ساحر، عالم خلّاب أرغم على السقوط في العتمة:ا

فهرس الكتاب الملعون “التأريخ لأشياء إسبانيا الجديدة”:ا

ا1- الكتاب الأول: في الإخبار عن الآلهة التي كان السكان الأصليون الذين عمّروا هذه الأرض المسمّاة إسبانيا الجديدة يعبدونها.ا

ا2- الكتاب الثاني: في الإخبار عن التقويم الزمني والأعياد والطقوس والقرابين والاحتفالات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون يتقرّبون بواسطتها إلى آلهتهم.ا

ا3- الكتاب الثالث: في الإخبار عن أصل الآلهة التي كانوا يعبدونها.ا

ا4- الكتاب الرابع: في التنجيم التشريعي أو الإخبار عن فنّ العرافة والتنبّؤ الذي كان المكسيكيون يأتونه لمعرفة أيام السعد وأيام النحس، ولمعرفة أقدار الذين كانوا يولدون في تلك الأيام وما هي طباعهم ومميزاتهم الوارد ذكرها في هذا الكتاب. وهذا فنّ أدخل في باب العرافة والفراسة أكثر منه في التنجيم.ا

ا5- الكتاب الخامس: في ذكر التطيّر والفأل الذي كان هؤلاء السكان الأصليون يحدسونه عند رؤية بعض الطيور والحيوانات والحشرات ويتنبّؤون من خلاله بأمور المستقبل.ا

ا6- الكتاب السادس: في البلاغة وفلسفة الأخلاق والشريعة التي كان الشعب المكسيكي يدين بها، حيث نعثر على أمور في منتهى الغرابة تفصح عن جمال لغتهم ورونقها وأمور في منتهى الدقّة تتعلّق بقيمهم الأخلاقية.ا

ا7- الكتاب السابع: في الإخبار عن الفلكيات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون قد توصّلوا إلى معرفتها.ا

ا 8- الكتاب الثامن: في الإخبار عن الملوك وأولي الأمر والطريقة المتّبعة في انتخابهم والطريقة التي كانوا يديرون حسبها شؤون ممالكهم.ا

ا 9- الكتاب التاسع: في الإخبار عن التجار والصيارفة والحرفيين الذين برعوا في نقش الذهب وصقل الحجارة وتسوية الريش النادر وتنضيده.ا

ا10- الكتاب العاشر: في ذكر رذائل هذا الشعب الهندي وفضائله، وذكر الأسماء التي كانوا يطلقونها على أعضاء أجسامهم الظاهر منها والباطن، وذكر  الأمراض والأدوية المضادّة لها، وفي الإخبار عن الأمم التي توارثت هذه الأرض.ا

ا11- الكتاب الحادي عشر: في الإخبار عن خصائص البهائم والطيور والأسماك والشجر والأعشاب والأزهار والمعادن والأحجار وذكر ألوانها.ا

ا12- الكتاب الثاني عشر: في الإخبار عن غزو المكسيك.ا

هذا الكتاب/الموسوعة سيتشكّل مأخوذا باستحضار ماضي الهنود الحمر في لحظة كان الهنود فيها قد صاروا ملكا للماضي. وصارت بطولاتهم وأمجادهم وأيّامهم مجرّد ذكرى. ومعها رحلت طقوس عبادة الشمس، رحل التطبيب بالأعشاب والنباتات. الأعياد التي تقام تمجيدا للحياة ولما تمتلكه الحياة من فرديّة وجاذبيّة وفتنة، سواء أعلنت عن نفسها في الآلهة أو في الإنسان والنبات والجماد، في الظلّ المفاجئ، في الصمت الرهيب في الأدغال والغابات، قد رحلت هي الأخرى إلى الأبد.ا

فحين وصل الراهب برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو كان التشوّه قد أطبق على أرض المكسيك الحاملة أسرار الكون. لذلك ستصبح الكتابة نوعا من المقاومة لسطوة النسيان، ووقوفا في وجه الأفول. ولذلك أيضا سيلتقي في الكتاب صوتان: صوت الراهب الذي يحرص على الالتفاف على الجريمة ليبيّن أن ما حدث هو الجزاء الذي أعدّته السماء للقوم المارقين وبئس المصير، وصوت الذاكرة، ذاكرة الرواة من الهنود الحمر الذين سيشرعون في طرح كنوزهم قدّام الراهب ويحدّثونه عن أمجادهم وأيّامهم وآلهتهم. والذاكرة هنا ليست مجرّد إدراك يحفظ الوقائع والأحداث. إنها طاقة مقاومة لسلطة العدم وسطوته وطابعه الكاسر.ا

إن الطابع الموسوعي الذي اتسم به الكتاب الملعون “التأريخ العام لأشياء إسبانيا الجديدة”، لم يكن اختيارا أتاه المؤلّف. فلقد جاء برنادينو إلى المكسيك ليكتب كتابا في الموعظة والاعتبار. جاء ليدلّل على أن الشيطان هو الذي أضلّ السكّان الأصليين واقتاد خطاهم على الدروب التي أودت بهم إلى خرابهم. كان برنادينو دي ساهاغان رجل دين وصل إلى المكسيك غداة الغزو ليقوم بمهمّة تبشيرية. وكان يعتقد جازما أن ما حلّ بالهنود من دمار وويلات إنما هو القصاص الإلهي، “فالربّ قد ابتلى الهنود الوثنيين واقتصّ منهم على يد الجند المسيحيين. وذاك جزاؤهم وبئس المصير.” كما يقول في الفصل الأول.2د

لكنه يعترف، مع ذلك، في الفصل الثامن والعشرين من كتابه بأن الحضارة الغربيّة قد حملت معها بذرة الفساد والشرّ إلى عالم الهنود. يكتب معترفا: “وإنه لعار علينا أن حكماء الهنود وكهنتهم قد نجحوا في إيجاد الأدوية الناجعة للقضاء على الآلام والشرور التي تعجّ بها هذه الأرض … أما نحن فقد صرنا ننقاد طائعين لميولاتنا الشائنة. وإنّا لنشهد اليوم نشأة جنس من الهنود والأسبان صعب المراس يعسر إنقاذه. فما عاد الآباء والأمهات قادرين على السيطرة على أبنائهم وبناتهم ومنعهم من الانغماس في الرذائل والملذّات التي تعجّ بها هذه الأرض.”3د

وهو يورد في كتابه بعضا من خطبه الوعظيّة التي كان يحرص فيها على جعل الهنود الناجين من الإبادة يتبرّؤون من تراثهم وثقافتهم ودياناتهم. من ذلك مثلا أنه كان يعلّمهم أن آلهتهم ليست سوى أقنعة لأبالسة الجحيم وللمردة والشياطين. كان الهنود يعتقدون أن “كتزلكواتل” وهو ما تفسيره “الثعبان ذو الريش” إله سيّد سيعود إلى الأرض ليخلّص العالم وينقذ الأرض من أوجاعها والناس من محنهم ونكد أيّامهم. وكان برنادينو دي ساهاغان يعلّمهم في شأنه قائلا: “إن ما يزعمه أجدادكم من أن كتزلكواتل قد ذهب إلى تلابلان، وأنه عائد لا ريب في عودته، وعليكم انتظار مقدمه، ليس سوى أراجيف. إننا على يقين من أنه هلك. جسده في الأرض قد تفسّخ وانحلّ. أما روحه فإن الربّ إلهنا قذف بها في غياهب الجحيم حيث تصلى من العذاب الأبديّ ألوانا… أجدادكم أجمعين قد عانوا من الحروب التي لا تبقي ولا تذر، قاسوا الويلات من المجاعات والمذابح. وكي تكون نهاية لكل هذا، أرسل الربّ جنده من المسيحيين فأبادوهم على بكرة أبيهم، هم وآلهتهم.”4د

كان الراهب برنادينو على يقين من أنه يمتلك الحقيقة. لكن فصول الكتاب كثيرا ما طفحت بمسحة من الحزن والشفقة. وكثيرا ما تحوّلت الشفقة إلى تفجّع يكشف تعاطفه مع الأمم والشعوب التي حكم عليها بنو قومه من الجند الغزاة الغربيين بالموت والزوال. ولذلك أيضا كثيرا ما يتحوّل التفجّع بدوره إلى نوع من النوح المكتوم.د

منذ الكتاب الأول  تسلّل الحزن إلى صوت الراهب الذي جاء إلى مكسيكو مدجّجا ببرد اليقين فكتب متأسّيا: “آه عليك ! يا أشدّ الأمم حزنا. يا لحظّك العاثر من دون الأمم!” هذا التأسي الذي سيظلّ يستعاد ويخترق الكتاب في أكثر من موضع، إنما يشير صراحة إلى أن برنادينو كان يصدر عن ضمير معذّب، ضمير رجل يدرك أن الجريمة التي حصلت لم يعرف التاريخ لها مثيلا. ضمير راهب ظلّ يحتمي بتعاليم الكتاب المقدّس كي يلتفّ على الجريمة ويسميها جزاء أو عقابا ربّانيا. لكنه كان على يقين أيضا من أن ما ورد في الكتاب المقدّس من أخبار الملوك الأوَل وتدمير سدوم الضالّة كان أقل فظاعة وأقلّ ويلا من التدمير الذي عصف بالسكان الأصليين وحضارتهم.د


2  M.G. LE CLEZIO, LE REVE MEXICAIN OU LA PENSEE INTERROMPUE, PARIS: GALLIMARD,1988, P68

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د3  أورده

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د4  أورده

حتما كان الراهب برنادينو دي ساهاغان على دراية بما حدث. وحتما كان على بيّنة أيضا من أن الإبادة لم تكن عسكرية فحسب. فلقد تمّت إبادة كل من سوّلت له نفسه مقاتلة الجند الغزاة. أما الناجون من المحارق والمجازر، فلقد تمّ استعبادهم على نحو يجعل المرء يخجل من انتمائه للجنس البشري. فحين انهزم امبراطور الأزتيك مكتزوما وأذعن للقائد العسكري هرنان كورتيس، أمعن كورتيس في تعذيبه وإذلاله وإهانته والسخرية منه قدّام بني قومه. فلم يكن من مكتزوما الامبراطور الذي كان يجسّد، قبل مجيء أبناء الحداثة الغربية، الملك العظيم لأبهى حضارة من حضارات الأرض قاطبة –لم يكن منه- إلا أن قال مخاطبا القائد الغربي المتوحّش كورتيس: “قل لي ماذا تريد مني أن أفعل معك أكثر مما فعلت لأني لم أعد أرغب في الحياة أصلا.” وكانت تلك آخر جملة لهج بها قبل أن يلقى حتفه.ا

بمثل هذه العبارة التي تكشف إلى أي حدّ يمكن أن تداس الكرامة البشرية لهج البطل الصنديد كيوهتيموك. فلقد خلَف هذا البطل الامبراطور القتيل وتزعّم حركة الصمود مؤجّلا -ولو إلى حين- الدمار القادم. وحين أيقن الجند الغزاة أن مواصلة الحرب ستكلّفهم خسائر فادحة، لوّحوا بالسلام وعرضوه على هذا البطل الذي دوّخهم. فجمع البطل الشاب جميع القبائل من بني قومه المتحصنين داخل أسوار مدينة مكسيكو، وحدّثهم هكذا: “إنه لحريّ بنا جميعا أن نموت، وأفضل لنا أن نهلك في هذه المدينة من أن نستسلم للّذين سيجعلون منّا عبيدا لهم وينكّلون بنا من أجل الذهب.”5د

يحدث الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو في كتابه “الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا” عن كورتيس قائلا: “وإنه لمن غريب الصدف أن يحظى كورتيس هذا المغامر المتحدّر من العصور الوسطى، هذا القائد الحربي عديم الذمّة بدعم أكبر ملوك النهضة الأروبيّة الامبراطور شارل كينت. لقد كان كورتيس يعلم إذن أنه لا يقود خمسمائة جندي فحسب بل إنه في طليعة العالم الغربي والمسيحي، حتى لكأنه رأس الثعبان الملقّب بالهدرة، الثعبان ذو التسعة رؤوس أو لكأنه أكثر ألسنة الثعبان امتدادا، تلك الألسنة التي ستلتهم العالم.”6د

ففي سنة 1530 بعد عمليّة الإبادة والتدمير مباشرة، وصل إلى المكسيك المستشار الأسباني ساينوس فانخلع قلبه من هول ما رأى. لقد وجد الهنود يعانون من المجاعة والأوبئة. “وطيلة سبع سنوات من حكم إدارة القائد هرنان كورتيس تمّ استعباد الهنود الناجين من الموت. لقد أرغموا على العمل في المزارع، وفي المدن، وفي مناجم الذهب ومناجم الفضّة أكثر من اثني عشر ساعة في اليوم دون أجر. وبالإضافة إلى الضرائب التي فرضها التاج الأسباني عليهم، كان كلّ واحد من أتباع القائد كورتيس يغنم من الهنود في كل يوم ستّ دجاجات، وعددا وفيرا من الطرائد، وكيسا من الذرة الصفراء، والشوكولاطة والبهارات، وتسعين بيضة.” ويذكر الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه ” الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا ” نقلا عن جوزيه ميراندا في كتابه “ضريبة السكان الأصليين في اسبانيا الجديدة” أنهم “أرغموا قهرا على دفع الخمس من مداخيلهم ضريبة للملك، وما يعادل الخمس نصيبا للملكة وما تبقّى يدفعون منه ضريبة الحرب وضريبة البيع والشراء وضريبة التنقّل.”7د

وإنه لمن التبسيطيّة أن نعتبر موقف برنادينو دي ساهاغان موقفا فرديا، ونرجع ما طفح به كتابه من شفقة وعذاب ضمير إلى كونه رجل دين يدرك تماما أن ما حدث في مكسيكو لا يخصّ الهنود الحمر وحدهم بل يخصّ الشرط الإنساني في جميع الأزمنة ويتعارض مع تعاليم الديانة. فلقد غنمت الكنيسة نفسها من حملات الغزو المتتالية غنائم تفوق تلك الكنوز التي طرحها إبليس المكّار قدّام المسيح ليجرّبه ويغويه. والكنائس المحلاّة بالذهب في اسبانيا ما تزال تروي إلى اليوم فظاعة ما حدث، وتشهد بحجم الغنائم وخسران بني البشر.ا

إن الراهب برنادينو دي ساهاغان إنما يجسّد الضمير الغربي المؤجّل دائما. لقد تمّت الإبادة ونسجت المأساة جميع فصولها… ثمّ تحرّك الضمير الغربي. والضمير، في جميع الحملات الغربية، منذ الهنود، ومنذ فلسطين القابعة في ظلمة، وصولا إلى مدينة السلام وما سيأتي من ويلات، الضمير الغربي، يكون دائما مؤجّلا. تُمنح المآسي فرصتها، وتنسج جميع فصولها، ثم يتحرّك الضمير. وموقف برنادينو، سواء حين يدين الهنود ويعتبرهم أتباع الشيطان أو حين يتأسّى على مصيرهم ويحاول انتشال من تبقّى منهم، إنما هو التجسيد الفعلي لموقف الانسان الغربي المعاصر سليل عصر الأنوار وابن الحضارة الغربية الذي يظل يلوّح بالقيم الانسانية ويبشّر بها عاليا. ثم يشرع في دوسها جميعا حالما يتعلق الأمر بتحقيق الغلبة والتسلّط والربح.ا


أ5  نفسه، ص 50

أ6  نفسه، ص 19

JOSE MIRANDA, LE TRIBUT INDIGENE DANS LA NOUVELLE ESPAGNE, 1952, P 51 :أ7 انظر على التوالي

انظر أيضا:  لوكلوزيو، الكتاب المذكور، ص 33-34.أ

منذ الكتاب الأول طفح الكتاب/الموسوعة بنبرة الافتتان وصار برنادينو دي ساهاغان يحدّث عن لغة المكسيكيين لا باعتبارها مجرد أداة تواصل بل باعتبارها كنزا لا ينضب. يكتب واصفا لغة المكسيكيين “إنها كنز وسبيل مؤدية إلى تحصيل أمور، ومعرفة أمور جديرة بأن تحصّل وتحفظ.” لقد جاء الراهب ليلتفّ على الجريمة ويبرّر ما حدث. لكنه سرعان ما استسلم لحديث الرواة، وصار يصدر أحكاما تكشف افتتانه بدنيا السكان الأصليين، وتفضح تعاطفه معهم وانبهاره بقيمهم، وتكشف إعجابه بعالمهم، وانخطافه بالبهاء الذي سيّجوا به حياتهم وطريقة مقامهم على الأرض. لقد صار الراهب يحدّث متلقّيه المفترض قائلا إن الغاية من كتابه إنما هي “معرفة قيمة هذا الشعب المكسيكي، قيمته التي لم يقع الاعتراف بها إلى حدّ الآن.”8

لم يكن الافتتان مجرد صدفة إذن. إنه جزء من مفاجآت الطريق في رحلة التأريخ لحضارة حكم عليها بنو قومه من أبناء أروبا المأخوذة بفكرة التقدّم بالأفول والتلاشي والزوال. وهو التجسيد الفعلي لما لم يكن في حسبان الراهب أعني الوقوع في دائرة الفتنة. والفتنة هي، في نهاية التحليل، وضع يدرك بالحال لا بالمقال. بل إنها حال تعني الخروج عمّا هو معتاد ومألوف. وهي خروج إلى غير ما كانت الذات عليه قبل حدوث مفعول الفتنة. إنه الخروج من عقال الوعي وأسيجة العقل أي الخروج من الحضور والتطابق، تطابق الذات مع وعيها الذي تعتقد أنه صميمها. بايجاز: إنه الخروج من الهوية نحو ما هو مخالف ومغاير وغريب.ا

 هذا ما ستدركه الكنيسة. وهذا ما سيجعلها تعتبر الكتاب كتابا ملعونا وتحتفظ به في الظلام طيلة أكثر من قرنين، فلا تسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين لا يخشى عليهم من الفتنة.ا

لذلك سيذهب الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه “الحلم المكسيكي” إلى أن برنادينو دي ساهاغان كان مأخوذا إلى حدّ الهوس بالبحث عن العبرة الكامنة وراء ما لحق بالهنود الحمر من دمار وإبادة لأن “فهم السرّ الكامن وراء هذا القضاء الذي نزل على الهنود أمر من شأنه أن يمكنه من ملامسة اللغز المتستّر على نفسه في صميم  المصير المعدّ للبشر أجمعين. ثمّة في تلاوين هذه الصفحات المثقلة بالأحداث الواقعيّة شيء مدوّخ حتى لكأن برنادينو دي ساهاغان قد كان يفتتن الافتتان كلّه بالماضي المجيد، ماضي ذلك الشعب الذي تمّ تحطيمه إلى الأبد فيما هو يكتشف عالم الهنود… لقد كان يوضع، فيما هو يبحث عن جذور الهنود، في حضرة جذوره هو وقدّامها. وهذا هو ما شدّه شدّا إلى ذلك العالم الغني بالأساطير وبالعظمة والمجد.”9ا

فلقد كان الراهب برنادينو المدجّج بالتعاليم الدينية على يقين من أن الشكّ هو الطريق إلى الجحيم، وهو السبيل المؤدّية إلى التهلكة. إن مجرّد الشكّ في أن ما حدث ليس لعنة مقدّرة من السماء بل هو أمارة على جشع أروبا المتحضّرة ودليل على لاإنسانية الجند الغربيين الغزاة، وتوحّشهم لا يمكن أن يكون إلا أمارة على أن إبليس الرجيم بدأ ينسج أحابيله ويتسلّل إلى قلب المؤمن ليوسوسه ما يحبّ ويحرمه من برد اليقين. لذلك سيظل يلحّ على أن جميع آلهة الهنود الحمر مجرّد أقنعة للمردة والشياطين والسحرة، واعتقاداتهم كلّها إنما هي مجرّد أراجيف. فهم يدّعون أن “تيزكاتليبوكا” إله شرّير “يزرع الفتن” ويتقرّبون منه خشية سطوته وفعاله. والحال أنه، في نظر الراهب برنادينو مجرد تجسيد للشيطان الذي لعن في بدء الزمان. أما ما يدّعونه من أنّ “كتزلكواتل” إله اختفى واحتجب عن الأنظار وسيعود إلى الأرض ليملأها بالدعة والطمأنينة والأمن فإنه تجديف محض. “إن “كتزلكواتل” مجرّد إنسان من لحم ودم، إنسان فان مثل البشر أجمعين، وما يزعمونه من أنه كان خيّرا طيّبا ليس سوى دليل على أنه ساحر مراء وخلّ ودود لإبليس.” هكذا كان الراهب يرصّع كتابه بالأحكام.ا

ثمة في هذه الحكايات والأخبار والأساطير التي كان الرواة يطرحونها قدّام الراهب برنادينو دي ساهاغان منطق داخليّ. ثمّة بهاء. ثمّة روعة تخلب العقول. ثمّة جاذبية وسحر. وهذا كله هو الذي جعل الراهب يحتمي بالسماء ويلوذ بالكتاب المقدس محاولا أن يفسّر الأحداث والوقائع وفق طريقة تقيه من الوقوع في دائرة السحر. لذلك سيعمد إلى تأوّل تاريخ بلاد الهنود الحمر، ويصنّف آلهتهم ويفهم كنهها في ضوء قناعاته ومعارفه. فيصبح الكتاب مجمعا للذاكرة. فيه يمتزج الحديث عن الامبراطوريات المتعاقبة بالحديث عن ألاعيب الآلهة ومكائدها وكنهها وكيفيّات تجلّي الربّ الإله من خلالها لتسطير أقدار السكان الأصليين وإدارة مصائرهم.ا

يحدّث برنادينو عن المدائن التي شهدت نشأة الامبراطوريات المتعاقبة وتحوّلت إلى عواصم كبرى، فيذكر أخبار مدينة “تيوتيهواكان” ويشبّهها بطيبة التي كانت في مصر. ويحدّث عن أخبار مدينة “تولا” وهي في نظره تشبه طروادة إلى حد بعيد. ويقول عن مدينة “شولولا” إنها تشبه روما. أما مكسيكو فإنها في نظره على شبه كبير بالبندقية. ويعتبر الإله “هويتزيلوبوشتلي” صنو الإله مارس والإله “كتزالكواتل” صنو هرقل. إنه يتعرّف على الآخر المختلف من خلال الذات. وبذلك يمحو الاختلاف ويقضي على التغاير فيلبّس هذا الآخر المدان بعضا من ملامح الذات ومعارفها وخبراتها وتاريخها حتى يتسنّى له تدجينه والحدّ من توحّشه. لذلك يعمد إلى تأوّل نشأة هذه المدن وخرابها لا في ضوء تاريخها الخاصّ بل في ضوء منطلقاته الدينية وتعاليمه الكنسية. فيذهب إلى أن سقوط امبراطورية “تولا” إنما هو التجسيد الفعلي لإرادة الربّ الإله. فالربّ الإله قد تجلّى للهنود مؤسسي “تولا” وصانعي أمجادها في صورة إلههم “كتزلكواتل” ثم سرعان ما تخلّى عنهم ووقف يشدّ أزر من سيرثون المجد من بعدهم وهم الأزتيك الذين تجلّى لهم في صورة الإله “هويتزيلوبوشتيلي”، فملكوا البلاد وسادوا على العباد واستبدّوا، وما كانوا يدرون أنه كان يمهلهم إلى حين.ا

هكذا حرص الرّاهب برنادينو دي ساهاغان في كل تأويلاته على بناء نسق من التحليل يتماشى مع قناعاته الدينية فيجزم “بأن الرّب الاله، الاله الحقّ، هو الذي اختار أن يتجلّى للهنود الحمر على ذلك النحو ويكشف لهم بعض الحقائق، ويمدّهم ببعض الهبات، وتلك مشيئته وأسراره المحفوظة.”10 وهو يستشهد بحشد من الأساطير الهنديّة التي تجمع كلّها على أن الانكسافات والخسوف وتساقط المذنّبات والنيازك بين الحين والآخر ليست سوى  علامات الأفول الآتي. تحدّثنا بعض الأساطير عن امرأة كلّمتها الآلهة قائلة في صوت واحد: “كفّوا عن تقديم الأضاحي ولا تأتوا بقرابينكم، لأنه من الآن فصاعدا هكذا يكون: الطبول يجب أن لا تقرع، كلّ شيء سيدمّر، لن تكون هناك معابد ولا محارق مقدّسة. سوف لن يتصاعد دخان البخور بعد اليوم. يجب أن يكون كلّ شيء يبابا. أناس آخرون من طينة أخرى سيأتون إلى الأرض.”11

ويروى أيضا “أن الناس ظلّوا لمدّة طويلة يسمعون أصواتا تهتف من كلّ الجهات منذرة الهنود الأزتيك وملكهم بالويل والثبور والأفول الآتي.” وقبل وصول الجند الأسبان بقليل كثرت العلامات المنذرة بالأفول. من ذلك أن “نفرا من الناس تمكّنوا من القبض على طير فظيع الطلعة، كريه المنظر، فحملوه إلى الامبراطور “مكتزوما” وكهنته.” كان الطائر “يحمل على رأسه مرآة، وعلى أديم تلك المرآة كانت الشمس تنعكس، وكانت تميد وترتعش مرسلة نورا مشؤوما الشؤم كلّه وكئيبا جدّا.”12


ا8  نفسه، ص 61

ا9 أورده لوكلوزيو, ص 62

ا10  ميشال بيتور، 176

ا11 أورده لوكلزيو, ص 27

ا12 أورده لوكلزيو, ص 27

من هنا يستمدّ الكتاب الملعون البعض من سحره وجاذبيّته. ومن هنا يتولّد جانب هام من فتنته. إنه لا يؤرّخ للوقائع والأحداث، للأساطير والحكايات والديانات بل يظلّ يتّسع ويمتد فيمتزج فيه الواقعي بالخيالي والأسطوري، ويتماهى البسيط العادي المتعارف مع الغريب والمفارق والمدهش. والناظر في هذا القسم الذي قمت بترجمته عن الفرنسية يلاحظ في يسر أن الراهب سيظلّ وفيا لمنطلقاته وقناعاته الدينية. فلقد جاء إلى مكسيكو ليلتفّ على الجريمة ويبيّن أن إبادة الهنود الحمر كانت الجزاء الذي أعدته السماء للقوم الكافرين. لذلك سيشير إلى آلهة الهنود بعبارة “سحرة” لأن تلك الآلهة في نظره ليست سوى تجلّيات وأقنعة للشيطان زعيم المفسدين وقائدهم الأمهر وحامل لوائهم على الأرض في الأزمنة كلّها.ا

أما الرواة الهنود فإنهم سيطرحون قدّام الراهب المدجّج بالتعاليم الدينية الكنسيّة كنوزهم ويحدثونه عن عالمهم. سيخبرونه عن الكون طفلا، عن البهاء الذي سيّجوا به حياتهم، عن الجمال الذي أثّثوا به الدنيا من حولهم. وفي حين ينعت الراهب برنادينو دي ساهاغان الإله “كتزلكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) بكونه مجرّد ساحر أضلّ الناس في امبراطورية “تولا” فألّهوه وعبدوه وهو الذي قادهم إلى خرابهم عندما فشل في مواجهة آلهة آخرين ينعتهم أيضا بالسحرة ويقول إنهم جاؤوا وأهلكوه هو وأتباعه من التولتيك، يتحدث الرواة الهنود عن “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش) باعتباره الإله الأكبر الذي عُبد ومُجّد في “تولا”.ا

ثم كان أن الإله المدعوّ “الضريس اليسراوي” والإله المسمّى “سيدنا جميعا” والآخر المدعو “وتلاكوبان” جميعهم تآمروا على إله التولتيك (الثعبان ذي الريش) وأمعنوا في الكيد له فأهلكوا جميع أتباعه حتى راعه ما حدث وامتلأ قلبه بحزن لا ينضب. وكان أنهم واصلوا الكيد وفتل الأحابيل حتى أرغموه على الرحيل فركب البحر ومضى إلى المجهول. لكنه سيعود في نهايات الزمان ليسود. ومعه سيأتي قوم من الآلهة “التول” ليتولّوا الحكم فيهم. و”الثعبان ذو الريش” هو الذي سيقودهم ويتقدّمهم ساعة يحين موعد مجيئهم من هناك، من حيث تشرق الشمس، من هناك حيث يلتقي البحر والسماء ويغدوان واحدا. لأنه مكتوب أنهم من هناك يأتون. ولا رادّ لهذا القضاء. لا مهرب أيضا، لأنه مكتوب أيضا أن “كتزلكواتل” (الثعبان ذا الريش) هو الذي سيكون رفيقهم ودليلهم وقائدهم إلى أرض مكسيكو ومدائنها.ا

لم يكن الرواة الهنود يقدّمون للراهب مادّة تاريخية عن عالمهم بل كانوا يمدّونه بتلك الحكايات والأساطير وكانوا يقومون، في الآن نفسه، بتفسير ما حلّ بهم وبعالمهم من دمار. إن خراب مكسيكو، في تصوّرهم، لا يدلّ على تفوّق الجند الهمج الغزاة لأن ما حدث إنما هو القضاء المحتوم الذي لا مفرّ منه. ذلك أن نشأة الأمم وازدهارها، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى خرابها وزوالها وأفولها، إنما يتولّد عن صراع الآلهة. وحين تنهزم آلهة قوم وتولّي الأدبار هاربة أو تهلك وتزول يكون خراب أتباعها من الناس مسطّرا محتوما. والجند الأسبان الغزاة إنما جاؤوا في عهد الأزتيك أيّام ملك الامبراطور “مكتزوما” ليمنحوا ما كان مسطّرا محفوظا فرصة التحقق.ا

وهذا يعني أن خراب سكان مكسيكو ودمار عالمهم إنما يرجع إلى صراع الجبابرة من الآلهة. لأنه مكتوب أن الأيام والحيوات والأمجاد هبات تداولها الآلهة بين الناس: فالتولتيك سادوا قبل الأزتيك وعمّروا البلاد وملأوا الدنيا بالبطولات والفخار والأمجاد ثم هلكوا حين انهزم إلههم “الثعبان ذو الريش” ولاذ بالفرار. أما خراب الأزتيك ودمار مكسيكو فإنه، هو الآخر، حدث جلل آت في نهايات الزمان. وهو قضاء مؤجّل وأمر محتوم سيتحقّق عندما يعود “الثعبان ذو الريش”، ويصطحب معه قوما من “التول” أي الآلهة. حتما سيأتي هؤلاء “التول”. وحتما سيطلبون ما به وُعدوا: السيادة والملك. والإله الملقّب “كوتزالكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) كان الهنود يصوّرونه في شكل “ثعبان ضخم عظيم جدّا جسده محلّى بريش طير الكوتزال. وحين يرسمونه فاتحا شدقيه يتراءى في حلقه وجه بشريّ.”ا

هذا النص الذي قمت بترجمته، مقتطع من كتاب برنادينو دي ساهاغان، نقله إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال بيتور13 وهو يحمل عنوان “مكائد تيتلاكواكان” ويروي ما جرى بين “الثعبان ذي الريش” الذي مجّده التولتيك وعبدوه في بدء الزمان، والآلهة التي سترث الحياة والمجد والملك من بعده وتنعم بها على الأزتيك سكان مكسيكو الذين سيبيدهم الجند الغربيون الهمج. وهو يروي أيضا ما كان من أمر الإله “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش)، وما كان من أمر أتباعه وكيف هلكوا وبادوا. والراهب برنادينو دي ساهاغان يستبدل كلمة “إله” بكلمة ساحر، كي يظلّ وفيا لقناعاته ومنطلقاته الدينية ويقي متلقيه المفترض من الفتنة.ا

يبدأ نص “مكائد تيتلاكواكان” بالحديث عما كان في البدء ويرسم عالما مسيّجا بالبهاء، عالما فاتنا لا نوح فيه ولا وجع ولا موت. وإنما هو نشوة وغبطة والكون طفل. إنه فردوس البداية الذي كان أيّام كانت الحياة قد ولدت للتوّ هشّة طريّة مشتهاة. غير أن الحديث عن الفردوس يأتي مسكونا بنوع من الوعي الفاجع بالمصير. فثمة في هذا النص تسليم بأن الوجود والرعب صنوان. بل إن الرعب هو صميم الوجود وجوهره. ثمة وعي بأن الزوال هو وحده ما يبقى على الدوام. والنص لا يرسم الفردوس باعتباره عالما سماويا مفارقا بل يلحّ على أنه عالم أرضيّ هنا كان. وهو ما يفتأ يكون هنا أيضا. فالآلهة نفسها‘ في نظر الوثنيين، إنما تقيم على الأرض وتحيا مستأنسة بالبشر، بل إنها ظلّت تشاركهم أحزانهم وأيام أعيادهم. يحدّث الراهب برنادينو دي ساهاغان عن هذا الأمر مفتونا فيكتب: “وكانوا يزعمون أن الجبال العظيمة، لا سيما تلك التي تكللها السحب، إنما هي من الآلهة. وكانوا يصوّرون كل واحد منها تصاوير تجسّد كيفيات تمثلهم لفعالها.” وكان الكهنة يجسّدون تلك الآلهة ويلبسون لبوسها ويطلعون على الناس في أيام الأعياد. فيسبّح القوم قائلين: ها آلهتنا تحلّ بيننا. فطوبى لنا! ها أن آلهتنا تصل فالمجد! المجد!”ا

و النص، حين يرسم فردوس البداية الذي كان التولتيك ينعمون فيه لا يكدّر صفو حياتهم أي حادث ثم يشرع في الحديث عما آل إليه أمرهم من خراب، لا ينشد عبرة أو موعظة بل يريد أن يلحّ على أن الذي كان هو الذي يكون. إنها أيام تتوالى. دول تنشأ وتهلك. ووحده الزوال هو الأبقى. لذلك يشرع في الحديث عما كان من أمر التولتيك وأمر إلههم “الثعبان ذي الريش” في نبرة تجمع إلى السخرية الوجع والألم. إن الآلهة التي ستعبد وتمجّد في مكسيكو هي التي ستقضي على “الثعبان ذي الريش” وتهلك أتباعه. وسيتزعم تلك الآلهة الإله الماكر الذي برع في حبك المكائد وأتقن نصب الفخاخ وفاق غيره في فتل الأحابيل. إنه “تيتلاكوكان” العظيم الذي تفسيره “المرآة ذات الدخان”، وهو الإله الذي وهب الأزتيك المجد والملك والعظمة. لذلك كانوا يلقبونه “سيّدنا جميعا”.ا

غير أن برنادينو دي ساهاغان ينعت هذا الإلة بكونه مجرّد ساحر مكّار. ويلحّ على أن الهنود الأزتيك يعتقدون أنه “هو الذي خلق السماء. والأرض سوّاها. وهو الذي وهب كل نفس حية رزقها: أكلا وشرابا ونفائس لا تحصى. وكان هذا المسمّى “تيتلاكواكان” محتجبا عن الأنظار لا يرى. إنه شبيه بالظلّ أو بالريح. أما إذا ظهر وكلّم الناس فإنه يتجلّى في شكل ظلّ… وكان أتباعه من الازتيك يمجّدونه ويؤلّفون مدائح ترفع تمجيدا لاسمه هـكذا: “يا سيّد! يا سيّدنا جميعا! تحت جناحيك العظيمين ملاذنا ومأوانا، تحت جناحيك العظيمين قاتلنا ودرأنا الشرّ عنّا، إنك المحتجب، إنك من دقّ لجلالته أن يلمس، كالليل أنت، كالريح أنت…”.ا

إن نص “مكائد تيتلاكواكان” يكشف ما للأساطير القديمة من سطوة على واضعيها وعلى متخيّل الشعوب التي تظلّ تتوارثها جيلا بعد جيل. والحكايات والوقائع الواردة في النص لا تستمدّ عنفها ومضاءها مما تتوفّر عليه من فتنة وجاذبية وبهاء فحسب، بل تستمدها أيضا من كونها قد اضطلعت بأشد الأدوار خطورة في تحديد مصير الهنود الحمر وقدرهم العاتي الذي سيظلّ يلطّخ بالعار تاريخ الإنسان الغربي “المتحضّر!” ويكشف ما ينبني عليه تاريخ الجنس البشري كله من جريمة ودم وخسران.ا


13  Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, P 179-192 أ

يروي نصّ “مكائد تيتلاكواكان” كيف ستتمّ الإطاحة بـ”الثعبان ذي الريش”. ويذكر ما كان من أمره وأمر المكائد التي نصبها له الإله “تيتلاكواكان” الذي تفسيره (المرآة ذات الدخان/سيدنا جميعا) ويحدّث عن كل ذلك هكذا:ا

في الإخبار عما كان من أمر “الثعبان ذي الريش” الساحر الأكبر، وهو صنو هرقل عند الهنود الحمر، وأين ساد وملك وإلى أين انتهى

اعتبر”كتزلكواتل” من الآلهة، وعبد في “تولا” في الأزمنة الخوالي. كان له معبد عالي البناء صعب المرتقى تقود إليه مدارج ضيّقة جدّا اتساعها أضيق من قدم. وكان تمثاله موفور العناية مغطّى بالأقمشة، ووجهه في منتهى البشاعة. وهو ذو رأس كبيرة شعثاء. وسدنته كانوا جميعا مختصين في الفنون والصناعة بارعين في صقل الحجارة الخضراء المسماة “شالشيهويتس” وفي صهر الفضّة والمعادن. وهذه الفنون كلها إنما علّمهم إياها “الثعبان ذو الريش”.ا

وكانت له منازل بعضها مشيّد من الحجارة الكريمة الخضراء الشالشيهويتس، وبعضها الآخر قُدّ من الفضّة. وله أيضا منازل أخرى بنيت من اللؤلؤ الأحمر والأبيض. وله غيرها مقاما من الأصداف ومن أحجار اليشب. وكان سدنته يخدمونه بسرعة منقطعة النظير. والهنود يدعونهم “تلانكاسيميلهويتيم” وهو ما تفسيره (الذين يقطعون مرحلة في كلّ خطوة). وثمة جبل يحمل اسم “تزاتزيتيبتيل” الذي تفسيره (تلّة المناداة)، وهذا هو اسمه إلى يوم الناس هذا. ومن هناك، من أعلى الجبل كان المنادي يرفع صوته بالنداء ليدعو سكان القرى النائية التي تبعد عن المعبد مائة ميل. وهم يسمّون هذه القرى “أناهوياك” وهو ما تفسيره (ضفة البحر). كان السكان يسمعون المنادي، وعلى عجل يأتون ليتبيّنوا ما الذي يبتغيه منهم “الثعبان ذو الريش”.ا

ويروى أيضا أنه كان ثريا الثراء كله. وهو المملّك على الطعام والشراب. لقد كانت الذرة الصفراء طيلة أيام ملكه وفيرة، والقرع ضخما يبلغ طوله ذراعا، وسبلات الذرة الصفراء كبيرة إلى درجة لا يمكن معها إلا أن تمسك بها بكلتا يديك، وقصب سنابل القمح كان من الطول والعرض حتى أنه يمكن للمرء أن يتسلقه مثل جذوع الأشجار. وكان الناس يزرعون ويجمعون القطن من جميع الألوان: الأحمر والقرمزي والأصفر والبنفسجي والأخضر والأزرق والأسود الداكن والبرتقالي والأصهب. وكانت هذه الألوان كلها طبيعية. فالقطن هو الذي كان يولد من الأرض هكذا. وكان الناس في بلاد “تولا” هذه يتولّون تربية أنواع عديدة من العصافير ذات الريش النفيس: العصفور الأزرق والكاتزال والزاكون والعصفور الأحمر وغيرها من العصافير التي كانت تغني بكل عذوبة.ا

وفوق كل هذا، كان “الثعبان ذو الريش” يملك كنوز الدنيا: الذهب والفضّة وتلك الأحجار الكريمة الخضراء “شالشيهويتس”، وأشياء أخرى نفيسة، وغابات من أشجار الكاكاو ضخمة متعددة الألوان، وهي تسمى عندهم “إكزوشيكاكاوتل”. وكان سدنته أثرياء جدا لم يعوزهم شيء أبدا، ولا هم عرفوا الجوع يوما أو عرفوا نقصا في الذرة الصفراء. وما كانوا يأكلون سبلات الذرة الصفراء التي تكون صغيرة الحجم بل كانوا يتخذون منها حطبا به يدفئون حمّاماتهم. ويقال إنهم كانوا يكفّرون عن ذنوبهم بوخز أجسادهم بأشواك الأغاف حتى تلطّخ بالدم من شدة الوخز، ثم يغتسلون عند منتصف الليل بمياه نبع جار اسمه “اكسيباكويا” وهو ما تفسيره (مغسل الفيروز). وهذا طقس درج عليه الكهنة سدنة الأوثان المكسيكية وهم في ذلك إنما يتبعون السنّة التي كان “الثعبان ذو الريش” قد سنّها في دولة “تولا”.ا

في الإخبار عما آل إليه حظّ الثعبان ذي الريش من تعاسة، وكيف تصدّى له ثلاثة سحرة آخرون وما كان من أمرهم معه

جاء الوقت الذي دالت  فيه دولة “الثعبان ذي الريش” وأتباعه من قبائل التولتيك. فلقد ثار عليهم ثلاثة (آلهة) سحرة يدعون “الضريس اليسراوي” و”سيّدنا جميعا” و”تلاكوبان” وهو ما تفسيره الرجل الخشبي (وهذا اسم آخر من أسماء “هويتزيلوبوشتلي” وقناع من أقنعته). جميعهم أمعنوا في نسج المكائد في دولة “تولا”. بدأ المدعو “سيدنا جميعا” بالمكيدة التالية:ا

اتخذ له هيئة شيخ أشيب مقوّس الظهر ثم تقدّم وجاء حتى وصل بيت “الثعبان ذي الريش” وكلّم الغلمان هكذا: “أريد أن أرى الملك “الثعبان ذا الريش” وأتحدّث إليه.” فقالوا جميعا: “اذهب في حال سبيلك أيها الشيخ! أنّى لعاجز مثلك أن يراه ويمثل في حضرته، فمنظرك لن يكون بالنسبة إليه إلا مصدر قلق واشمئزاز.” عندها قال الشيخ: “لا بدّ لي من رؤيته.” فقال له الغلمان: “سنخبره بالأمر وننظر ما يكون.” وهكذا مضوا وأعلموا “الثعبان ذا الريش” قائلين: “يا سيد، يا سيد بالباب شيخ يريد أن يراك ويتحدث إليك، لقد جررناه إلى الخارج كي يذهب في حال سبيله لكنه ألحّ في السؤال قائلا أن لا بدّ له من ملاقاتك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “ليدخل الآن لأنني كنت أنتظر مقدمه منذ زمان طويل.” وهكذا جاء الشيخ ودخل وقال مخاطبا “الثعبان ذا لريش”: “يا سيد، يا سيدي كيف حالك؟” فقال “الثعبان ذو الريش”: “إن حالي سيئة كيفما قلّبتها، كل أعضاء جسدي تؤلمني ولم يعد بإمكاني أن أحرّك يديّ ورجليّ.”ا

فما كان من الشيخ إلا أن خاطب “الثعبان ذا الريش” قائلا: “سيدي، أيها السيد، ها قد جلبت لك الدواء. إنه دواء فعّال ومنقذ. من يتناوله يسكر وينتعش. فتناول منه إن أردت، سينعشك ويشفيك ويهدّئ من روعك ويجعلك تتحمل محنك وأتعابك وتقبل بموتك أو برحيلك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها  الشيخ! أين تريدني أن أذهب؟” فقال الشيخ: “إنه لضروري جدا أن تذهب إلى “تولانتلابالان” وهو ما تفسيره (تولا الحمراء)، هناك حيث ينتظرك شيخ آخر سيكلّمك بأمور ويحدّثك عن أمور. وبعدها سيعود إليك شبابك بل إنك ستصبح مثل طفل موفور العافية.” وعندما سمع “الثعبان ذو الريش” ذلك الكلام طفح قلبه بشجن لا يطفأ. فما كان من أمر الشيخ إلا أن استأنف الكلام قائلا: “يا سيد، أرجوك اشرب هذا الدواء.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها الشيخ إني لا أريد أن أشرب.” فقال الشيخ: ” يا سيد، اشرب، لتندمنّ إن لم تفعل. خذه على الأقل، وضعه قدّامك، وتناول منه جرعة واحدة.”ا

تناول “الثعبان ذو الريش” الدواء وتذوّقه ثم شرب منه ما تيسّر له أن يشرب وهو يقول: “ما هذا؟ يبدو أنه جيّد ولذيذ، لقد شفاني وخلّصني من المرض. إني لأشعر بأنني موفور الصحة والعافية.” فقال له الشيخ: “تناول منه أكثر مما تناولت لأنه دواء عزيز نفيس وستتحسّن صحتك أكثر فأكثر.” استزاد “الثعبان ذو الريش” من الدواء وشرب منه ما أسكره. وسرعان ما انخرط في بكاء حارّ حزين، ورقّ قلبه وطفح بالأشجان، واستبدت به الرغبة في الرحيل وسكنت منه بين الحشايا والضلوع، فلم يعد قادرا على التفكير إلا في الرحيل. وهذا فخّ نصبه له الساحر الشيخ. ذلك أن الدواء الذي شربه “الثعبان ذو الريش” لم يكن سوى الخمرة البيضاء التي تجود بها تلك الأرض وقد تم استخراجها من الأغاف المسمّى “تيومتل”.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى حبكها هذا الساحر المسمى “سيدنا جميعا

مكيدة أخرى دبّرها “سيدنا جميعا” لـ”الثعبان ذي الريش”، فتجسّد في شكل واحد من هؤلاء الهنود الحمر الغرباء الذين يدعون “توئيّو” وهو ما تفسيره (الهندي المتوحّش). ثم جلس في ساحة السوق التي تقع قبالة القصر وشرع في بيع الفلفل الأخضر وهو عارٍ تماما مثلما هو شأن الهنود المتوحشين من أبناء ذلك الزمان. كان الهيوماك ملكا سيدا يملك على التولتيك، وكانت له ابنة في غاية الجمال في الوقت الذي كان فيه “الثعبان ذو الريش” بمثابة راهب لم يتخذ له صاحبة أبدا ولم ينجب ذرية. جميع الرجال التولتيك طمعوا في الزواج من تلك البنت لأنها حسناء جدا. وكان الهيوماك الملك يمنعها عنهم ويردّهم خاسئين.ا

وكان أن أطلّت ابنة السيد الهيوماك من شرفة القصر على السوق فوقع بصرها على الهندي المتوحش وهو عارٍ تماما ورأت رجولته صارخة. فأنّت له أحشاؤها من شدة الشهوة. وبعد أن رأته على تلك الحال دخلت إلى القصر وازدادت حرقة ووجدا إلى درجة أنها اعتلّت ومرضت وتورّم جسدها. ولما علم السيد الهيوماك بمرضها سأل وصيفاتها قائلا: “ترى ما الذي أصابها؟ وما هو هذا المرض الذي جعل كل جسدها يتورّم هكذا؟” فقالت الوصيفات: “يا سيدي، إن السبب في هذه العلة هو ذلك الهندي المتوحّش الذي يسير عاريا. لقد لمحته ابنتك وملأت بصرها برجولته الصارخة. إن ابنتك الآن مريضة حبّا.” وعند سماع قولهن أصدر السيد الهيوماك أمره قائلا: “آه! يا معشر التولتيك! فتّشوا لي عن هذا المتوحش الذي يبيع الفلفل الأخضر في هذه التخوم كلها. لا مناص من مجيئه في الحال.” فما كان منهم إلا أن فتشوا عنه في كل مكان دون جدوى. وحين يئسوا من ظهوره صعد مناد إلى قمّة جبل “تلّة المناداة” وصرخ بأعلى صوته قائلا: “يا معشر التولتيك، إن عثر أحد منكم على هندي متوحش يبيع الفلفل الأخضر في هذه النواحي فليأت به كي يمثل في حضرة السيد الهيوماك.” فتشوا عنه في الأماكن كلها والتخوم جميعها ولم يعثروا له على أثر. فجاؤوا السيد الهيوماك وأخبروه بأنه قد اختفى حتى لكأن الأرض قد ابتلعته.ا

ثم كان أن ظهر المتوحش جالسا في السوق حيث كان قد باع الفلفل الأخضر. وحال رؤيته مضى الهنود التولتيك راكضين إلى السيد الهيوماك وأخبروه بالأمر. فقال لهم: “هاتوه في لمح البصر.” فنادوا عليه وأخذوه إلى السيد الهيوماك الذي بادره بالسؤال قائلا: “من أين جئت؟” فقال: “ياسيدي، أنا رجل غريب الدار آتي إلى دياركم لأبيع الفلفل الأخضر.” فسأله السيد قائلا: “أية أرض انشقّت عنك؟ لماذا لا تلبس تنورة ولا ترتدي رداء؟” فأجابه قائلا: “يا سيدي، هكذا هي التقاليد والأعراف عندنا.” فقال السيد للهندي المتوحش: “هل ترغب في ابنتي؟ عليك أن تشفيها من علّتها.” ردّ الهندي قائلا: ” يا سيدي، إن ما تدعوني إليه هو المحال عينه بالنسبة إليّ. فاقتلني إن أردت لأن الموت أحبّ إليّ ممّا ترغّبني فيه. لست أهلا لذلك ولا أنا مستحق هذا الفضل. ما حللت بدياركم إلا لبيع الفلفل الأخضر حتى أكسب قوت يومي.” قال السيد: “لا بدّ لك من مداواة ابنتي، فهدئ من روعك ولا تجزع.” ثم كان أنهم أخذوه ليحمّموه ويحلقوا شعره. ثم زيّنوا جسده كلّه بالطلاء وألبسوه تنورة ومعطفا. وبعد ذلك قال له السيد: “امض الآن وادخل على ابنتي في مخدعها.” ففعل. ودخل على البنت وعرفها. وللتوّ تعافت وردّ إليها جمالها. وهكذا صار الهندي المتوحش صهرا للسيد الهيوماك.ا

خبر نقمة أهل تولا على هذا الزواج. يليه خبر عن مكيدة أخرى نصبها “سيدنا جميعا

ما إن تمّ الزواج ودخل الهندي المتوحش على عروسه ابنة السيد الهيوماك حتى تفاقمت نقمة التولتيك، ووصل بهم الأمر إلى حد القدح في عرض السيد الهيوماك وشتمه سرّا وعلانية فيما هم يسائلون بعضهم البعض: لماذا زوّج ابنته لهذا المتوحّش؟ وحين بلغ أمر التولتيك وما يأتونه من قدح وشتائم إلى مسمع السيد الهيوماك دعاهم جميعا وفتح فاه وكلمهم قائلا: “تعالوا، لقد بلغني أمركم وسمعت ما تكيلونه لي من شتائم بسبب صهري المتوحش، وها أنذا أطلب منكم أن تمكروا به وتأخذوه لمحاربة مدينة “زاكاتيباك” وهو ما تفسيره (مدينة تلّة العكرش) ومدينة تلّة الحيّات كي يلقى حتفه على أيدي أعدائنا.ا

وعند سماع هذه الأقوال تقدم التولتيك وجاؤوا كلّهم فتجمهروا وتنادوا للحرب وساروا. ومعهم سار العديد من الجنود، وسار الهندي المتوحش صهر السيد الهيوماك. وعندما وصلوا إلى مكان المعركة طمروه في حفرة وأحثوا عليه التراب مع غلمانهم العرج الأقزام. وتلك لعمري حيلة من حيلهم الحربية! ثم تقدموا لمنازلة جيش أعدائهم الذين قدموا من مدينة تلة الحيات. في ذلك الوقت كان الهندي المتوحّش يهدّئ من روع الغلمان العرج الأقزام قائلا: “لا خوف عليكم ولا أنتم تجزعون، تشجّعوا، فعلينا أن نقتل أعداءنا على بكرة أبيهم.” لكن أهل تلّة الحيات انتصروا، وشرعوا في مطاردة التولتيك الذين كانوا يولون الأدبار طلبا للنجاة مخلّفين وراءهم المتوحش والغلمان في الحفرة والتراب يغطّيهم. كانوا يفرّون وهم يمنون النفس بكل دهاء وبكل مكر أن يفتك الأعداء بالصهر المتوحش ومن معه من الغلمان فتكة بكرا.ا

وكان أنهم وصلوا إلى ديارهم وجاؤوا السيد الهيوماك ليعلموه بالأمر قائلين: “سيدنا، لقد تركنا صهرك المتوحش وحيدا وليس معه من رفيق في مواجهة الأعداء غير الغلمان العرج الأقزام.” وحين علم السيد الهيوماك أن التولتيك قد غدروا بصهره فرح فرحا عظيما جدا معتقدا أنه أهلك ذلك الصهر الأجنبي المتوحش الذي ألحق به العار والخزي. لكن المتوحش المغطى بالتراب، من مخبئه ظل يراقب الأعداء ويحدّث الغلمان قائلا: “لا تخافوا ولا تجزعوا، ها أن الأعداء يصلون إلينا وأنا أعرف أنه عليّ أن أقتلهم على بكرة أبيهم.” ثم كان أنه نهض للطعان والضراب واندفع ينازل الأعداء الذين قدموا من “تلة الحيات” وأولئك الذين أقبلوا من “تلة العكرش”. فكان يطاردهم ويصرع منهم أعدادا لا تحصى حتى هزمهم جميعا.ا

وحين بلغ خبره إلى مسمع السيد الهيوماك ارتعب جدا. لقد هاله الأمر وأدخل عليه قلقا عظيما. فدعا التولتيك وكلمهم هكذا: “لنذهب جميعا لاستقبال صهرنا.” وكان ما سوف يكون. لقد هبّوا جميعا لاستقباله يتقدمهم السيد الهيوماك. حملوا معهم الأسلحة والشعارات المسمّاة عندهم “كتزالابانيكايوتل” وهو ما تفسيره (عارضة ريش الكتزال) والدروع المسماة “أكسيوهشيمالي” الذي تفسيره (مجنّ الفيروز) وقدموها كلها للمدعو المتوحش، واستقبلوه ومعهم غلمانهم وهم يرقصون ويغنون والمزمّرون ينفخون في شباباتهم إيذانا بالنصر والفرحة والحبور.ا

وحين بلغ الموكب السيد الهيوماك قام التولتيك بوضع تاج من الريش على رأس المتوّحش وطلوا جسده بطلاء أصفر اللون ووجهه بطلاء أحمر ووضعوا على رؤوس الغلمان رفاقه أكاليل أيضا ودهنوا أجسادهم ووجوههم. وتلك عادة درجوا عليها في تكريم كل الذين يعودون من ساحات الوغى مظفّرين. بعد ذلك قال السيد الهيوماك لصهره: “الآن وقد امتلأ قلبي بهجة بسبب ما أتيته من أمجاد، وبالبهجة ذاتها امتلأت قلوب التولتيك أجمعين، حقّ لك أن تخلد إلى الراحة، فلقد تصرّفت في مواجهة الأعداء تصرفا محمودا.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه مكّنته من جعل بعض سكان تولا يرقصون حتى الموت

مكيدة أخرى نسجها ذاك الساحر المسمى “سيدنا جميعا”. فبعد أن صرع جميع أعدائه وهزمهم ونال على ذلك رداء قُدّ من ريش ببّغاء أصفر طلب من جميع التولتيك أن يرقصوا وأمر مناديا أن يصعد إلى قمة “تلّة المناداة” وينادي كل الهنود الأجانب حتى يقبلوا ويرقصوا معهم في ذلك الحفل. وكان أن جاء إلى “تولا” عدد لا يحصى من الهنود. أما ما كان من أمر المسمّى “سيدنا جميعا” فإنه قصد بهم، فتيات وفتيانا، مكانا يسمّى “تكسكالابان” وهو ما تفسيره (ماء الصخور). وهناك رفع عقيرته بالغناء فيما هو يرقص ويقرع الطبل. فأخذ الناس أجمعين يرقصون مغتبطين اغتباطا عظيما وهم يردّدون المقاطع التي كان الساحر يترنّم بها وما كانوا قد سمعوها من قبل أبدا.ا

هكذا ظلوا، شطح ورقص وغناء، من غروب الشمس حتى منتصف الليل المسمى عندهم “تلاتلابيتزاليزبان” وهو ما تفسيره (ساعة النفخ في الشبابات). ولما كان عدد الراقصين عظيما جدا فإنهم كانوا يتدافعون ويرتطم البعض منهم بالبعض الآخر. وكثيرون منهم كانوا يسقطون في جرف الوادي المسمى “تكسكاللوهكو”، ويتحولون إلى حجارة. لقد كان على ذلك النهر جسر قُـدّ من الحجارة عمد هذا الساحر إلى تكسيره. وكلّ الذين صعدوا ذلك الجسر سقطوا وهووا في النهر وتحولوا إلى أحجار. وما كان التولتيك يتفطنون إلى أنها صنائع الساحر وفعاله لأنهم كانوا سكارى كما لو أن الخمر قد ذهبت بعقولهم. فكانوا كلما عادوا إلى الرقص يتدافعون فيسقط آخرون في النهر الجاري.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أهلك بها أناسا آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل أحابيلها ذلك الساحر: جلس يوما في قلب “تيانكيز” وهو ما تفسيره (ساحة السوق) وزعم أنه يدعى “الرجل الخشبي” ويسمى أيضا “كيوكسكوش”. وعلى راحتيه كان يقوم بترقيص رجل صغير في حجم عقلة الاصبع يزعم الناس أنه “الضريس اليسراوي”. وحين لمحه القوم من التولتيك نهضوا جميعا وصاروا ينظرون إليه مخطوفي العقول ويتدافعون بكل عنف، كلّ يريد رؤيته إلى درجة أن كثيرين منهم صرعوا ولقوا حتفهم مختنقين في الزحام مرفوسين بالأرجل رفسا. وهذا كثيرا ما كان يحدث لهم. فكثيرون منهم قد لقوا حتفهم من شدة الزحام. عندئذ قال الساحر المدعو “الثعبان ذو الريش” مخاطبا أتباعه: “يا معشر التولتيك! أي معشر التولتيك! ما الذي دهاكم؟ كيف لا تتفطنون إلى أنها مكيدة؟ كيف لا تدركون أن تعويذة السحر هي التي ترقّص هذا الرجل الصغير. هيّا اقتلوهما معا رميا بالحجارة، ارجوموهما.” وهكذا رجم التولتيك الساحر “الرجل الخشبي” وصاحبه الرجل الصغير الذي هو في حجم عقلة الاصبع، وقتلوهما رجما بالحجارة.ا

ثم كان أن جثة الساحر القتيل شرعت في التفسّخ. ومنها انبعثت الرائحة الكريهة حمّالة الوباء. كانت الرائحة النتنة تفسد الهواء وتنتقل مع الرياح مهلكة أعدادا هائلة حيثما حلّت. فنطق الساحر المسمّى “الثعبان ذو الريش” و كلّم أتباعه هكذا: “نحّوا عني هذه الجثة واحملوها بعيدا. إن رائحتها قد أهلكت من التولتيك خلقا كثيرا.” فقاموا بربط الجثة بالحبال وحاولوا أن يجرجروها. لكنها كانت أثقل مما يقدرون عليه، فلم يقدروا على تنحيتها أو إبعادها. كانوا يتوهمون أنهم سيخرجونها من “تولا” على عجل. أرسلوا مناديا ينادي القوم كلهم: “يا معشر التولتيك، يا معشر التولتيك، تعالوا كلكم وخذوا معكم حبالكم كي نربط الجثة ونلقيها خارجا.”ا

وكان أن التولتيك جميعهم تجمهروا حول الجثة وشدوا وثاقها بحبالهم وشرعوا في جرجرتها وهم يتنادون هائجين جدا: “أي معشر التولتيك! جرجروا هذه الجثة بحبالكم.” لكن وزن الجثة كان أكثر مما يقدرون على جرّه. تقطّعت الحبال وأدى انقطاعها إلى هلاك من كانوا يمسكون بها، إذ هوى البعض منهم على البعض الآخر. ولما عجزوا عن نقل هذه الجثة خاطبهم الساحر المسمى “الثعبان ذو الريش” قائلا: “يا قوم، يا معشر التولتيك، هذه الجثة تريد أن نغنّي لها مقطعا من أغنية.” وقام هو نفسه باختيار المقطع وقال لهم ترنّموا هكذا: “جرجروا، هيّا جرجروا، جثة الساحر “الرجل الخشبي” جرجروا، جثة القتيل جرجروا…” وبعد لأي تمكنوا من جرّ الجثة يسيرا يسيرا حتى بلغوا بها الجبل. وكان أن الذين عادوا ولم يهلكوا من شدة الإعياء لم يفهموا ما الخطب الذي حلّ بهم. فلقد صاروا مسطولين حتى لكأنهم سكارى وما هم بسكارى.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أودت بحياة أناس آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل خيوطها الساحر نفسه. فلقد قيل إن الأغذية كلها فسدت وتعفّنت فجأة وما عاد أحد من الناس قادرا على أكلها. وساعتها طلعت على القوم عجوز هندية يقال إنها الساحر نفسه متنكّرا. جلست العجوز في حديقة “اكزوشيتلا” وشرعت تشوي ذرة صفراء، فعبق الجو برائحة الذرة الصفراء المشوية. وكان أن الرائحة انتشرت في كل القرى المجاورة. وعندما داعبت تلك الرائحة أنوف التولتيك مضوا راكضين. وفي أقل من لمح البصر وصلوا إلى الحديقة. فمما يشاع أن التولتيك كانوا قوما في سرعة الريح إن هم ركضوا. أما ما كان من أمر العجوز فإنها كانت تقتل كل من يصل إليها. فلم ينج منهم أحد.ا

في الإخبار عن مكائد أخرى حبكها الساحر نفسه

حبك الساحر ذاته مكيدة أخرى في قلب مدينة “تولا” إذ قيل إن القوم رأوا صقرا أبيض مخرّقا بسهم ظل يمرق هناك في السماء في الأعالي على مرأى من الجميع. مروّعة كانت المكائد والأحابيل التي نسج خيوطها الساحر. وكثيرة هي النفوس التي أهلكها بواسطة تلك المكائد والحيل والأحابيل. لقد عمد هذا الساحر إلى جعل التولتيك يرون حين يرخي الليل سدوله جبل “تلة العكرش” يحترق وألسنة اللهب تصّاعد منه فيجزعون ويملأون الدنيا بالصراخ والزعيق والعويل، ويتملّكهم الوجل والهلع. ومن شدة الحيرة يسائل البعض منهم البعض الآخر قائلين: “أي معشر التولتيك! ها حظنا يكبو بنا، ها أننا نهلك، وها فننا يتلف، وما أبدعناه يتلاشى. يا لرزيتنا! فالنفير! النفير! يا لتعاستنا! يا لضيعتنا! بمن نلوذ؟ بمن نحتمي؟ أين سنولّي وجوهنا؟ يا لفظاعة شقوتنا! فلنحاول أن يسند بعضنا بعضا ونتجلّد.”ا

وفوق هذا كله حاك لهم هذا الساحر أحبولة أخرى. لقد جعل السماء تمطر على التولتيك حجارة من سجّيل. ثم أنزل عليهم جلمود صخر يسمى “تشكاتل” وهو ما تفسيره (صخرة القربان). وحدث أيضا أنه ابتلاهم بعجوز هندية جاءت تسير حتى وصلت إلى مكان يسمونه “شابولتيت كويتلابيلكو” وهو ما تفسيره (تلة الجراد أرض النهاية). ويسمى أيضا “هيتزمكو” الذي تفسيره (مكان السقطة). كانت العجوز تسعى بينهم وتبيع أعلاما صغيرة سوّيت من الورق وهي تنادي: “أعلام جميلة، من يبتغي أعلاما جميلة؟” وكان كل من يرغب في الموت يسارع بالقول: “ابتاعوا لي علما صغيرا، أريد علما صغيرا.” وعندما يشترونه له يعجّل باعتلاء صخرة القربان هناك حيث ينقض عليه الآخرون ويقتلونه. وما كان أحد منهم يتساءل: “ما الذي اعترانا؟” فلقد كانوا كمن أصابهم مسّ من الجنون خطف منهم العقول.

في الإخبار عن فرار “الثعبان ذي الريش” إلى مدائن تولا الحمراء وما أتاه من فعال في طريقه إليها

وقع التولتيك في فخاخ أخرى لأن الحظ قد تخلى عنهم. وكان أن المدعو “الثعبان ذا الريش” امتلأ قلبه بالأسى جرّاء تلك المكائد. لقد غلب على أمره فقبل بالرحيل إلى “تولا الحمراء”. وما كان منه قبل رحيله إلا أن أضرم النيران في منازله التي كان قد شيّدها من الفضة واللؤلؤ. وطمر ما يملك من نفائس في قاع الأرض وفي الجبال وجروف الوديان، وحوّل أشجار الكاكاو إلى أشجار أخرى تسمى مزكيت. وفوق ذلك كله، أمر العصافير ذات الريش النفيس تلك التي تسمى “الكتزال” وهي العصافير الزرقاء والعصافير الحمراء بأن تسبقه إلى هناك. فما كان منها إلا أن طارت ومضت حتى بلغت مدينة “ضفة بحر” التي تبعد أكثر من مائة ميل.

ثم كان أن “الثعبان ذا الريش” حمل عصا الترحال وشق طريقه مخلّفا وراءه مدينة “تولا”. وحثّ الخطى حتى وصل إلى مكان يقال له “كوهتليان” الذي تفسيره (طرف الغابة). وكان ثمة في ذلك المكان شجرة عظيمة عريضة جدا، وطويلة جدا. فاتكأ “الثعبان ذو الريش” على تلك الشجرة وطلب من غلمانه أن يعطوه مرآة. وللتوّ لبّوا طلبه. فما كان منه إلا أن نظر إلى وجهه في المرآة، وفتح فاه وحدّث نفسه قائلا: “إني الآن شيخ مسنّ هرم.” وللتوّ سمّي ذلك المكان “هيوهيوكوهتيتلان” الذي تفسيره (طرف الغابة الهرمة). ثم كان أنه التقط أحجارا ورمى بها الشجرة فمضت الأحجار وتوغلت في جذع الشجرة وفي أغصانها كلها. ومنذ الزمن ذاك والأحجار عالقة بالشجرة هكذا، من أسفل جذعها إلى ذروتها. وبإمكان المرء أن يرى تلكم الأحجار ملتحمة بالشجرة إلى يوم الناس هذا.

هكذا ظل “الثعبان ذو الريش” يضرب في الأرض يتقدمه المزمّرون من أتباعه وهم يزمّرون. ثم كان أنه توقف في مكان آخر ليأخذ له قسطا من الراحة. فجلس على صخرة عظيمة، ووضع راحتيه على سطحها، فتوغلتا في الصخرة وتركتا أثرهما حتى يوم الناس هذا. ولما كان “الثعبان ذو الريش” يتلفّت باتجاه “تولا” التي غادرها فإن قلبه امتلأ بشجن لا يطفأ، فانخرط في نوح أسود مرّ حزين. وكان أن الدمع المتحدر من عينيه مدرارا حفر الصخرة التي كان قد جلس عليها طلبا للراحة، وأحدث فيها ثقبا لا تحصى.

في الإخبار عن الآثار التي تركها على الصخر، وهي آثار راحتيه ومؤخرته في المكان الذي كان قد جلس فيه

وحدث أن “الثعبان ذا الريش” وضع يديه على الصخرة الكبيرة التي كان قد قعد فوقها فانحفرت آثار راحتيه عليها حتى لكأن تلك الصخرة كانت من طين. وانحفرت آثار مؤخرته في البقعة التي كان قد جلس فيها. وهذه الآثار بيّنة للعيان إلى يوم الناس هذا. لذلك سمي هذا المكان “تيماكبالكو” وهو ما تفسيره (آثار الراحتين). وكان أن “الثعبان ذا الريش” نهض وواصل طريقه حتى بلغ المكان المسمّى “تينامويان” وهو ما تفسيره (الممرّ). فمن هناك كان يمرّ نهر كبير واسع جدّا، عليه شيّد “الثعبان ذو الريش” جسرا قدّه من الصخر.

ثم أكمل طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كواهوابان” وهو المكان الذي سبقه إليه السحرة الآخرون كي يسدّوا عليه طريقه ويمنعوه من التقدم خطوة أخرى. وحين وصل إليهم بادروه بالسؤال قائلين: “إلى أين تمضي؟ ولماذا تهجر شعبك؟ من ستأتمن عليه من بعدك؟ من الذي سيكفّر عن الذنوب التي سيقترفها شعبك من بعدك؟” ففتح فاه وكلّمهم جازما: “إنكم لا تقدرون على منعي من الذهاب إلى حيث أمضي لأن هذا هو قدري.” فسألوه قائلين: “إلى أين ستذهب؟” فأجابهم قائلا: “إلى تولا الحمراء.” قالوا: “ولماذا تذهب إلى هناك؟” فأجابهم قائلا: “لقد دعتني الداعية، الشمس نفسها هي التي دعتني.” وساعتها قالوا له: “ليكن الحظ حليفك في رحلتك هذه. لكن، مكتوب أنه عليك أن تترك هنا كل فنون الصناعة والتقنية: فن تذويب الفضة وصهرها، وفن صقل الحجارة والخشب، فن الرسم، وفن تسوية الريش، وغيرها من الفنون.” وانصرف السحرة في حال سبيلهم. أما عن “الثعبان ذي الريش” فإنه شرع يرمي بكنوزه في نبع جار كان يسمى “كوزكابان” الذي تفسيره (نبع القلادات). وهو يحمل الآن اسم “كوابان” وهو ما تفسيره (نبع الثعبان).

واصل “الثعبان ذو الريش” طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كوشتوكان” الذي تفسيره (سِـنة النوم). فطلع عليه ساحر آخر وجاء وقال له: “طريق السلامة، تناول هذه الخمرة التي حملتها لك معي.” فأجابه قائلا: “لا يمكن أن أشرب منها أو أذوق منها جرعة واحدة.” فقال له الساحر الذي اعترض سبيله: “ليس لك من الشرب بد، ولا حول لك، لا بدّ أن تذوق منها جرعة على الأقل لأنني منها أسقي كل ذي نفس حية وبها أسكرهم جميعا، هيّا، اشرب.” فما كان من “الثعبان ذي الريش” إلا أن تناول الخمرة وامتصها مستخدما قشة مجوّفة. فسكر واستسلم للنوم على قارعة الطريق وطبّق شخيره الآفاق. وعندما استيقظ جال ببصره هنا وهناك، وطفح قلبه بالشجن. فشرع يمزّق شعره تمزيقا. ولذلك سمي ذلك المكان “سِـنة النوم”.

 خبر غلمان “الثعبان ذي الريش” وكيف هلكوا من شدة البرد في الممرّ الفاصل بين جبل البركان وجبال نيفادا. يليه خبر عن فعاله وصنائعه الأخرى

وكان أن “الثعبان ذا الريش” واصل طريقه على الممر الواقع بين جبل البركان وجبال نيفادا، وهناك هلك جميع غلمانه الذين كانوا أقزاما مُحدَوْدَبي الظهور. فحزن عليهم الحزن كله. ورثاهم بأغنية. فكانت العبرات تخنقه والزفرات تحرق مهجته وهو يتطلّع ببصره إلى الجبل الآخر المغطى بالثلج واسمه “بويوتيكاتل” الذي تفسيره (السحب). وهو جبل يقع على مقربة من “تيكاماشالكو” وتفسيره (الفم الذي قُـدّ من حجر).

هكذا مرّ بالأماكن المذكورة كلها وبالقرى وترك آثارا على الأرض وفي الطريق حسب ما قيل. ويقال أيضا أنه قد استبدّ به الفرح فصار يلعب ويمرح فوق جبل عال وأنه جلس على القمة وانحنى حتى لامس السهل. ثم هبط من الجبل. وهذا حدث مرات عديدة. ويقال إنه عمد، في مكان آخر، إلى ابتكار كبّة جوّفها وسوّاها من حجارة مربّعة الشكل في داخلها يمكن للناس أن يلعبوا لعبة “التلاشتلي”. وفي وسطها فتح ثلما أو علامة تسمى “تليكوتل”، فانفتحت الأرض في ذلك الموضع وصار جرف هائل. وعمد، في مكان آخر، إلى تصويب سهم نحو شجرة ضخمة تسمى “بوشوتل”. والسهم نفسه كان شجرة “بوشوتل” اخترقت الأخرى فاتخذتا شكل صليب.

ويقال أيضا إنه شيّد منازل تحت الأرض تسمى “ميكتلانكالكو” وهو ما تفسيره (بيوت الموتى). ويقال إنه نقل صخرة ضخمة جدا، وجاء فوضعها على نحو يسهل للمرء معه أن يحركها بخنصره. أما إذا اجتمع رجال عديدون ورغبوا في تحريكها فإنهم لا يتمكنون حتى من زحزحتها.

***

عديدة هي الأمور التي أتاها “الثعبان ذو الريش” في العديد من القرى. وكثيرة هي فعاله وصنائعه التي تستحق أن تذكر وتشهر. لقد سمى الجبال كلها، والهضاب والأماكن والبقاع دعاها بأسمائها. وعندما وصل إلى شاطئ البحر صنع لنفسه طوف ثعبان يسمى “كواتلابيشتلي” وهو ما تفسيره (لبوس الثعبان). وجلس فيه مثلما يجلس المرء في قارب. وواصل سفره في البحر الطامي. ولا أحد يعرف كيف أو بأية طريقة وصل إلى “تولا الحمراء”.

و61 وحين حان الحين، حين أزف الزمن المدعو “كواوتل إهووا”،ا

عندها، فوق هاتيك الصخرة المدوّرة،ا

الصخرة المعدّة للتضحية البطولية، أُظهروا للناس وبدوا للعيان؛

أولئك الذين سيجلدون أُظهروا للناس.ا

 و62 والذين كان الموت المحقق ينتظرهم، مطلوب منهم أن: “يقيموا السواري التي سيجلد عليها من سيجلدون.”ا

ل63 لقد جيء بهم إلى “يوبيكو”، معبد التولتيك.ا

ه64 هناك أُخبِروا بالطريقة التي يلزمهم أن يموتوا بها؛ مزقا مزقا قطّعت قلوبهم؛

ب65 استخدموا ترتيّة من الذرة التي لم تليّن بالدبق، استعملوا الـ”يوبي” ترتيّة حتى انتزعوا قلوبهم من الصدور.ا

ل66 لأربع مرّات أُظهروا قدّام الناس،ا

قدّام الناس أخرجوهم ،ا

 كي يراهم الملأ،ا

 كي يراهم الناس أجمعين،ا

 كي يصيروا معروفين للناس أجمعين.ا

  أ67 أعطوا لكل واحد منهم أشياء؛ أعطوا لكل واحد منهم ملابس من ورق.ا

ف68 في المرّة الأولى خلعت عليهم أشياء ليتحلّوا بها، كان لونها أحمر.ا

ص 69 صار لونهم أحمر.ا

ص70 صاروا حمرا.ب

م71 ملابسهم التي سويّت من الورق كانت حمراء.ا

ف72 في المرّة الثانية زينتهم التي قدّت لهم من الورق كانت بيضاء.ا

ف73 في المرّة الثالثة ساروا بملابس حمراء.ا

ف74 في المرة الرابعة كانوا بيضا.ا

أ75 أزفت الساعة فزيّنوهم،ا

حان وقت تقدمتهم قرابين فمنحوهم العطيّة الأخيرة،ا

 أُلبس من سيقدمون قرابين رداء التقدمة،ا

 ذاك الذي سيوصلهم فيه (المضحون) إلى مصارعهم،ا

ذاك الذي ستلفظ فيه آخر أنفاس (الضحايا)،ا

ذاك الذي سيجلدون فيه.ا

من أجل هذه المناسبة لبسوا زينتهم الحمراء.ا

ز77 زينتهم ماعادوا غيّروها: ما عادوا غيّروا زينتهم أبدا.ا

……………………………………….

م2917 معبد السينتيوتل الأبيض

م2918 معبد السينتيوتل الأبيض، هناك كان الأسرى يقضون نحبهم.ا

 أولئك الذين تقرّحت جلودهم،ا

م2919 ما كان أحد يرغب في أكلهم؛

بعد مصرعهم، كان الكهنة يوارونهم التراب.ا

 ل2920 لقد صرعوا  في أيام الصوم، أيام الصوم تمجيدا للشمس.ا

هناك كانوا يجمعونهم أجمعين،ا

الأسرى المقدَّمين أضاحي وقرابين.ا

 أولئك الألى يسمّون تلالوكس

……………………………………………..

ن3104 نحرا بعد تجميعهم أجمعين،ا

 نحرا كانوا ينحرون.ا

 إ3105 إربا إربا كانوا يمزّقون منهم الأجساد بعد طقوس النحر،ا

طهيا يطهونهم.ا

م3106 مازجين اللحم ببراعم الورد المهروسة، كانوا يطبخونهم.ا

و3107 وللنبلاء وأكابر القضاة كانوا يقدّمون الوليمة فيأكلون،ا

 باللحم البشري ينعمون؛

وحدهم الحكام بالوليمة جديرون، والعامة منها لا يقتربون،ا

 العوام لا يأكلون.ا

 وحدهم الحكام بالوليمة ينعمون.ا

From Fr. Bernadino de Sahagun, The Florentine Codex:  General History of the Things of New Spain, Book 2,:

 The Ceremonies. Arthur J.O. Anderson and Charles Dibble, trans. Sante Fe  School of American Research and the University of Utah Press, 1950-1982.

هذا النص مأخوذ من الكتاب الملعون. وهو كتاب حرصت الكنيسة على الاحتفاظ به في العتمة لتوقّي العالم المسيحي والناس أجمعين من مخاطره وفتنته. طيلة أكثر من قرنين ظلّ كتاب الراهب برنادينو دي ساهاغان يعتبر كتابا ملعونا، كتابا سرّيا أبعدته الكنيسة عن الأنظار. فلقد أجمع رجال الدين منذ سنة 1565م على أن سحره لا يقاوم. إنه كتاب فتنة وغواية. ومن يطّلع عليه لا يمكن أن ينجو من الوقوع في دائرة السحر والانقياد لإغواء  كبير المفسدين وزعيمهم بلا منازع: إبليس المكّار. ولذلك أيضا ظلّ الكتاب مخطوطا لا أحد من رجال الدين يجرؤ على التفكير في نشره حتى سنة 1829م تاريخ صدوره في المكسيك.ا

طيلة أكثر من قرنين لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة المجرّب إبليس وثبتوا الثبات كلّه في مجاهدته ومواجهة إغراءاته ووسوسته التي قلّ أن يثبت المرء أمام سطوتها.ا

لم يكن مؤلّف الكتاب، الراهب برنادينو دي ساهاغان، منشقّا على الكنيسة أو معارضا لها حتى يعتبر كتابه كتابا محرّما. بل كان رجل دين مسكونا إلى حدّ الهوس بالدفاع عن الكنيسة والتبشير بتعاليمها. ولم يكن أجنبيا يمكن أن يتحوّل إلى جاسوس يخشى منه على التاج الملكي. بل هو إسباني المولد والنشأة والتكوين. فلقد ولد سنة 11499. وحين بلغ الثانية عشرة من عمره أرسل إلى مدرسة مدينة سلامنكا وشرع في التعلّم. وعلى عجل التحق بكنيسة القديس فرانسوا. وهناك تشرّب التعاليم كلّها وحذق طرائق الرهبان في الالتفاف على الفعال التي تتعارض مع ما تدعو إليه الديانة من إخاء وتراحم. وعلى عجل أيضا تمرّس بالفتاوى والحيل التي كانت الكنيسة تبرّر بها مشاركتها في نسج فصول أشنع جريمة في تاريخ البشرية: إبادة سكّان أمريكا الأصليين.ا

سنة 1529م  وصل برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو التي نهبها الجند الغزاة ودمّروها تدميرا مروّعا، مكسيكو التي أطلق عليها الغزاة اسم “إسبانيا الجديدة” حتى يتسنّى لهم محوها من الدنيا محوا نهائيا. ولاستبدال الاسم دلالته الرمزية وطابعه الإشاري الفظيع على رغبة الغازي والمستعمر في قتل ذاكرة المكان ومحو تاريخه وتملّكه إلى الأبد. وبغريزة منقطعة النظير عرف الراهب المدجّج بالتعاليم التي تدعو إلى مجاهدة الشياطين والمردة وإبادة أتباعهم من البشر –عرف- كيف يلتفّ على الجريمة ويبرّرها. فلم يكن الراهب الذي نذر حياته للتبشير بالتراحم والإخاء ليغفر جريمة نكراء ما تزال خرائب مدينة مكسيكو تشهد على شناعتها وفظاعتها.ا

لذلك سيعمد، مختارا أو مأمورا من قبل رؤسائه من الكهنة، إلى التعجيل بتبرير ما حدث والإقناع بأن المذابح التي راح ضحيّتها السكّان الأصليون والمحارق التي أودت بأشدّ الأمم قربا من الطبيعة وتقديسا للأرض، ليست التجسيد المروّع الفظيع لما تنبني عليه مقولة التقدّم الغربي ومقولة التنوير من وحشيّة وفظاظة، بل هي نقمة السماء على أتباع إبليس الشرّير. والجند الغزاة المتوحشون الذين باركت الكنيسة صنائعهم وحبيت على ذلك من الذهب أكواما رصّعت بها تصاوير القدّيسين ورسومهم في كنائس إسبانيا كلّها، إنما كانوا يؤدّون واجبا مقدّسا. فهم فعلة اصطفتهم السماء كي تنزل العقاب بأتباع إبليس الرجيم. وما حصل للسكان الأصليين إنما هو الجزاء وبئس المصير.ا

هذه هي خطّة الكتاب الملعون. وتلك هي المنطلقات النظرية التي سيبني عليها المؤلّف برنادينو دي ساهاغان مجمل فصول الكتاب. إن الجريمة قد انطلقت من مكسيكو، وستطال القارة الأمريكية بأسرها وتمحو سكانها أمما وشعوبا وقبائل. لن تبقي ولن تذر. إنها جريمة بشعة شنيعة نكراء لا يمكن أن توصف لأن الذي حدث لم يكن غزوا بل إبادة شاملة. وعلى الراهب برنادينو أن يمدّ الكنيسة بما يعيد لها أمنها وطمأنينتها. عليه أن يكشف بما لا يدع مجالا للشكّ، بأن معتقدات السكّان الأصليين ودياناتهم ليست سوى أمارة على ما يمتلكه الشيطان من مقدرة فائقة على نسج المكائد، وفتل الأحابيل والألاعيب، ونصب الفخاخ التي يتصيّد بها أرواح بني البشر. وعليه أن يثبت قدّام العالم المسيحي بأسره أن آلهة السكّان الأصليين هي التي قادتهم إلى الأفول الجماعي لأنها ليست سوى أقنعة وتجلّيات لإبليس الرجيم.ا

 


1 Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, La Nouvelle Revue Francaise, novembre 1979, N=322.

غير أن الكتاب، ظلّ مع ذلك، عبارة عن سفر داخل مناطق بكر، مناطق الغريب والمتوحّش وما لا يقبل العقلنة والترويض. لقد استسلم واضعه لفتنة العالم الذي أرّخ له. لذلك كفّت الكتابة عن كونها مجرّد تأريخ للوقائع والأحداث والممالك وشهدت نوعا من التبدل الخطير. لقد صارت عبارة عن تطواف في مدائن السحر. ورهبان الكنيسة حين صادروه ومنعوا نشره  أو تداوله، إنما كانوا على يقين من أنه ليس كتابا في التاريخ بل هو مدائح وحكايات تضع من يتملاّها في حضرة ثقافة الهنود الحمر وهي تحلم ذاتها وتفكّر ذاتها.ا

وإنه لأمر مذهل مروّع، أن تلتقي في هذا الكتاب رؤيتان للعالم: رؤية الراهب برنادينو دي ساهاغان الذي سينتشل من النسيان الحضارة التي حكم عليها بنو قومه بالزوال والأفول، ورؤية الهنود المكسيكيين الذين كانوا يطرحون قدّام الراهب برنادينو كلّ أخبار عالمهم الذي هلك وجميع أساطيره وكنوزه وأيّامه. سيحدّثونه عن آلهتهم، عن طقوسهم، عن أخبار ملوكهم، عن بطولاتهم وأيامهم. سيحدّثونه عن الحرفيين الذين برعوا في نحت الحجارة وصقل الذهب، عن معارفهم في التنجيم والفلك وخبراتهم في صناعة الأدوية. لذلك سيشرع الكتاب الملعون في الاتساع والامتداد، ويكفّ عن كونه مجرّد كتاب في التاريخ ليصبح كتبا تتوالد غزيرة وتؤرّخ لحكاية لها امتداداتها ولها فصولها وتعرّجاتها.ا

والراجح أن برنادينو دي ساهاغان لم يكن على وعي بأنه كان يكتب موسوعة من أعظم الموسوعات وأكثرها دقّة وتفصيلا. يكفي أن ننظر في فهرس هذه الموسوعة وسندرك، في يسر، أنها تتّسم فعلا بالغنى والوفرة وتؤرّخ لعالم فتّان، عالم ساحر، عالم خلّاب أرغم على السقوط في العتمة:ا

فهرس الكتاب الملعون “التأريخ لأشياء إسبانيا الجديدة”:ا

ا1- الكتاب الأول: في الإخبار عن الآلهة التي كان السكان الأصليون الذين عمّروا هذه الأرض المسمّاة إسبانيا الجديدة يعبدونها.ا

ا2- الكتاب الثاني: في الإخبار عن التقويم الزمني والأعياد والطقوس والقرابين والاحتفالات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون يتقرّبون بواسطتها إلى آلهتهم.ا

ا3- الكتاب الثالث: في الإخبار عن أصل الآلهة التي كانوا يعبدونها.ا

ا4- الكتاب الرابع: في التنجيم التشريعي أو الإخبار عن فنّ العرافة والتنبّؤ الذي كان المكسيكيون يأتونه لمعرفة أيام السعد وأيام النحس، ولمعرفة أقدار الذين كانوا يولدون في تلك الأيام وما هي طباعهم ومميزاتهم الوارد ذكرها في هذا الكتاب. وهذا فنّ أدخل في باب العرافة والفراسة أكثر منه في التنجيم.ا

ا5- الكتاب الخامس: في ذكر التطيّر والفأل الذي كان هؤلاء السكان الأصليون يحدسونه عند رؤية بعض الطيور والحيوانات والحشرات ويتنبّؤون من خلاله بأمور المستقبل.ا

ا6- الكتاب السادس: في البلاغة وفلسفة الأخلاق والشريعة التي كان الشعب المكسيكي يدين بها، حيث نعثر على أمور في منتهى الغرابة تفصح عن جمال لغتهم ورونقها وأمور في منتهى الدقّة تتعلّق بقيمهم الأخلاقية.ا

ا7- الكتاب السابع: في الإخبار عن الفلكيات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون قد توصّلوا إلى معرفتها.ا

ا 8- الكتاب الثامن: في الإخبار عن الملوك وأولي الأمر والطريقة المتّبعة في انتخابهم والطريقة التي كانوا يديرون حسبها شؤون ممالكهم.ا

ا 9- الكتاب التاسع: في الإخبار عن التجار والصيارفة والحرفيين الذين برعوا في نقش الذهب وصقل الحجارة وتسوية الريش النادر وتنضيده.ا

ا10- الكتاب العاشر: في ذكر رذائل هذا الشعب الهندي وفضائله، وذكر الأسماء التي كانوا يطلقونها على أعضاء أجسامهم الظاهر منها والباطن، وذكر  الأمراض والأدوية المضادّة لها، وفي الإخبار عن الأمم التي توارثت هذه الأرض.ا

ا11- الكتاب الحادي عشر: في الإخبار عن خصائص البهائم والطيور والأسماك والشجر والأعشاب والأزهار والمعادن والأحجار وذكر ألوانها.ا

ا12- الكتاب الثاني عشر: في الإخبار عن غزو المكسيك.ا

هذا الكتاب/الموسوعة سيتشكّل مأخوذا باستحضار ماضي الهنود الحمر في لحظة كان الهنود فيها قد صاروا ملكا للماضي. وصارت بطولاتهم وأمجادهم وأيّامهم مجرّد ذكرى. ومعها رحلت طقوس عبادة الشمس، رحل التطبيب بالأعشاب والنباتات. الأعياد التي تقام تمجيدا للحياة ولما تمتلكه الحياة من فرديّة وجاذبيّة وفتنة، سواء أعلنت عن نفسها في الآلهة أو في الإنسان والنبات والجماد، في الظلّ المفاجئ، في الصمت الرهيب في الأدغال والغابات، قد رحلت هي الأخرى إلى الأبد.ا

فحين وصل الراهب برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو كان التشوّه قد أطبق على أرض المكسيك الحاملة أسرار الكون. لذلك ستصبح الكتابة نوعا من المقاومة لسطوة النسيان، ووقوفا في وجه الأفول. ولذلك أيضا سيلتقي في الكتاب صوتان: صوت الراهب الذي يحرص على الالتفاف على الجريمة ليبيّن أن ما حدث هو الجزاء الذي أعدّته السماء للقوم المارقين وبئس المصير، وصوت الذاكرة، ذاكرة الرواة من الهنود الحمر الذين سيشرعون في طرح كنوزهم قدّام الراهب ويحدّثونه عن أمجادهم وأيّامهم وآلهتهم. والذاكرة هنا ليست مجرّد إدراك يحفظ الوقائع والأحداث. إنها طاقة مقاومة لسلطة العدم وسطوته وطابعه الكاسر.ا

إن الطابع الموسوعي الذي اتسم به الكتاب الملعون “التأريخ العام لأشياء إسبانيا الجديدة”، لم يكن اختيارا أتاه المؤلّف. فلقد جاء برنادينو إلى المكسيك ليكتب كتابا في الموعظة والاعتبار. جاء ليدلّل على أن الشيطان هو الذي أضلّ السكّان الأصليين واقتاد خطاهم على الدروب التي أودت بهم إلى خرابهم. كان برنادينو دي ساهاغان رجل دين وصل إلى المكسيك غداة الغزو ليقوم بمهمّة تبشيرية. وكان يعتقد جازما أن ما حلّ بالهنود من دمار وويلات إنما هو القصاص الإلهي، “فالربّ قد ابتلى الهنود الوثنيين واقتصّ منهم على يد الجند المسيحيين. وذاك جزاؤهم وبئس المصير.” كما يقول في الفصل الأول.2د

لكنه يعترف، مع ذلك، في الفصل الثامن والعشرين من كتابه بأن الحضارة الغربيّة قد حملت معها بذرة الفساد والشرّ إلى عالم الهنود. يكتب معترفا: “وإنه لعار علينا أن حكماء الهنود وكهنتهم قد نجحوا في إيجاد الأدوية الناجعة للقضاء على الآلام والشرور التي تعجّ بها هذه الأرض … أما نحن فقد صرنا ننقاد طائعين لميولاتنا الشائنة. وإنّا لنشهد اليوم نشأة جنس من الهنود والأسبان صعب المراس يعسر إنقاذه. فما عاد الآباء والأمهات قادرين على السيطرة على أبنائهم وبناتهم ومنعهم من الانغماس في الرذائل والملذّات التي تعجّ بها هذه الأرض.”3د

وهو يورد في كتابه بعضا من خطبه الوعظيّة التي كان يحرص فيها على جعل الهنود الناجين من الإبادة يتبرّؤون من تراثهم وثقافتهم ودياناتهم. من ذلك مثلا أنه كان يعلّمهم أن آلهتهم ليست سوى أقنعة لأبالسة الجحيم وللمردة والشياطين. كان الهنود يعتقدون أن “كتزلكواتل” وهو ما تفسيره “الثعبان ذو الريش” إله سيّد سيعود إلى الأرض ليخلّص العالم وينقذ الأرض من أوجاعها والناس من محنهم ونكد أيّامهم. وكان برنادينو دي ساهاغان يعلّمهم في شأنه قائلا: “إن ما يزعمه أجدادكم من أن كتزلكواتل قد ذهب إلى تلابلان، وأنه عائد لا ريب في عودته، وعليكم انتظار مقدمه، ليس سوى أراجيف. إننا على يقين من أنه هلك. جسده في الأرض قد تفسّخ وانحلّ. أما روحه فإن الربّ إلهنا قذف بها في غياهب الجحيم حيث تصلى من العذاب الأبديّ ألوانا… أجدادكم أجمعين قد عانوا من الحروب التي لا تبقي ولا تذر، قاسوا الويلات من المجاعات والمذابح. وكي تكون نهاية لكل هذا، أرسل الربّ جنده من المسيحيين فأبادوهم على بكرة أبيهم، هم وآلهتهم.”4د

كان الراهب برنادينو على يقين من أنه يمتلك الحقيقة. لكن فصول الكتاب كثيرا ما طفحت بمسحة من الحزن والشفقة. وكثيرا ما تحوّلت الشفقة إلى تفجّع يكشف تعاطفه مع الأمم والشعوب التي حكم عليها بنو قومه من الجند الغزاة الغربيين بالموت والزوال. ولذلك أيضا كثيرا ما يتحوّل التفجّع بدوره إلى نوع من النوح المكتوم.د

منذ الكتاب الأول  تسلّل الحزن إلى صوت الراهب الذي جاء إلى مكسيكو مدجّجا ببرد اليقين فكتب متأسّيا: “آه عليك ! يا أشدّ الأمم حزنا. يا لحظّك العاثر من دون الأمم!” هذا التأسي الذي سيظلّ يستعاد ويخترق الكتاب في أكثر من موضع، إنما يشير صراحة إلى أن برنادينو كان يصدر عن ضمير معذّب، ضمير رجل يدرك أن الجريمة التي حصلت لم يعرف التاريخ لها مثيلا. ضمير راهب ظلّ يحتمي بتعاليم الكتاب المقدّس كي يلتفّ على الجريمة ويسميها جزاء أو عقابا ربّانيا. لكنه كان على يقين أيضا من أن ما ورد في الكتاب المقدّس من أخبار الملوك الأوَل وتدمير سدوم الضالّة كان أقل فظاعة وأقلّ ويلا من التدمير الذي عصف بالسكان الأصليين وحضارتهم.د


2  M.G. LE CLEZIO, LE REVE MEXICAIN OU LA PENSEE INTERROMPUE, PARIS: GALLIMARD,1988, P68

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د3  أورده

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د4  أورده

حتما كان الراهب برنادينو دي ساهاغان على دراية بما حدث. وحتما كان على بيّنة أيضا من أن الإبادة لم تكن عسكرية فحسب. فلقد تمّت إبادة كل من سوّلت له نفسه مقاتلة الجند الغزاة. أما الناجون من المحارق والمجازر، فلقد تمّ استعبادهم على نحو يجعل المرء يخجل من انتمائه للجنس البشري. فحين انهزم امبراطور الأزتيك مكتزوما وأذعن للقائد العسكري هرنان كورتيس، أمعن كورتيس في تعذيبه وإذلاله وإهانته والسخرية منه قدّام بني قومه. فلم يكن من مكتزوما الامبراطور الذي كان يجسّد، قبل مجيء أبناء الحداثة الغربية، الملك العظيم لأبهى حضارة من حضارات الأرض قاطبة –لم يكن منه- إلا أن قال مخاطبا القائد الغربي المتوحّش كورتيس: “قل لي ماذا تريد مني أن أفعل معك أكثر مما فعلت لأني لم أعد أرغب في الحياة أصلا.” وكانت تلك آخر جملة لهج بها قبل أن يلقى حتفه.ا

بمثل هذه العبارة التي تكشف إلى أي حدّ يمكن أن تداس الكرامة البشرية لهج البطل الصنديد كيوهتيموك. فلقد خلَف هذا البطل الامبراطور القتيل وتزعّم حركة الصمود مؤجّلا -ولو إلى حين- الدمار القادم. وحين أيقن الجند الغزاة أن مواصلة الحرب ستكلّفهم خسائر فادحة، لوّحوا بالسلام وعرضوه على هذا البطل الذي دوّخهم. فجمع البطل الشاب جميع القبائل من بني قومه المتحصنين داخل أسوار مدينة مكسيكو، وحدّثهم هكذا: “إنه لحريّ بنا جميعا أن نموت، وأفضل لنا أن نهلك في هذه المدينة من أن نستسلم للّذين سيجعلون منّا عبيدا لهم وينكّلون بنا من أجل الذهب.”5د

يحدث الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو في كتابه “الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا” عن كورتيس قائلا: “وإنه لمن غريب الصدف أن يحظى كورتيس هذا المغامر المتحدّر من العصور الوسطى، هذا القائد الحربي عديم الذمّة بدعم أكبر ملوك النهضة الأروبيّة الامبراطور شارل كينت. لقد كان كورتيس يعلم إذن أنه لا يقود خمسمائة جندي فحسب بل إنه في طليعة العالم الغربي والمسيحي، حتى لكأنه رأس الثعبان الملقّب بالهدرة، الثعبان ذو التسعة رؤوس أو لكأنه أكثر ألسنة الثعبان امتدادا، تلك الألسنة التي ستلتهم العالم.”6د

ففي سنة 1530 بعد عمليّة الإبادة والتدمير مباشرة، وصل إلى المكسيك المستشار الأسباني ساينوس فانخلع قلبه من هول ما رأى. لقد وجد الهنود يعانون من المجاعة والأوبئة. “وطيلة سبع سنوات من حكم إدارة القائد هرنان كورتيس تمّ استعباد الهنود الناجين من الموت. لقد أرغموا على العمل في المزارع، وفي المدن، وفي مناجم الذهب ومناجم الفضّة أكثر من اثني عشر ساعة في اليوم دون أجر. وبالإضافة إلى الضرائب التي فرضها التاج الأسباني عليهم، كان كلّ واحد من أتباع القائد كورتيس يغنم من الهنود في كل يوم ستّ دجاجات، وعددا وفيرا من الطرائد، وكيسا من الذرة الصفراء، والشوكولاطة والبهارات، وتسعين بيضة.” ويذكر الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه ” الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا ” نقلا عن جوزيه ميراندا في كتابه “ضريبة السكان الأصليين في اسبانيا الجديدة” أنهم “أرغموا قهرا على دفع الخمس من مداخيلهم ضريبة للملك، وما يعادل الخمس نصيبا للملكة وما تبقّى يدفعون منه ضريبة الحرب وضريبة البيع والشراء وضريبة التنقّل.”7د

وإنه لمن التبسيطيّة أن نعتبر موقف برنادينو دي ساهاغان موقفا فرديا، ونرجع ما طفح به كتابه من شفقة وعذاب ضمير إلى كونه رجل دين يدرك تماما أن ما حدث في مكسيكو لا يخصّ الهنود الحمر وحدهم بل يخصّ الشرط الإنساني في جميع الأزمنة ويتعارض مع تعاليم الديانة. فلقد غنمت الكنيسة نفسها من حملات الغزو المتتالية غنائم تفوق تلك الكنوز التي طرحها إبليس المكّار قدّام المسيح ليجرّبه ويغويه. والكنائس المحلاّة بالذهب في اسبانيا ما تزال تروي إلى اليوم فظاعة ما حدث، وتشهد بحجم الغنائم وخسران بني البشر.ا

إن الراهب برنادينو دي ساهاغان إنما يجسّد الضمير الغربي المؤجّل دائما. لقد تمّت الإبادة ونسجت المأساة جميع فصولها… ثمّ تحرّك الضمير الغربي. والضمير، في جميع الحملات الغربية، منذ الهنود، ومنذ فلسطين القابعة في ظلمة، وصولا إلى مدينة السلام وما سيأتي من ويلات، الضمير الغربي، يكون دائما مؤجّلا. تُمنح المآسي فرصتها، وتنسج جميع فصولها، ثم يتحرّك الضمير. وموقف برنادينو، سواء حين يدين الهنود ويعتبرهم أتباع الشيطان أو حين يتأسّى على مصيرهم ويحاول انتشال من تبقّى منهم، إنما هو التجسيد الفعلي لموقف الانسان الغربي المعاصر سليل عصر الأنوار وابن الحضارة الغربية الذي يظل يلوّح بالقيم الانسانية ويبشّر بها عاليا. ثم يشرع في دوسها جميعا حالما يتعلق الأمر بتحقيق الغلبة والتسلّط والربح.ا


أ5  نفسه، ص 50

أ6  نفسه، ص 19

JOSE MIRANDA, LE TRIBUT INDIGENE DANS LA NOUVELLE ESPAGNE, 1952, P 51 :أ7 انظر على التوالي

انظر أيضا:  لوكلوزيو، الكتاب المذكور، ص 33-34.أ

منذ الكتاب الأول طفح الكتاب/الموسوعة بنبرة الافتتان وصار برنادينو دي ساهاغان يحدّث عن لغة المكسيكيين لا باعتبارها مجرد أداة تواصل بل باعتبارها كنزا لا ينضب. يكتب واصفا لغة المكسيكيين “إنها كنز وسبيل مؤدية إلى تحصيل أمور، ومعرفة أمور جديرة بأن تحصّل وتحفظ.” لقد جاء الراهب ليلتفّ على الجريمة ويبرّر ما حدث. لكنه سرعان ما استسلم لحديث الرواة، وصار يصدر أحكاما تكشف افتتانه بدنيا السكان الأصليين، وتفضح تعاطفه معهم وانبهاره بقيمهم، وتكشف إعجابه بعالمهم، وانخطافه بالبهاء الذي سيّجوا به حياتهم وطريقة مقامهم على الأرض. لقد صار الراهب يحدّث متلقّيه المفترض قائلا إن الغاية من كتابه إنما هي “معرفة قيمة هذا الشعب المكسيكي، قيمته التي لم يقع الاعتراف بها إلى حدّ الآن.”8

لم يكن الافتتان مجرد صدفة إذن. إنه جزء من مفاجآت الطريق في رحلة التأريخ لحضارة حكم عليها بنو قومه من أبناء أروبا المأخوذة بفكرة التقدّم بالأفول والتلاشي والزوال. وهو التجسيد الفعلي لما لم يكن في حسبان الراهب أعني الوقوع في دائرة الفتنة. والفتنة هي، في نهاية التحليل، وضع يدرك بالحال لا بالمقال. بل إنها حال تعني الخروج عمّا هو معتاد ومألوف. وهي خروج إلى غير ما كانت الذات عليه قبل حدوث مفعول الفتنة. إنه الخروج من عقال الوعي وأسيجة العقل أي الخروج من الحضور والتطابق، تطابق الذات مع وعيها الذي تعتقد أنه صميمها. بايجاز: إنه الخروج من الهوية نحو ما هو مخالف ومغاير وغريب.ا

 هذا ما ستدركه الكنيسة. وهذا ما سيجعلها تعتبر الكتاب كتابا ملعونا وتحتفظ به في الظلام طيلة أكثر من قرنين، فلا تسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين لا يخشى عليهم من الفتنة.ا

لذلك سيذهب الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه “الحلم المكسيكي” إلى أن برنادينو دي ساهاغان كان مأخوذا إلى حدّ الهوس بالبحث عن العبرة الكامنة وراء ما لحق بالهنود الحمر من دمار وإبادة لأن “فهم السرّ الكامن وراء هذا القضاء الذي نزل على الهنود أمر من شأنه أن يمكنه من ملامسة اللغز المتستّر على نفسه في صميم  المصير المعدّ للبشر أجمعين. ثمّة في تلاوين هذه الصفحات المثقلة بالأحداث الواقعيّة شيء مدوّخ حتى لكأن برنادينو دي ساهاغان قد كان يفتتن الافتتان كلّه بالماضي المجيد، ماضي ذلك الشعب الذي تمّ تحطيمه إلى الأبد فيما هو يكتشف عالم الهنود… لقد كان يوضع، فيما هو يبحث عن جذور الهنود، في حضرة جذوره هو وقدّامها. وهذا هو ما شدّه شدّا إلى ذلك العالم الغني بالأساطير وبالعظمة والمجد.”9ا

فلقد كان الراهب برنادينو المدجّج بالتعاليم الدينية على يقين من أن الشكّ هو الطريق إلى الجحيم، وهو السبيل المؤدّية إلى التهلكة. إن مجرّد الشكّ في أن ما حدث ليس لعنة مقدّرة من السماء بل هو أمارة على جشع أروبا المتحضّرة ودليل على لاإنسانية الجند الغربيين الغزاة، وتوحّشهم لا يمكن أن يكون إلا أمارة على أن إبليس الرجيم بدأ ينسج أحابيله ويتسلّل إلى قلب المؤمن ليوسوسه ما يحبّ ويحرمه من برد اليقين. لذلك سيظل يلحّ على أن جميع آلهة الهنود الحمر مجرّد أقنعة للمردة والشياطين والسحرة، واعتقاداتهم كلّها إنما هي مجرّد أراجيف. فهم يدّعون أن “تيزكاتليبوكا” إله شرّير “يزرع الفتن” ويتقرّبون منه خشية سطوته وفعاله. والحال أنه، في نظر الراهب برنادينو مجرد تجسيد للشيطان الذي لعن في بدء الزمان. أما ما يدّعونه من أنّ “كتزلكواتل” إله اختفى واحتجب عن الأنظار وسيعود إلى الأرض ليملأها بالدعة والطمأنينة والأمن فإنه تجديف محض. “إن “كتزلكواتل” مجرّد إنسان من لحم ودم، إنسان فان مثل البشر أجمعين، وما يزعمونه من أنه كان خيّرا طيّبا ليس سوى دليل على أنه ساحر مراء وخلّ ودود لإبليس.” هكذا كان الراهب يرصّع كتابه بالأحكام.ا

ثمة في هذه الحكايات والأخبار والأساطير التي كان الرواة يطرحونها قدّام الراهب برنادينو دي ساهاغان منطق داخليّ. ثمّة بهاء. ثمّة روعة تخلب العقول. ثمّة جاذبية وسحر. وهذا كله هو الذي جعل الراهب يحتمي بالسماء ويلوذ بالكتاب المقدس محاولا أن يفسّر الأحداث والوقائع وفق طريقة تقيه من الوقوع في دائرة السحر. لذلك سيعمد إلى تأوّل تاريخ بلاد الهنود الحمر، ويصنّف آلهتهم ويفهم كنهها في ضوء قناعاته ومعارفه. فيصبح الكتاب مجمعا للذاكرة. فيه يمتزج الحديث عن الامبراطوريات المتعاقبة بالحديث عن ألاعيب الآلهة ومكائدها وكنهها وكيفيّات تجلّي الربّ الإله من خلالها لتسطير أقدار السكان الأصليين وإدارة مصائرهم.ا

يحدّث برنادينو عن المدائن التي شهدت نشأة الامبراطوريات المتعاقبة وتحوّلت إلى عواصم كبرى، فيذكر أخبار مدينة “تيوتيهواكان” ويشبّهها بطيبة التي كانت في مصر. ويحدّث عن أخبار مدينة “تولا” وهي في نظره تشبه طروادة إلى حد بعيد. ويقول عن مدينة “شولولا” إنها تشبه روما. أما مكسيكو فإنها في نظره على شبه كبير بالبندقية. ويعتبر الإله “هويتزيلوبوشتلي” صنو الإله مارس والإله “كتزالكواتل” صنو هرقل. إنه يتعرّف على الآخر المختلف من خلال الذات. وبذلك يمحو الاختلاف ويقضي على التغاير فيلبّس هذا الآخر المدان بعضا من ملامح الذات ومعارفها وخبراتها وتاريخها حتى يتسنّى له تدجينه والحدّ من توحّشه. لذلك يعمد إلى تأوّل نشأة هذه المدن وخرابها لا في ضوء تاريخها الخاصّ بل في ضوء منطلقاته الدينية وتعاليمه الكنسية. فيذهب إلى أن سقوط امبراطورية “تولا” إنما هو التجسيد الفعلي لإرادة الربّ الإله. فالربّ الإله قد تجلّى للهنود مؤسسي “تولا” وصانعي أمجادها في صورة إلههم “كتزلكواتل” ثم سرعان ما تخلّى عنهم ووقف يشدّ أزر من سيرثون المجد من بعدهم وهم الأزتيك الذين تجلّى لهم في صورة الإله “هويتزيلوبوشتيلي”، فملكوا البلاد وسادوا على العباد واستبدّوا، وما كانوا يدرون أنه كان يمهلهم إلى حين.ا

هكذا حرص الرّاهب برنادينو دي ساهاغان في كل تأويلاته على بناء نسق من التحليل يتماشى مع قناعاته الدينية فيجزم “بأن الرّب الاله، الاله الحقّ، هو الذي اختار أن يتجلّى للهنود الحمر على ذلك النحو ويكشف لهم بعض الحقائق، ويمدّهم ببعض الهبات، وتلك مشيئته وأسراره المحفوظة.”10 وهو يستشهد بحشد من الأساطير الهنديّة التي تجمع كلّها على أن الانكسافات والخسوف وتساقط المذنّبات والنيازك بين الحين والآخر ليست سوى  علامات الأفول الآتي. تحدّثنا بعض الأساطير عن امرأة كلّمتها الآلهة قائلة في صوت واحد: “كفّوا عن تقديم الأضاحي ولا تأتوا بقرابينكم، لأنه من الآن فصاعدا هكذا يكون: الطبول يجب أن لا تقرع، كلّ شيء سيدمّر، لن تكون هناك معابد ولا محارق مقدّسة. سوف لن يتصاعد دخان البخور بعد اليوم. يجب أن يكون كلّ شيء يبابا. أناس آخرون من طينة أخرى سيأتون إلى الأرض.”11

ويروى أيضا “أن الناس ظلّوا لمدّة طويلة يسمعون أصواتا تهتف من كلّ الجهات منذرة الهنود الأزتيك وملكهم بالويل والثبور والأفول الآتي.” وقبل وصول الجند الأسبان بقليل كثرت العلامات المنذرة بالأفول. من ذلك أن “نفرا من الناس تمكّنوا من القبض على طير فظيع الطلعة، كريه المنظر، فحملوه إلى الامبراطور “مكتزوما” وكهنته.” كان الطائر “يحمل على رأسه مرآة، وعلى أديم تلك المرآة كانت الشمس تنعكس، وكانت تميد وترتعش مرسلة نورا مشؤوما الشؤم كلّه وكئيبا جدّا.”12


ا8  نفسه، ص 61

ا9 أورده لوكلوزيو, ص 62

ا10  ميشال بيتور، 176

ا11 أورده لوكلزيو, ص 27

ا12 أورده لوكلزيو, ص 27

من هنا يستمدّ الكتاب الملعون البعض من سحره وجاذبيّته. ومن هنا يتولّد جانب هام من فتنته. إنه لا يؤرّخ للوقائع والأحداث، للأساطير والحكايات والديانات بل يظلّ يتّسع ويمتد فيمتزج فيه الواقعي بالخيالي والأسطوري، ويتماهى البسيط العادي المتعارف مع الغريب والمفارق والمدهش. والناظر في هذا القسم الذي قمت بترجمته عن الفرنسية يلاحظ في يسر أن الراهب سيظلّ وفيا لمنطلقاته وقناعاته الدينية. فلقد جاء إلى مكسيكو ليلتفّ على الجريمة ويبيّن أن إبادة الهنود الحمر كانت الجزاء الذي أعدته السماء للقوم الكافرين. لذلك سيشير إلى آلهة الهنود بعبارة “سحرة” لأن تلك الآلهة في نظره ليست سوى تجلّيات وأقنعة للشيطان زعيم المفسدين وقائدهم الأمهر وحامل لوائهم على الأرض في الأزمنة كلّها.ا

أما الرواة الهنود فإنهم سيطرحون قدّام الراهب المدجّج بالتعاليم الدينية الكنسيّة كنوزهم ويحدثونه عن عالمهم. سيخبرونه عن الكون طفلا، عن البهاء الذي سيّجوا به حياتهم، عن الجمال الذي أثّثوا به الدنيا من حولهم. وفي حين ينعت الراهب برنادينو دي ساهاغان الإله “كتزلكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) بكونه مجرّد ساحر أضلّ الناس في امبراطورية “تولا” فألّهوه وعبدوه وهو الذي قادهم إلى خرابهم عندما فشل في مواجهة آلهة آخرين ينعتهم أيضا بالسحرة ويقول إنهم جاؤوا وأهلكوه هو وأتباعه من التولتيك، يتحدث الرواة الهنود عن “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش) باعتباره الإله الأكبر الذي عُبد ومُجّد في “تولا”.ا

ثم كان أن الإله المدعوّ “الضريس اليسراوي” والإله المسمّى “سيدنا جميعا” والآخر المدعو “وتلاكوبان” جميعهم تآمروا على إله التولتيك (الثعبان ذي الريش) وأمعنوا في الكيد له فأهلكوا جميع أتباعه حتى راعه ما حدث وامتلأ قلبه بحزن لا ينضب. وكان أنهم واصلوا الكيد وفتل الأحابيل حتى أرغموه على الرحيل فركب البحر ومضى إلى المجهول. لكنه سيعود في نهايات الزمان ليسود. ومعه سيأتي قوم من الآلهة “التول” ليتولّوا الحكم فيهم. و”الثعبان ذو الريش” هو الذي سيقودهم ويتقدّمهم ساعة يحين موعد مجيئهم من هناك، من حيث تشرق الشمس، من هناك حيث يلتقي البحر والسماء ويغدوان واحدا. لأنه مكتوب أنهم من هناك يأتون. ولا رادّ لهذا القضاء. لا مهرب أيضا، لأنه مكتوب أيضا أن “كتزلكواتل” (الثعبان ذا الريش) هو الذي سيكون رفيقهم ودليلهم وقائدهم إلى أرض مكسيكو ومدائنها.ا

لم يكن الرواة الهنود يقدّمون للراهب مادّة تاريخية عن عالمهم بل كانوا يمدّونه بتلك الحكايات والأساطير وكانوا يقومون، في الآن نفسه، بتفسير ما حلّ بهم وبعالمهم من دمار. إن خراب مكسيكو، في تصوّرهم، لا يدلّ على تفوّق الجند الهمج الغزاة لأن ما حدث إنما هو القضاء المحتوم الذي لا مفرّ منه. ذلك أن نشأة الأمم وازدهارها، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى خرابها وزوالها وأفولها، إنما يتولّد عن صراع الآلهة. وحين تنهزم آلهة قوم وتولّي الأدبار هاربة أو تهلك وتزول يكون خراب أتباعها من الناس مسطّرا محتوما. والجند الأسبان الغزاة إنما جاؤوا في عهد الأزتيك أيّام ملك الامبراطور “مكتزوما” ليمنحوا ما كان مسطّرا محفوظا فرصة التحقق.ا

وهذا يعني أن خراب سكان مكسيكو ودمار عالمهم إنما يرجع إلى صراع الجبابرة من الآلهة. لأنه مكتوب أن الأيام والحيوات والأمجاد هبات تداولها الآلهة بين الناس: فالتولتيك سادوا قبل الأزتيك وعمّروا البلاد وملأوا الدنيا بالبطولات والفخار والأمجاد ثم هلكوا حين انهزم إلههم “الثعبان ذو الريش” ولاذ بالفرار. أما خراب الأزتيك ودمار مكسيكو فإنه، هو الآخر، حدث جلل آت في نهايات الزمان. وهو قضاء مؤجّل وأمر محتوم سيتحقّق عندما يعود “الثعبان ذو الريش”، ويصطحب معه قوما من “التول” أي الآلهة. حتما سيأتي هؤلاء “التول”. وحتما سيطلبون ما به وُعدوا: السيادة والملك. والإله الملقّب “كوتزالكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) كان الهنود يصوّرونه في شكل “ثعبان ضخم عظيم جدّا جسده محلّى بريش طير الكوتزال. وحين يرسمونه فاتحا شدقيه يتراءى في حلقه وجه بشريّ.”ا

هذا النص الذي قمت بترجمته، مقتطع من كتاب برنادينو دي ساهاغان، نقله إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال بيتور13 وهو يحمل عنوان “مكائد تيتلاكواكان” ويروي ما جرى بين “الثعبان ذي الريش” الذي مجّده التولتيك وعبدوه في بدء الزمان، والآلهة التي سترث الحياة والمجد والملك من بعده وتنعم بها على الأزتيك سكان مكسيكو الذين سيبيدهم الجند الغربيون الهمج. وهو يروي أيضا ما كان من أمر الإله “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش)، وما كان من أمر أتباعه وكيف هلكوا وبادوا. والراهب برنادينو دي ساهاغان يستبدل كلمة “إله” بكلمة ساحر، كي يظلّ وفيا لقناعاته ومنطلقاته الدينية ويقي متلقيه المفترض من الفتنة.ا

يبدأ نص “مكائد تيتلاكواكان” بالحديث عما كان في البدء ويرسم عالما مسيّجا بالبهاء، عالما فاتنا لا نوح فيه ولا وجع ولا موت. وإنما هو نشوة وغبطة والكون طفل. إنه فردوس البداية الذي كان أيّام كانت الحياة قد ولدت للتوّ هشّة طريّة مشتهاة. غير أن الحديث عن الفردوس يأتي مسكونا بنوع من الوعي الفاجع بالمصير. فثمة في هذا النص تسليم بأن الوجود والرعب صنوان. بل إن الرعب هو صميم الوجود وجوهره. ثمة وعي بأن الزوال هو وحده ما يبقى على الدوام. والنص لا يرسم الفردوس باعتباره عالما سماويا مفارقا بل يلحّ على أنه عالم أرضيّ هنا كان. وهو ما يفتأ يكون هنا أيضا. فالآلهة نفسها‘ في نظر الوثنيين، إنما تقيم على الأرض وتحيا مستأنسة بالبشر، بل إنها ظلّت تشاركهم أحزانهم وأيام أعيادهم. يحدّث الراهب برنادينو دي ساهاغان عن هذا الأمر مفتونا فيكتب: “وكانوا يزعمون أن الجبال العظيمة، لا سيما تلك التي تكللها السحب، إنما هي من الآلهة. وكانوا يصوّرون كل واحد منها تصاوير تجسّد كيفيات تمثلهم لفعالها.” وكان الكهنة يجسّدون تلك الآلهة ويلبسون لبوسها ويطلعون على الناس في أيام الأعياد. فيسبّح القوم قائلين: ها آلهتنا تحلّ بيننا. فطوبى لنا! ها أن آلهتنا تصل فالمجد! المجد!”ا

و النص، حين يرسم فردوس البداية الذي كان التولتيك ينعمون فيه لا يكدّر صفو حياتهم أي حادث ثم يشرع في الحديث عما آل إليه أمرهم من خراب، لا ينشد عبرة أو موعظة بل يريد أن يلحّ على أن الذي كان هو الذي يكون. إنها أيام تتوالى. دول تنشأ وتهلك. ووحده الزوال هو الأبقى. لذلك يشرع في الحديث عما كان من أمر التولتيك وأمر إلههم “الثعبان ذي الريش” في نبرة تجمع إلى السخرية الوجع والألم. إن الآلهة التي ستعبد وتمجّد في مكسيكو هي التي ستقضي على “الثعبان ذي الريش” وتهلك أتباعه. وسيتزعم تلك الآلهة الإله الماكر الذي برع في حبك المكائد وأتقن نصب الفخاخ وفاق غيره في فتل الأحابيل. إنه “تيتلاكوكان” العظيم الذي تفسيره “المرآة ذات الدخان”، وهو الإله الذي وهب الأزتيك المجد والملك والعظمة. لذلك كانوا يلقبونه “سيّدنا جميعا”.ا

غير أن برنادينو دي ساهاغان ينعت هذا الإلة بكونه مجرّد ساحر مكّار. ويلحّ على أن الهنود الأزتيك يعتقدون أنه “هو الذي خلق السماء. والأرض سوّاها. وهو الذي وهب كل نفس حية رزقها: أكلا وشرابا ونفائس لا تحصى. وكان هذا المسمّى “تيتلاكواكان” محتجبا عن الأنظار لا يرى. إنه شبيه بالظلّ أو بالريح. أما إذا ظهر وكلّم الناس فإنه يتجلّى في شكل ظلّ… وكان أتباعه من الازتيك يمجّدونه ويؤلّفون مدائح ترفع تمجيدا لاسمه هـكذا: “يا سيّد! يا سيّدنا جميعا! تحت جناحيك العظيمين ملاذنا ومأوانا، تحت جناحيك العظيمين قاتلنا ودرأنا الشرّ عنّا، إنك المحتجب، إنك من دقّ لجلالته أن يلمس، كالليل أنت، كالريح أنت…”.ا

إن نص “مكائد تيتلاكواكان” يكشف ما للأساطير القديمة من سطوة على واضعيها وعلى متخيّل الشعوب التي تظلّ تتوارثها جيلا بعد جيل. والحكايات والوقائع الواردة في النص لا تستمدّ عنفها ومضاءها مما تتوفّر عليه من فتنة وجاذبية وبهاء فحسب، بل تستمدها أيضا من كونها قد اضطلعت بأشد الأدوار خطورة في تحديد مصير الهنود الحمر وقدرهم العاتي الذي سيظلّ يلطّخ بالعار تاريخ الإنسان الغربي “المتحضّر!” ويكشف ما ينبني عليه تاريخ الجنس البشري كله من جريمة ودم وخسران.ا


13  Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, P 179-192 أ

يروي نصّ “مكائد تيتلاكواكان” كيف ستتمّ الإطاحة بـ”الثعبان ذي الريش”. ويذكر ما كان من أمره وأمر المكائد التي نصبها له الإله “تيتلاكواكان” الذي تفسيره (المرآة ذات الدخان/سيدنا جميعا) ويحدّث عن كل ذلك هكذا:ا

في الإخبار عما كان من أمر “الثعبان ذي الريش” الساحر الأكبر، وهو صنو هرقل عند الهنود الحمر، وأين ساد وملك وإلى أين انتهى

اعتبر”كتزلكواتل” من الآلهة، وعبد في “تولا” في الأزمنة الخوالي. كان له معبد عالي البناء صعب المرتقى تقود إليه مدارج ضيّقة جدّا اتساعها أضيق من قدم. وكان تمثاله موفور العناية مغطّى بالأقمشة، ووجهه في منتهى البشاعة. وهو ذو رأس كبيرة شعثاء. وسدنته كانوا جميعا مختصين في الفنون والصناعة بارعين في صقل الحجارة الخضراء المسماة “شالشيهويتس” وفي صهر الفضّة والمعادن. وهذه الفنون كلها إنما علّمهم إياها “الثعبان ذو الريش”.ا

وكانت له منازل بعضها مشيّد من الحجارة الكريمة الخضراء الشالشيهويتس، وبعضها الآخر قُدّ من الفضّة. وله أيضا منازل أخرى بنيت من اللؤلؤ الأحمر والأبيض. وله غيرها مقاما من الأصداف ومن أحجار اليشب. وكان سدنته يخدمونه بسرعة منقطعة النظير. والهنود يدعونهم “تلانكاسيميلهويتيم” وهو ما تفسيره (الذين يقطعون مرحلة في كلّ خطوة). وثمة جبل يحمل اسم “تزاتزيتيبتيل” الذي تفسيره (تلّة المناداة)، وهذا هو اسمه إلى يوم الناس هذا. ومن هناك، من أعلى الجبل كان المنادي يرفع صوته بالنداء ليدعو سكان القرى النائية التي تبعد عن المعبد مائة ميل. وهم يسمّون هذه القرى “أناهوياك” وهو ما تفسيره (ضفة البحر). كان السكان يسمعون المنادي، وعلى عجل يأتون ليتبيّنوا ما الذي يبتغيه منهم “الثعبان ذو الريش”.ا

ويروى أيضا أنه كان ثريا الثراء كله. وهو المملّك على الطعام والشراب. لقد كانت الذرة الصفراء طيلة أيام ملكه وفيرة، والقرع ضخما يبلغ طوله ذراعا، وسبلات الذرة الصفراء كبيرة إلى درجة لا يمكن معها إلا أن تمسك بها بكلتا يديك، وقصب سنابل القمح كان من الطول والعرض حتى أنه يمكن للمرء أن يتسلقه مثل جذوع الأشجار. وكان الناس يزرعون ويجمعون القطن من جميع الألوان: الأحمر والقرمزي والأصفر والبنفسجي والأخضر والأزرق والأسود الداكن والبرتقالي والأصهب. وكانت هذه الألوان كلها طبيعية. فالقطن هو الذي كان يولد من الأرض هكذا. وكان الناس في بلاد “تولا” هذه يتولّون تربية أنواع عديدة من العصافير ذات الريش النفيس: العصفور الأزرق والكاتزال والزاكون والعصفور الأحمر وغيرها من العصافير التي كانت تغني بكل عذوبة.ا

وفوق كل هذا، كان “الثعبان ذو الريش” يملك كنوز الدنيا: الذهب والفضّة وتلك الأحجار الكريمة الخضراء “شالشيهويتس”، وأشياء أخرى نفيسة، وغابات من أشجار الكاكاو ضخمة متعددة الألوان، وهي تسمى عندهم “إكزوشيكاكاوتل”. وكان سدنته أثرياء جدا لم يعوزهم شيء أبدا، ولا هم عرفوا الجوع يوما أو عرفوا نقصا في الذرة الصفراء. وما كانوا يأكلون سبلات الذرة الصفراء التي تكون صغيرة الحجم بل كانوا يتخذون منها حطبا به يدفئون حمّاماتهم. ويقال إنهم كانوا يكفّرون عن ذنوبهم بوخز أجسادهم بأشواك الأغاف حتى تلطّخ بالدم من شدة الوخز، ثم يغتسلون عند منتصف الليل بمياه نبع جار اسمه “اكسيباكويا” وهو ما تفسيره (مغسل الفيروز). وهذا طقس درج عليه الكهنة سدنة الأوثان المكسيكية وهم في ذلك إنما يتبعون السنّة التي كان “الثعبان ذو الريش” قد سنّها في دولة “تولا”.ا

في الإخبار عما آل إليه حظّ الثعبان ذي الريش من تعاسة، وكيف تصدّى له ثلاثة سحرة آخرون وما كان من أمرهم معه

جاء الوقت الذي دالت  فيه دولة “الثعبان ذي الريش” وأتباعه من قبائل التولتيك. فلقد ثار عليهم ثلاثة (آلهة) سحرة يدعون “الضريس اليسراوي” و”سيّدنا جميعا” و”تلاكوبان” وهو ما تفسيره الرجل الخشبي (وهذا اسم آخر من أسماء “هويتزيلوبوشتلي” وقناع من أقنعته). جميعهم أمعنوا في نسج المكائد في دولة “تولا”. بدأ المدعو “سيدنا جميعا” بالمكيدة التالية:ا

اتخذ له هيئة شيخ أشيب مقوّس الظهر ثم تقدّم وجاء حتى وصل بيت “الثعبان ذي الريش” وكلّم الغلمان هكذا: “أريد أن أرى الملك “الثعبان ذا الريش” وأتحدّث إليه.” فقالوا جميعا: “اذهب في حال سبيلك أيها الشيخ! أنّى لعاجز مثلك أن يراه ويمثل في حضرته، فمنظرك لن يكون بالنسبة إليه إلا مصدر قلق واشمئزاز.” عندها قال الشيخ: “لا بدّ لي من رؤيته.” فقال له الغلمان: “سنخبره بالأمر وننظر ما يكون.” وهكذا مضوا وأعلموا “الثعبان ذا الريش” قائلين: “يا سيد، يا سيد بالباب شيخ يريد أن يراك ويتحدث إليك، لقد جررناه إلى الخارج كي يذهب في حال سبيله لكنه ألحّ في السؤال قائلا أن لا بدّ له من ملاقاتك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “ليدخل الآن لأنني كنت أنتظر مقدمه منذ زمان طويل.” وهكذا جاء الشيخ ودخل وقال مخاطبا “الثعبان ذا لريش”: “يا سيد، يا سيدي كيف حالك؟” فقال “الثعبان ذو الريش”: “إن حالي سيئة كيفما قلّبتها، كل أعضاء جسدي تؤلمني ولم يعد بإمكاني أن أحرّك يديّ ورجليّ.”ا

فما كان من الشيخ إلا أن خاطب “الثعبان ذا الريش” قائلا: “سيدي، أيها السيد، ها قد جلبت لك الدواء. إنه دواء فعّال ومنقذ. من يتناوله يسكر وينتعش. فتناول منه إن أردت، سينعشك ويشفيك ويهدّئ من روعك ويجعلك تتحمل محنك وأتعابك وتقبل بموتك أو برحيلك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها  الشيخ! أين تريدني أن أذهب؟” فقال الشيخ: “إنه لضروري جدا أن تذهب إلى “تولانتلابالان” وهو ما تفسيره (تولا الحمراء)، هناك حيث ينتظرك شيخ آخر سيكلّمك بأمور ويحدّثك عن أمور. وبعدها سيعود إليك شبابك بل إنك ستصبح مثل طفل موفور العافية.” وعندما سمع “الثعبان ذو الريش” ذلك الكلام طفح قلبه بشجن لا يطفأ. فما كان من أمر الشيخ إلا أن استأنف الكلام قائلا: “يا سيد، أرجوك اشرب هذا الدواء.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها الشيخ إني لا أريد أن أشرب.” فقال الشيخ: ” يا سيد، اشرب، لتندمنّ إن لم تفعل. خذه على الأقل، وضعه قدّامك، وتناول منه جرعة واحدة.”ا

تناول “الثعبان ذو الريش” الدواء وتذوّقه ثم شرب منه ما تيسّر له أن يشرب وهو يقول: “ما هذا؟ يبدو أنه جيّد ولذيذ، لقد شفاني وخلّصني من المرض. إني لأشعر بأنني موفور الصحة والعافية.” فقال له الشيخ: “تناول منه أكثر مما تناولت لأنه دواء عزيز نفيس وستتحسّن صحتك أكثر فأكثر.” استزاد “الثعبان ذو الريش” من الدواء وشرب منه ما أسكره. وسرعان ما انخرط في بكاء حارّ حزين، ورقّ قلبه وطفح بالأشجان، واستبدت به الرغبة في الرحيل وسكنت منه بين الحشايا والضلوع، فلم يعد قادرا على التفكير إلا في الرحيل. وهذا فخّ نصبه له الساحر الشيخ. ذلك أن الدواء الذي شربه “الثعبان ذو الريش” لم يكن سوى الخمرة البيضاء التي تجود بها تلك الأرض وقد تم استخراجها من الأغاف المسمّى “تيومتل”.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى حبكها هذا الساحر المسمى “سيدنا جميعا

مكيدة أخرى دبّرها “سيدنا جميعا” لـ”الثعبان ذي الريش”، فتجسّد في شكل واحد من هؤلاء الهنود الحمر الغرباء الذين يدعون “توئيّو” وهو ما تفسيره (الهندي المتوحّش). ثم جلس في ساحة السوق التي تقع قبالة القصر وشرع في بيع الفلفل الأخضر وهو عارٍ تماما مثلما هو شأن الهنود المتوحشين من أبناء ذلك الزمان. كان الهيوماك ملكا سيدا يملك على التولتيك، وكانت له ابنة في غاية الجمال في الوقت الذي كان فيه “الثعبان ذو الريش” بمثابة راهب لم يتخذ له صاحبة أبدا ولم ينجب ذرية. جميع الرجال التولتيك طمعوا في الزواج من تلك البنت لأنها حسناء جدا. وكان الهيوماك الملك يمنعها عنهم ويردّهم خاسئين.ا

وكان أن أطلّت ابنة السيد الهيوماك من شرفة القصر على السوق فوقع بصرها على الهندي المتوحش وهو عارٍ تماما ورأت رجولته صارخة. فأنّت له أحشاؤها من شدة الشهوة. وبعد أن رأته على تلك الحال دخلت إلى القصر وازدادت حرقة ووجدا إلى درجة أنها اعتلّت ومرضت وتورّم جسدها. ولما علم السيد الهيوماك بمرضها سأل وصيفاتها قائلا: “ترى ما الذي أصابها؟ وما هو هذا المرض الذي جعل كل جسدها يتورّم هكذا؟” فقالت الوصيفات: “يا سيدي، إن السبب في هذه العلة هو ذلك الهندي المتوحّش الذي يسير عاريا. لقد لمحته ابنتك وملأت بصرها برجولته الصارخة. إن ابنتك الآن مريضة حبّا.” وعند سماع قولهن أصدر السيد الهيوماك أمره قائلا: “آه! يا معشر التولتيك! فتّشوا لي عن هذا المتوحش الذي يبيع الفلفل الأخضر في هذه التخوم كلها. لا مناص من مجيئه في الحال.” فما كان منهم إلا أن فتشوا عنه في كل مكان دون جدوى. وحين يئسوا من ظهوره صعد مناد إلى قمّة جبل “تلّة المناداة” وصرخ بأعلى صوته قائلا: “يا معشر التولتيك، إن عثر أحد منكم على هندي متوحش يبيع الفلفل الأخضر في هذه النواحي فليأت به كي يمثل في حضرة السيد الهيوماك.” فتشوا عنه في الأماكن كلها والتخوم جميعها ولم يعثروا له على أثر. فجاؤوا السيد الهيوماك وأخبروه بأنه قد اختفى حتى لكأن الأرض قد ابتلعته.ا

ثم كان أن ظهر المتوحش جالسا في السوق حيث كان قد باع الفلفل الأخضر. وحال رؤيته مضى الهنود التولتيك راكضين إلى السيد الهيوماك وأخبروه بالأمر. فقال لهم: “هاتوه في لمح البصر.” فنادوا عليه وأخذوه إلى السيد الهيوماك الذي بادره بالسؤال قائلا: “من أين جئت؟” فقال: “ياسيدي، أنا رجل غريب الدار آتي إلى دياركم لأبيع الفلفل الأخضر.” فسأله السيد قائلا: “أية أرض انشقّت عنك؟ لماذا لا تلبس تنورة ولا ترتدي رداء؟” فأجابه قائلا: “يا سيدي، هكذا هي التقاليد والأعراف عندنا.” فقال السيد للهندي المتوحش: “هل ترغب في ابنتي؟ عليك أن تشفيها من علّتها.” ردّ الهندي قائلا: ” يا سيدي، إن ما تدعوني إليه هو المحال عينه بالنسبة إليّ. فاقتلني إن أردت لأن الموت أحبّ إليّ ممّا ترغّبني فيه. لست أهلا لذلك ولا أنا مستحق هذا الفضل. ما حللت بدياركم إلا لبيع الفلفل الأخضر حتى أكسب قوت يومي.” قال السيد: “لا بدّ لك من مداواة ابنتي، فهدئ من روعك ولا تجزع.” ثم كان أنهم أخذوه ليحمّموه ويحلقوا شعره. ثم زيّنوا جسده كلّه بالطلاء وألبسوه تنورة ومعطفا. وبعد ذلك قال له السيد: “امض الآن وادخل على ابنتي في مخدعها.” ففعل. ودخل على البنت وعرفها. وللتوّ تعافت وردّ إليها جمالها. وهكذا صار الهندي المتوحش صهرا للسيد الهيوماك.ا

خبر نقمة أهل تولا على هذا الزواج. يليه خبر عن مكيدة أخرى نصبها “سيدنا جميعا

ما إن تمّ الزواج ودخل الهندي المتوحش على عروسه ابنة السيد الهيوماك حتى تفاقمت نقمة التولتيك، ووصل بهم الأمر إلى حد القدح في عرض السيد الهيوماك وشتمه سرّا وعلانية فيما هم يسائلون بعضهم البعض: لماذا زوّج ابنته لهذا المتوحّش؟ وحين بلغ أمر التولتيك وما يأتونه من قدح وشتائم إلى مسمع السيد الهيوماك دعاهم جميعا وفتح فاه وكلمهم قائلا: “تعالوا، لقد بلغني أمركم وسمعت ما تكيلونه لي من شتائم بسبب صهري المتوحش، وها أنذا أطلب منكم أن تمكروا به وتأخذوه لمحاربة مدينة “زاكاتيباك” وهو ما تفسيره (مدينة تلّة العكرش) ومدينة تلّة الحيّات كي يلقى حتفه على أيدي أعدائنا.ا

وعند سماع هذه الأقوال تقدم التولتيك وجاؤوا كلّهم فتجمهروا وتنادوا للحرب وساروا. ومعهم سار العديد من الجنود، وسار الهندي المتوحش صهر السيد الهيوماك. وعندما وصلوا إلى مكان المعركة طمروه في حفرة وأحثوا عليه التراب مع غلمانهم العرج الأقزام. وتلك لعمري حيلة من حيلهم الحربية! ثم تقدموا لمنازلة جيش أعدائهم الذين قدموا من مدينة تلة الحيات. في ذلك الوقت كان الهندي المتوحّش يهدّئ من روع الغلمان العرج الأقزام قائلا: “لا خوف عليكم ولا أنتم تجزعون، تشجّعوا، فعلينا أن نقتل أعداءنا على بكرة أبيهم.” لكن أهل تلّة الحيات انتصروا، وشرعوا في مطاردة التولتيك الذين كانوا يولون الأدبار طلبا للنجاة مخلّفين وراءهم المتوحش والغلمان في الحفرة والتراب يغطّيهم. كانوا يفرّون وهم يمنون النفس بكل دهاء وبكل مكر أن يفتك الأعداء بالصهر المتوحش ومن معه من الغلمان فتكة بكرا.ا

وكان أنهم وصلوا إلى ديارهم وجاؤوا السيد الهيوماك ليعلموه بالأمر قائلين: “سيدنا، لقد تركنا صهرك المتوحش وحيدا وليس معه من رفيق في مواجهة الأعداء غير الغلمان العرج الأقزام.” وحين علم السيد الهيوماك أن التولتيك قد غدروا بصهره فرح فرحا عظيما جدا معتقدا أنه أهلك ذلك الصهر الأجنبي المتوحش الذي ألحق به العار والخزي. لكن المتوحش المغطى بالتراب، من مخبئه ظل يراقب الأعداء ويحدّث الغلمان قائلا: “لا تخافوا ولا تجزعوا، ها أن الأعداء يصلون إلينا وأنا أعرف أنه عليّ أن أقتلهم على بكرة أبيهم.” ثم كان أنه نهض للطعان والضراب واندفع ينازل الأعداء الذين قدموا من “تلة الحيات” وأولئك الذين أقبلوا من “تلة العكرش”. فكان يطاردهم ويصرع منهم أعدادا لا تحصى حتى هزمهم جميعا.ا

وحين بلغ خبره إلى مسمع السيد الهيوماك ارتعب جدا. لقد هاله الأمر وأدخل عليه قلقا عظيما. فدعا التولتيك وكلمهم هكذا: “لنذهب جميعا لاستقبال صهرنا.” وكان ما سوف يكون. لقد هبّوا جميعا لاستقباله يتقدمهم السيد الهيوماك. حملوا معهم الأسلحة والشعارات المسمّاة عندهم “كتزالابانيكايوتل” وهو ما تفسيره (عارضة ريش الكتزال) والدروع المسماة “أكسيوهشيمالي” الذي تفسيره (مجنّ الفيروز) وقدموها كلها للمدعو المتوحش، واستقبلوه ومعهم غلمانهم وهم يرقصون ويغنون والمزمّرون ينفخون في شباباتهم إيذانا بالنصر والفرحة والحبور.ا

وحين بلغ الموكب السيد الهيوماك قام التولتيك بوضع تاج من الريش على رأس المتوّحش وطلوا جسده بطلاء أصفر اللون ووجهه بطلاء أحمر ووضعوا على رؤوس الغلمان رفاقه أكاليل أيضا ودهنوا أجسادهم ووجوههم. وتلك عادة درجوا عليها في تكريم كل الذين يعودون من ساحات الوغى مظفّرين. بعد ذلك قال السيد الهيوماك لصهره: “الآن وقد امتلأ قلبي بهجة بسبب ما أتيته من أمجاد، وبالبهجة ذاتها امتلأت قلوب التولتيك أجمعين، حقّ لك أن تخلد إلى الراحة، فلقد تصرّفت في مواجهة الأعداء تصرفا محمودا.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه مكّنته من جعل بعض سكان تولا يرقصون حتى الموت

مكيدة أخرى نسجها ذاك الساحر المسمى “سيدنا جميعا”. فبعد أن صرع جميع أعدائه وهزمهم ونال على ذلك رداء قُدّ من ريش ببّغاء أصفر طلب من جميع التولتيك أن يرقصوا وأمر مناديا أن يصعد إلى قمة “تلّة المناداة” وينادي كل الهنود الأجانب حتى يقبلوا ويرقصوا معهم في ذلك الحفل. وكان أن جاء إلى “تولا” عدد لا يحصى من الهنود. أما ما كان من أمر المسمّى “سيدنا جميعا” فإنه قصد بهم، فتيات وفتيانا، مكانا يسمّى “تكسكالابان” وهو ما تفسيره (ماء الصخور). وهناك رفع عقيرته بالغناء فيما هو يرقص ويقرع الطبل. فأخذ الناس أجمعين يرقصون مغتبطين اغتباطا عظيما وهم يردّدون المقاطع التي كان الساحر يترنّم بها وما كانوا قد سمعوها من قبل أبدا.ا

هكذا ظلوا، شطح ورقص وغناء، من غروب الشمس حتى منتصف الليل المسمى عندهم “تلاتلابيتزاليزبان” وهو ما تفسيره (ساعة النفخ في الشبابات). ولما كان عدد الراقصين عظيما جدا فإنهم كانوا يتدافعون ويرتطم البعض منهم بالبعض الآخر. وكثيرون منهم كانوا يسقطون في جرف الوادي المسمى “تكسكاللوهكو”، ويتحولون إلى حجارة. لقد كان على ذلك النهر جسر قُـدّ من الحجارة عمد هذا الساحر إلى تكسيره. وكلّ الذين صعدوا ذلك الجسر سقطوا وهووا في النهر وتحولوا إلى أحجار. وما كان التولتيك يتفطنون إلى أنها صنائع الساحر وفعاله لأنهم كانوا سكارى كما لو أن الخمر قد ذهبت بعقولهم. فكانوا كلما عادوا إلى الرقص يتدافعون فيسقط آخرون في النهر الجاري.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أهلك بها أناسا آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل أحابيلها ذلك الساحر: جلس يوما في قلب “تيانكيز” وهو ما تفسيره (ساحة السوق) وزعم أنه يدعى “الرجل الخشبي” ويسمى أيضا “كيوكسكوش”. وعلى راحتيه كان يقوم بترقيص رجل صغير في حجم عقلة الاصبع يزعم الناس أنه “الضريس اليسراوي”. وحين لمحه القوم من التولتيك نهضوا جميعا وصاروا ينظرون إليه مخطوفي العقول ويتدافعون بكل عنف، كلّ يريد رؤيته إلى درجة أن كثيرين منهم صرعوا ولقوا حتفهم مختنقين في الزحام مرفوسين بالأرجل رفسا. وهذا كثيرا ما كان يحدث لهم. فكثيرون منهم قد لقوا حتفهم من شدة الزحام. عندئذ قال الساحر المدعو “الثعبان ذو الريش” مخاطبا أتباعه: “يا معشر التولتيك! أي معشر التولتيك! ما الذي دهاكم؟ كيف لا تتفطنون إلى أنها مكيدة؟ كيف لا تدركون أن تعويذة السحر هي التي ترقّص هذا الرجل الصغير. هيّا اقتلوهما معا رميا بالحجارة، ارجوموهما.” وهكذا رجم التولتيك الساحر “الرجل الخشبي” وصاحبه الرجل الصغير الذي هو في حجم عقلة الاصبع، وقتلوهما رجما بالحجارة.ا

ثم كان أن جثة الساحر القتيل شرعت في التفسّخ. ومنها انبعثت الرائحة الكريهة حمّالة الوباء. كانت الرائحة النتنة تفسد الهواء وتنتقل مع الرياح مهلكة أعدادا هائلة حيثما حلّت. فنطق الساحر المسمّى “الثعبان ذو الريش” و كلّم أتباعه هكذا: “نحّوا عني هذه الجثة واحملوها بعيدا. إن رائحتها قد أهلكت من التولتيك خلقا كثيرا.” فقاموا بربط الجثة بالحبال وحاولوا أن يجرجروها. لكنها كانت أثقل مما يقدرون عليه، فلم يقدروا على تنحيتها أو إبعادها. كانوا يتوهمون أنهم سيخرجونها من “تولا” على عجل. أرسلوا مناديا ينادي القوم كلهم: “يا معشر التولتيك، يا معشر التولتيك، تعالوا كلكم وخذوا معكم حبالكم كي نربط الجثة ونلقيها خارجا.”ا

وكان أن التولتيك جميعهم تجمهروا حول الجثة وشدوا وثاقها بحبالهم وشرعوا في جرجرتها وهم يتنادون هائجين جدا: “أي معشر التولتيك! جرجروا هذه الجثة بحبالكم.” لكن وزن الجثة كان أكثر مما يقدرون على جرّه. تقطّعت الحبال وأدى انقطاعها إلى هلاك من كانوا يمسكون بها، إذ هوى البعض منهم على البعض الآخر. ولما عجزوا عن نقل هذه الجثة خاطبهم الساحر المسمى “الثعبان ذو الريش” قائلا: “يا قوم، يا معشر التولتيك، هذه الجثة تريد أن نغنّي لها مقطعا من أغنية.” وقام هو نفسه باختيار المقطع وقال لهم ترنّموا هكذا: “جرجروا، هيّا جرجروا، جثة الساحر “الرجل الخشبي” جرجروا، جثة القتيل جرجروا…” وبعد لأي تمكنوا من جرّ الجثة يسيرا يسيرا حتى بلغوا بها الجبل. وكان أن الذين عادوا ولم يهلكوا من شدة الإعياء لم يفهموا ما الخطب الذي حلّ بهم. فلقد صاروا مسطولين حتى لكأنهم سكارى وما هم بسكارى.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أودت بحياة أناس آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل خيوطها الساحر نفسه. فلقد قيل إن الأغذية كلها فسدت وتعفّنت فجأة وما عاد أحد من الناس قادرا على أكلها. وساعتها طلعت على القوم عجوز هندية يقال إنها الساحر نفسه متنكّرا. جلست العجوز في حديقة “اكزوشيتلا” وشرعت تشوي ذرة صفراء، فعبق الجو برائحة الذرة الصفراء المشوية. وكان أن الرائحة انتشرت في كل القرى المجاورة. وعندما داعبت تلك الرائحة أنوف التولتيك مضوا راكضين. وفي أقل من لمح البصر وصلوا إلى الحديقة. فمما يشاع أن التولتيك كانوا قوما في سرعة الريح إن هم ركضوا. أما ما كان من أمر العجوز فإنها كانت تقتل كل من يصل إليها. فلم ينج منهم أحد.ا

في الإخبار عن مكائد أخرى حبكها الساحر نفسه

حبك الساحر ذاته مكيدة أخرى في قلب مدينة “تولا” إذ قيل إن القوم رأوا صقرا أبيض مخرّقا بسهم ظل يمرق هناك في السماء في الأعالي على مرأى من الجميع. مروّعة كانت المكائد والأحابيل التي نسج خيوطها الساحر. وكثيرة هي النفوس التي أهلكها بواسطة تلك المكائد والحيل والأحابيل. لقد عمد هذا الساحر إلى جعل التولتيك يرون حين يرخي الليل سدوله جبل “تلة العكرش” يحترق وألسنة اللهب تصّاعد منه فيجزعون ويملأون الدنيا بالصراخ والزعيق والعويل، ويتملّكهم الوجل والهلع. ومن شدة الحيرة يسائل البعض منهم البعض الآخر قائلين: “أي معشر التولتيك! ها حظنا يكبو بنا، ها أننا نهلك، وها فننا يتلف، وما أبدعناه يتلاشى. يا لرزيتنا! فالنفير! النفير! يا لتعاستنا! يا لضيعتنا! بمن نلوذ؟ بمن نحتمي؟ أين سنولّي وجوهنا؟ يا لفظاعة شقوتنا! فلنحاول أن يسند بعضنا بعضا ونتجلّد.”

وفوق هذا كله حاك لهم هذا الساحر أحبولة أخرى. لقد جعل السماء تمطر على التولتيك حجارة من سجّيل. ثم أنزل عليهم جلمود صخر يسمى “تشكاتل” وهو ما تفسيره (صخرة القربان). وحدث أيضا أنه ابتلاهم بعجوز هندية جاءت تسير حتى وصلت إلى مكان يسمونه “شابولتيت كويتلابيلكو” وهو ما تفسيره (تلة الجراد أرض النهاية). ويسمى أيضا “هيتزمكو” الذي تفسيره (مكان السقطة). كانت العجوز تسعى بينهم وتبيع أعلاما صغيرة سوّيت من الورق وهي تنادي: “أعلام جميلة، من يبتغي أعلاما جميلة؟” وكان كل من يرغب في الموت يسارع بالقول: “ابتاعوا لي علما صغيرا، أريد علما صغيرا.” وعندما يشترونه له يعجّل باعتلاء صخرة القربان هناك حيث ينقض عليه الآخرون ويقتلونه. وما كان أحد منهم يتساءل: “ما الذي اعترانا؟” فلقد كانوا كمن أصابهم مسّ من الجنون خطف منهم العقول.

في الإخبار عن فرار “الثعبان ذي الريش” إلى مدائن تولا الحمراء وما أتاه من فعال في طريقه إليها

وقع التولتيك في فخاخ أخرى لأن الحظ قد تخلى عنهم. وكان أن المدعو “الثعبان ذا الريش” امتلأ قلبه بالأسى جرّاء تلك المكائد. لقد غلب على أمره فقبل بالرحيل إلى “تولا الحمراء”. وما كان منه قبل رحيله إلا أن أضرم النيران في منازله التي كان قد شيّدها من الفضة واللؤلؤ. وطمر ما يملك من نفائس في قاع الأرض وفي الجبال وجروف الوديان، وحوّل أشجار الكاكاو إلى أشجار أخرى تسمى مزكيت. وفوق ذلك كله، أمر العصافير ذات الريش النفيس تلك التي تسمى “الكتزال” وهي العصافير الزرقاء والعصافير الحمراء بأن تسبقه إلى هناك. فما كان منها إلا أن طارت ومضت حتى بلغت مدينة “ضفة بحر” التي تبعد أكثر من مائة ميل.

ثم كان أن “الثعبان ذا الريش” حمل عصا الترحال وشق طريقه مخلّفا وراءه مدينة “تولا”. وحثّ الخطى حتى وصل إلى مكان يقال له “كوهتليان” الذي تفسيره (طرف الغابة). وكان ثمة في ذلك المكان شجرة عظيمة عريضة جدا، وطويلة جدا. فاتكأ “الثعبان ذو الريش” على تلك الشجرة وطلب من غلمانه أن يعطوه مرآة. وللتوّ لبّوا طلبه. فما كان منه إلا أن نظر إلى وجهه في المرآة، وفتح فاه وحدّث نفسه قائلا: “إني الآن شيخ مسنّ هرم.” وللتوّ سمّي ذلك المكان “هيوهيوكوهتيتلان” الذي تفسيره (طرف الغابة الهرمة). ثم كان أنه التقط أحجارا ورمى بها الشجرة فمضت الأحجار وتوغلت في جذع الشجرة وفي أغصانها كلها. ومنذ الزمن ذاك والأحجار عالقة بالشجرة هكذا، من أسفل جذعها إلى ذروتها. وبإمكان المرء أن يرى تلكم الأحجار ملتحمة بالشجرة إلى يوم الناس هذا.

هكذا ظل “الثعبان ذو الريش” يضرب في الأرض يتقدمه المزمّرون من أتباعه وهم يزمّرون. ثم كان أنه توقف في مكان آخر ليأخذ له قسطا من الراحة. فجلس على صخرة عظيمة، ووضع راحتيه على سطحها، فتوغلتا في الصخرة وتركتا أثرهما حتى يوم الناس هذا. ولما كان “الثعبان ذو الريش” يتلفّت باتجاه “تولا” التي غادرها فإن قلبه امتلأ بشجن لا يطفأ، فانخرط في نوح أسود مرّ حزين. وكان أن الدمع المتحدر من عينيه مدرارا حفر الصخرة التي كان قد جلس عليها طلبا للراحة، وأحدث فيها ثقبا لا تحصى.

في الإخبار عن الآثار التي تركها على الصخر، وهي آثار راحتيه ومؤخرته في المكان الذي كان قد جلس فيه

وحدث أن “الثعبان ذا الريش” وضع يديه على الصخرة الكبيرة التي كان قد قعد فوقها فانحفرت آثار راحتيه عليها حتى لكأن تلك الصخرة كانت من طين. وانحفرت آثار مؤخرته في البقعة التي كان قد جلس فيها. وهذه الآثار بيّنة للعيان إلى يوم الناس هذا. لذلك سمي هذا المكان “تيماكبالكو” وهو ما تفسيره (آثار الراحتين). وكان أن “الثعبان ذا الريش” نهض وواصل طريقه حتى بلغ المكان المسمّى “تينامويان” وهو ما تفسيره (الممرّ). فمن هناك كان يمرّ نهر كبير واسع جدّا، عليه شيّد “الثعبان ذو الريش” جسرا قدّه من الصخر.

ثم أكمل طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كواهوابان” وهو المكان الذي سبقه إليه السحرة الآخرون كي يسدّوا عليه طريقه ويمنعوه من التقدم خطوة أخرى. وحين وصل إليهم بادروه بالسؤال قائلين: “إلى أين تمضي؟ ولماذا تهجر شعبك؟ من ستأتمن عليه من بعدك؟ من الذي سيكفّر عن الذنوب التي سيقترفها شعبك من بعدك؟” ففتح فاه وكلّمهم جازما: “إنكم لا تقدرون على منعي من الذهاب إلى حيث أمضي لأن هذا هو قدري.” فسألوه قائلين: “إلى أين ستذهب؟” فأجابهم قائلا: “إلى تولا الحمراء.” قالوا: “ولماذا تذهب إلى هناك؟” فأجابهم قائلا: “لقد دعتني الداعية، الشمس نفسها هي التي دعتني.” وساعتها قالوا له: “ليكن الحظ حليفك في رحلتك هذه. لكن، مكتوب أنه عليك أن تترك هنا كل فنون الصناعة والتقنية: فن تذويب الفضة وصهرها، وفن صقل الحجارة والخشب، فن الرسم، وفن تسوية الريش، وغيرها من الفنون.” وانصرف السحرة في حال سبيلهم. أما عن “الثعبان ذي الريش” فإنه شرع يرمي بكنوزه في نبع جار كان يسمى “كوزكابان” الذي تفسيره (نبع القلادات). وهو يحمل الآن اسم “كوابان” وهو ما تفسيره (نبع الثعبان).

واصل “الثعبان ذو الريش” طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كوشتوكان” الذي تفسيره (سِـنة النوم). فطلع عليه ساحر آخر وجاء وقال له: “طريق السلامة، تناول هذه الخمرة التي حملتها لك معي.” فأجابه قائلا: “لا يمكن أن أشرب منها أو أذوق منها جرعة واحدة.” فقال له الساحر الذي اعترض سبيله: “ليس لك من الشرب بد، ولا حول لك، لا بدّ أن تذوق منها جرعة على الأقل لأنني منها أسقي كل ذي نفس حية وبها أسكرهم جميعا، هيّا، اشرب.” فما كان من “الثعبان ذي الريش” إلا أن تناول الخمرة وامتصها مستخدما قشة مجوّفة. فسكر واستسلم للنوم على قارعة الطريق وطبّق شخيره الآفاق. وعندما استيقظ جال ببصره هنا وهناك، وطفح قلبه بالشجن. فشرع يمزّق شعره تمزيقا. ولذلك سمي ذلك المكان “سِـنة النوم”.

 خبر غلمان “الثعبان ذي الريش” وكيف هلكوا من شدة البرد في الممرّ الفاصل بين جبل البركان وجبال نيفادا. يليه خبر عن فعاله وصنائعه الأخرى

وكان أن “الثعبان ذا الريش” واصل طريقه على الممر الواقع بين جبل البركان وجبال نيفادا، وهناك هلك جميع غلمانه الذين كانوا أقزاما مُحدَوْدَبي الظهور. فحزن عليهم الحزن كله. ورثاهم بأغنية. فكانت العبرات تخنقه والزفرات تحرق مهجته وهو يتطلّع ببصره إلى الجبل الآخر المغطى بالثلج واسمه “بويوتيكاتل” الذي تفسيره (السحب). وهو جبل يقع على مقربة من “تيكاماشالكو” وتفسيره (الفم الذي قُـدّ من حجر).

هكذا مرّ بالأماكن المذكورة كلها وبالقرى وترك آثارا على الأرض وفي الطريق حسب ما قيل. ويقال أيضا أنه قد استبدّ به الفرح فصار يلعب ويمرح فوق جبل عال وأنه جلس على القمة وانحنى حتى لامس السهل. ثم هبط من الجبل. وهذا حدث مرات عديدة. ويقال إنه عمد، في مكان آخر، إلى ابتكار كبّة جوّفها وسوّاها من حجارة مربّعة الشكل في داخلها يمكن للناس أن يلعبوا لعبة “التلاشتلي”. وفي وسطها فتح ثلما أو علامة تسمى “تليكوتل”، فانفتحت الأرض في ذلك الموضع وصار جرف هائل. وعمد، في مكان آخر، إلى تصويب سهم نحو شجرة ضخمة تسمى “بوشوتل”. والسهم نفسه كان شجرة “بوشوتل” اخترقت الأخرى فاتخذتا شكل صليب.

ويقال أيضا إنه شيّد منازل تحت الأرض تسمى “ميكتلانكالكو” وهو ما تفسيره (بيوت الموتى). ويقال إنه نقل صخرة ضخمة جدا، وجاء فوضعها على نحو يسهل للمرء معه أن يحركها بخنصره. أما إذا اجتمع رجال عديدون ورغبوا في تحريكها فإنهم لا يتمكنون حتى من زحزحتها.

***

عديدة هي الأمور التي أتاها “الثعبان ذو الريش” في العديد من القرى. وكثيرة هي فعاله وصنائعه التي تستحق أن تذكر وتشهر. لقد سمى الجبال كلها، والهضاب والأماكن والبقاع دعاها بأسمائها. وعندما وصل إلى شاطئ البحر صنع لنفسه طوف ثعبان يسمى “كواتلابيشتلي” وهو ما تفسيره (لبوس الثعبان). وجلس فيه مثلما يجلس المرء في قارب. وواصل سفره في البحر الطامي. ولا أحد يعرف كيف أو بأية طريقة وصل إلى “تولا الحمراء”.

و61 وحين حان الحين، حين أزف الزمن المدعو “كواوتل إهووا”،ا

عندها، فوق هاتيك الصخرة المدوّرة،ا

الصخرة المعدّة للتضحية البطولية، أُظهروا للناس وبدوا للعيان؛

أولئك الذين سيجلدون أُظهروا للناس.ا

 و62 والذين كان الموت المحقق ينتظرهم، مطلوب منهم أن: “يقيموا السواري التي سيجلد عليها من سيجلدون.”ا

ل63 لقد جيء بهم إلى “يوبيكو”، معبد التولتيك.ا

ه64 هناك أُخبِروا بالطريقة التي يلزمهم أن يموتوا بها؛ مزقا مزقا قطّعت قلوبهم؛

ب65 استخدموا ترتيّة من الذرة التي لم تليّن بالدبق، استعملوا الـ”يوبي” ترتيّة حتى انتزعوا قلوبهم من الصدور.ا

ل66 لأربع مرّات أُظهروا قدّام الناس،ا

قدّام الناس أخرجوهم ،ا

 كي يراهم الملأ،ا

 كي يراهم الناس أجمعين،ا

 كي يصيروا معروفين للناس أجمعين.ا

  أ67 أعطوا لكل واحد منهم أشياء؛ أعطوا لكل واحد منهم ملابس من ورق.ا

ف68 في المرّة الأولى خلعت عليهم أشياء ليتحلّوا بها، كان لونها أحمر.ا

ص 69 صار لونهم أحمر.ا

ص70 صاروا حمرا.ب

م71 ملابسهم التي سويّت من الورق كانت حمراء.ا

ف72 في المرّة الثانية زينتهم التي قدّت لهم من الورق كانت بيضاء.ا

ف73 في المرّة الثالثة ساروا بملابس حمراء.ا

ف74 في المرة الرابعة كانوا بيضا.ا

أ75 أزفت الساعة فزيّنوهم،ا

حان وقت تقدمتهم قرابين فمنحوهم العطيّة الأخيرة،ا

 أُلبس من سيقدمون قرابين رداء التقدمة،ا

 ذاك الذي سيوصلهم فيه (المضحون) إلى مصارعهم،ا

ذاك الذي ستلفظ فيه آخر أنفاس (الضحايا)،ا

ذاك الذي سيجلدون فيه.ا

من أجل هذه المناسبة لبسوا زينتهم الحمراء.ا

ز77 زينتهم ماعادوا غيّروها: ما عادوا غيّروا زينتهم أبدا.ا

……………………………………….

م2917 معبد السينتيوتل الأبيض

م2918 معبد السينتيوتل الأبيض، هناك كان الأسرى يقضون نحبهم.ا

 أولئك الذين تقرّحت جلودهم،ا

م2919 ما كان أحد يرغب في أكلهم؛

بعد مصرعهم، كان الكهنة يوارونهم التراب.ا

 ل2920 لقد صرعوا  في أيام الصوم، أيام الصوم تمجيدا للشمس.ا

هناك كانوا يجمعونهم أجمعين،ا

الأسرى المقدَّمين أضاحي وقرابين.ا

 أولئك الألى يسمّون تلالوكس

……………………………………………..

ن3104 نحرا بعد تجميعهم أجمعين،ا

 نحرا كانوا ينحرون.ا

 إ3105 إربا إربا كانوا يمزّقون منهم الأجساد بعد طقوس النحر،ا

طهيا يطهونهم.ا

م3106 مازجين اللحم ببراعم الورد المهروسة، كانوا يطبخونهم.ا

و3107 وللنبلاء وأكابر القضاة كانوا يقدّمون الوليمة فيأكلون،ا

 باللحم البشري ينعمون؛

وحدهم الحكام بالوليمة جديرون، والعامة منها لا يقتربون،ا

 العوام لا يأكلون.ا

 وحدهم الحكام بالوليمة ينعمون.ا

From Fr. Bernadino de Sahagun, The Florentine Codex:  General History of the Things of New Spain, Book 2,:

 The Ceremonies. Arthur J.O. Anderson and Charles Dibble, trans. Sante Fe  School of American Research and the University of Utah Press, 1950-1982.

هذا النص مأخوذ من الكتاب الملعون. وهو كتاب حرصت الكنيسة على الاحتفاظ به في العتمة لتوقّي العالم المسيحي والناس أجمعين من مخاطره وفتنته. طيلة أكثر من قرنين ظلّ كتاب الراهب برنادينو دي ساهاغان يعتبر كتابا ملعونا، كتابا سرّيا أبعدته الكنيسة عن الأنظار. فلقد أجمع رجال الدين منذ سنة 1565م على أن سحره لا يقاوم. إنه كتاب فتنة وغواية. ومن يطّلع عليه لا يمكن أن ينجو من الوقوع في دائرة السحر والانقياد لإغواء  كبير المفسدين وزعيمهم بلا منازع: إبليس المكّار. ولذلك أيضا ظلّ الكتاب مخطوطا لا أحد من رجال الدين يجرؤ على التفكير في نشره حتى سنة 1829م تاريخ صدوره في المكسيك.ا

طيلة أكثر من قرنين لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة المجرّب إبليس وثبتوا الثبات كلّه في مجاهدته ومواجهة إغراءاته ووسوسته التي قلّ أن يثبت المرء أمام سطوتها.ا

لم يكن مؤلّف الكتاب، الراهب برنادينو دي ساهاغان، منشقّا على الكنيسة أو معارضا لها حتى يعتبر كتابه كتابا محرّما. بل كان رجل دين مسكونا إلى حدّ الهوس بالدفاع عن الكنيسة والتبشير بتعاليمها. ولم يكن أجنبيا يمكن أن يتحوّل إلى جاسوس يخشى منه على التاج الملكي. بل هو إسباني المولد والنشأة والتكوين. فلقد ولد سنة 11499. وحين بلغ الثانية عشرة من عمره أرسل إلى مدرسة مدينة سلامنكا وشرع في التعلّم. وعلى عجل التحق بكنيسة القديس فرانسوا. وهناك تشرّب التعاليم كلّها وحذق طرائق الرهبان في الالتفاف على الفعال التي تتعارض مع ما تدعو إليه الديانة من إخاء وتراحم. وعلى عجل أيضا تمرّس بالفتاوى والحيل التي كانت الكنيسة تبرّر بها مشاركتها في نسج فصول أشنع جريمة في تاريخ البشرية: إبادة سكّان أمريكا الأصليين.ا

سنة 1529م  وصل برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو التي نهبها الجند الغزاة ودمّروها تدميرا مروّعا، مكسيكو التي أطلق عليها الغزاة اسم “إسبانيا الجديدة” حتى يتسنّى لهم محوها من الدنيا محوا نهائيا. ولاستبدال الاسم دلالته الرمزية وطابعه الإشاري الفظيع على رغبة الغازي والمستعمر في قتل ذاكرة المكان ومحو تاريخه وتملّكه إلى الأبد. وبغريزة منقطعة النظير عرف الراهب المدجّج بالتعاليم التي تدعو إلى مجاهدة الشياطين والمردة وإبادة أتباعهم من البشر –عرف- كيف يلتفّ على الجريمة ويبرّرها. فلم يكن الراهب الذي نذر حياته للتبشير بالتراحم والإخاء ليغفر جريمة نكراء ما تزال خرائب مدينة مكسيكو تشهد على شناعتها وفظاعتها.ا

لذلك سيعمد، مختارا أو مأمورا من قبل رؤسائه من الكهنة، إلى التعجيل بتبرير ما حدث والإقناع بأن المذابح التي راح ضحيّتها السكّان الأصليون والمحارق التي أودت بأشدّ الأمم قربا من الطبيعة وتقديسا للأرض، ليست التجسيد المروّع الفظيع لما تنبني عليه مقولة التقدّم الغربي ومقولة التنوير من وحشيّة وفظاظة، بل هي نقمة السماء على أتباع إبليس الشرّير. والجند الغزاة المتوحشون الذين باركت الكنيسة صنائعهم وحبيت على ذلك من الذهب أكواما رصّعت بها تصاوير القدّيسين ورسومهم في كنائس إسبانيا كلّها، إنما كانوا يؤدّون واجبا مقدّسا. فهم فعلة اصطفتهم السماء كي تنزل العقاب بأتباع إبليس الرجيم. وما حصل للسكان الأصليين إنما هو الجزاء وبئس المصير.ا

هذه هي خطّة الكتاب الملعون. وتلك هي المنطلقات النظرية التي سيبني عليها المؤلّف برنادينو دي ساهاغان مجمل فصول الكتاب. إن الجريمة قد انطلقت من مكسيكو، وستطال القارة الأمريكية بأسرها وتمحو سكانها أمما وشعوبا وقبائل. لن تبقي ولن تذر. إنها جريمة بشعة شنيعة نكراء لا يمكن أن توصف لأن الذي حدث لم يكن غزوا بل إبادة شاملة. وعلى الراهب برنادينو أن يمدّ الكنيسة بما يعيد لها أمنها وطمأنينتها. عليه أن يكشف بما لا يدع مجالا للشكّ، بأن معتقدات السكّان الأصليين ودياناتهم ليست سوى أمارة على ما يمتلكه الشيطان من مقدرة فائقة على نسج المكائد، وفتل الأحابيل والألاعيب، ونصب الفخاخ التي يتصيّد بها أرواح بني البشر. وعليه أن يثبت قدّام العالم المسيحي بأسره أن آلهة السكّان الأصليين هي التي قادتهم إلى الأفول الجماعي لأنها ليست سوى أقنعة وتجلّيات لإبليس الرجيم.ا

 


1 Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, La Nouvelle Revue Francaise, novembre 1979, N=322.

غير أن الكتاب، ظلّ مع ذلك، عبارة عن سفر داخل مناطق بكر، مناطق الغريب والمتوحّش وما لا يقبل العقلنة والترويض. لقد استسلم واضعه لفتنة العالم الذي أرّخ له. لذلك كفّت الكتابة عن كونها مجرّد تأريخ للوقائع والأحداث والممالك وشهدت نوعا من التبدل الخطير. لقد صارت عبارة عن تطواف في مدائن السحر. ورهبان الكنيسة حين صادروه ومنعوا نشره  أو تداوله، إنما كانوا على يقين من أنه ليس كتابا في التاريخ بل هو مدائح وحكايات تضع من يتملاّها في حضرة ثقافة الهنود الحمر وهي تحلم ذاتها وتفكّر ذاتها.ا

وإنه لأمر مذهل مروّع، أن تلتقي في هذا الكتاب رؤيتان للعالم: رؤية الراهب برنادينو دي ساهاغان الذي سينتشل من النسيان الحضارة التي حكم عليها بنو قومه بالزوال والأفول، ورؤية الهنود المكسيكيين الذين كانوا يطرحون قدّام الراهب برنادينو كلّ أخبار عالمهم الذي هلك وجميع أساطيره وكنوزه وأيّامه. سيحدّثونه عن آلهتهم، عن طقوسهم، عن أخبار ملوكهم، عن بطولاتهم وأيامهم. سيحدّثونه عن الحرفيين الذين برعوا في نحت الحجارة وصقل الذهب، عن معارفهم في التنجيم والفلك وخبراتهم في صناعة الأدوية. لذلك سيشرع الكتاب الملعون في الاتساع والامتداد، ويكفّ عن كونه مجرّد كتاب في التاريخ ليصبح كتبا تتوالد غزيرة وتؤرّخ لحكاية لها امتداداتها ولها فصولها وتعرّجاتها.ا

والراجح أن برنادينو دي ساهاغان لم يكن على وعي بأنه كان يكتب موسوعة من أعظم الموسوعات وأكثرها دقّة وتفصيلا. يكفي أن ننظر في فهرس هذه الموسوعة وسندرك، في يسر، أنها تتّسم فعلا بالغنى والوفرة وتؤرّخ لعالم فتّان، عالم ساحر، عالم خلّاب أرغم على السقوط في العتمة:ا

فهرس الكتاب الملعون “التأريخ لأشياء إسبانيا الجديدة”:ا

ا1- الكتاب الأول: في الإخبار عن الآلهة التي كان السكان الأصليون الذين عمّروا هذه الأرض المسمّاة إسبانيا الجديدة يعبدونها.ا

ا2- الكتاب الثاني: في الإخبار عن التقويم الزمني والأعياد والطقوس والقرابين والاحتفالات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون يتقرّبون بواسطتها إلى آلهتهم.ا

ا3- الكتاب الثالث: في الإخبار عن أصل الآلهة التي كانوا يعبدونها.ا

ا4- الكتاب الرابع: في التنجيم التشريعي أو الإخبار عن فنّ العرافة والتنبّؤ الذي كان المكسيكيون يأتونه لمعرفة أيام السعد وأيام النحس، ولمعرفة أقدار الذين كانوا يولدون في تلك الأيام وما هي طباعهم ومميزاتهم الوارد ذكرها في هذا الكتاب. وهذا فنّ أدخل في باب العرافة والفراسة أكثر منه في التنجيم.ا

ا5- الكتاب الخامس: في ذكر التطيّر والفأل الذي كان هؤلاء السكان الأصليون يحدسونه عند رؤية بعض الطيور والحيوانات والحشرات ويتنبّؤون من خلاله بأمور المستقبل.ا

ا6- الكتاب السادس: في البلاغة وفلسفة الأخلاق والشريعة التي كان الشعب المكسيكي يدين بها، حيث نعثر على أمور في منتهى الغرابة تفصح عن جمال لغتهم ورونقها وأمور في منتهى الدقّة تتعلّق بقيمهم الأخلاقية.ا

ا7- الكتاب السابع: في الإخبار عن الفلكيات التي كان سكان إسبانيا الجديدة الأصليون قد توصّلوا إلى معرفتها.ا

ا 8- الكتاب الثامن: في الإخبار عن الملوك وأولي الأمر والطريقة المتّبعة في انتخابهم والطريقة التي كانوا يديرون حسبها شؤون ممالكهم.ا

ا 9- الكتاب التاسع: في الإخبار عن التجار والصيارفة والحرفيين الذين برعوا في نقش الذهب وصقل الحجارة وتسوية الريش النادر وتنضيده.ا

ا10- الكتاب العاشر: في ذكر رذائل هذا الشعب الهندي وفضائله، وذكر الأسماء التي كانوا يطلقونها على أعضاء أجسامهم الظاهر منها والباطن، وذكر  الأمراض والأدوية المضادّة لها، وفي الإخبار عن الأمم التي توارثت هذه الأرض.ا

ا11- الكتاب الحادي عشر: في الإخبار عن خصائص البهائم والطيور والأسماك والشجر والأعشاب والأزهار والمعادن والأحجار وذكر ألوانها.ا

ا12- الكتاب الثاني عشر: في الإخبار عن غزو المكسيك.ا

هذا الكتاب/الموسوعة سيتشكّل مأخوذا باستحضار ماضي الهنود الحمر في لحظة كان الهنود فيها قد صاروا ملكا للماضي. وصارت بطولاتهم وأمجادهم وأيّامهم مجرّد ذكرى. ومعها رحلت طقوس عبادة الشمس، رحل التطبيب بالأعشاب والنباتات. الأعياد التي تقام تمجيدا للحياة ولما تمتلكه الحياة من فرديّة وجاذبيّة وفتنة، سواء أعلنت عن نفسها في الآلهة أو في الإنسان والنبات والجماد، في الظلّ المفاجئ، في الصمت الرهيب في الأدغال والغابات، قد رحلت هي الأخرى إلى الأبد.ا

فحين وصل الراهب برنادينو دي ساهاغان إلى مكسيكو كان التشوّه قد أطبق على أرض المكسيك الحاملة أسرار الكون. لذلك ستصبح الكتابة نوعا من المقاومة لسطوة النسيان، ووقوفا في وجه الأفول. ولذلك أيضا سيلتقي في الكتاب صوتان: صوت الراهب الذي يحرص على الالتفاف على الجريمة ليبيّن أن ما حدث هو الجزاء الذي أعدّته السماء للقوم المارقين وبئس المصير، وصوت الذاكرة، ذاكرة الرواة من الهنود الحمر الذين سيشرعون في طرح كنوزهم قدّام الراهب ويحدّثونه عن أمجادهم وأيّامهم وآلهتهم. والذاكرة هنا ليست مجرّد إدراك يحفظ الوقائع والأحداث. إنها طاقة مقاومة لسلطة العدم وسطوته وطابعه الكاسر.ا

إن الطابع الموسوعي الذي اتسم به الكتاب الملعون “التأريخ العام لأشياء إسبانيا الجديدة”، لم يكن اختيارا أتاه المؤلّف. فلقد جاء برنادينو إلى المكسيك ليكتب كتابا في الموعظة والاعتبار. جاء ليدلّل على أن الشيطان هو الذي أضلّ السكّان الأصليين واقتاد خطاهم على الدروب التي أودت بهم إلى خرابهم. كان برنادينو دي ساهاغان رجل دين وصل إلى المكسيك غداة الغزو ليقوم بمهمّة تبشيرية. وكان يعتقد جازما أن ما حلّ بالهنود من دمار وويلات إنما هو القصاص الإلهي، “فالربّ قد ابتلى الهنود الوثنيين واقتصّ منهم على يد الجند المسيحيين. وذاك جزاؤهم وبئس المصير.” كما يقول في الفصل الأول.2د

لكنه يعترف، مع ذلك، في الفصل الثامن والعشرين من كتابه بأن الحضارة الغربيّة قد حملت معها بذرة الفساد والشرّ إلى عالم الهنود. يكتب معترفا: “وإنه لعار علينا أن حكماء الهنود وكهنتهم قد نجحوا في إيجاد الأدوية الناجعة للقضاء على الآلام والشرور التي تعجّ بها هذه الأرض … أما نحن فقد صرنا ننقاد طائعين لميولاتنا الشائنة. وإنّا لنشهد اليوم نشأة جنس من الهنود والأسبان صعب المراس يعسر إنقاذه. فما عاد الآباء والأمهات قادرين على السيطرة على أبنائهم وبناتهم ومنعهم من الانغماس في الرذائل والملذّات التي تعجّ بها هذه الأرض.”3د

وهو يورد في كتابه بعضا من خطبه الوعظيّة التي كان يحرص فيها على جعل الهنود الناجين من الإبادة يتبرّؤون من تراثهم وثقافتهم ودياناتهم. من ذلك مثلا أنه كان يعلّمهم أن آلهتهم ليست سوى أقنعة لأبالسة الجحيم وللمردة والشياطين. كان الهنود يعتقدون أن “كتزلكواتل” وهو ما تفسيره “الثعبان ذو الريش” إله سيّد سيعود إلى الأرض ليخلّص العالم وينقذ الأرض من أوجاعها والناس من محنهم ونكد أيّامهم. وكان برنادينو دي ساهاغان يعلّمهم في شأنه قائلا: “إن ما يزعمه أجدادكم من أن كتزلكواتل قد ذهب إلى تلابلان، وأنه عائد لا ريب في عودته، وعليكم انتظار مقدمه، ليس سوى أراجيف. إننا على يقين من أنه هلك. جسده في الأرض قد تفسّخ وانحلّ. أما روحه فإن الربّ إلهنا قذف بها في غياهب الجحيم حيث تصلى من العذاب الأبديّ ألوانا… أجدادكم أجمعين قد عانوا من الحروب التي لا تبقي ولا تذر، قاسوا الويلات من المجاعات والمذابح. وكي تكون نهاية لكل هذا، أرسل الربّ جنده من المسيحيين فأبادوهم على بكرة أبيهم، هم وآلهتهم.”4د

كان الراهب برنادينو على يقين من أنه يمتلك الحقيقة. لكن فصول الكتاب كثيرا ما طفحت بمسحة من الحزن والشفقة. وكثيرا ما تحوّلت الشفقة إلى تفجّع يكشف تعاطفه مع الأمم والشعوب التي حكم عليها بنو قومه من الجند الغزاة الغربيين بالموت والزوال. ولذلك أيضا كثيرا ما يتحوّل التفجّع بدوره إلى نوع من النوح المكتوم.د

منذ الكتاب الأول  تسلّل الحزن إلى صوت الراهب الذي جاء إلى مكسيكو مدجّجا ببرد اليقين فكتب متأسّيا: “آه عليك ! يا أشدّ الأمم حزنا. يا لحظّك العاثر من دون الأمم!” هذا التأسي الذي سيظلّ يستعاد ويخترق الكتاب في أكثر من موضع، إنما يشير صراحة إلى أن برنادينو كان يصدر عن ضمير معذّب، ضمير رجل يدرك أن الجريمة التي حصلت لم يعرف التاريخ لها مثيلا. ضمير راهب ظلّ يحتمي بتعاليم الكتاب المقدّس كي يلتفّ على الجريمة ويسميها جزاء أو عقابا ربّانيا. لكنه كان على يقين أيضا من أن ما ورد في الكتاب المقدّس من أخبار الملوك الأوَل وتدمير سدوم الضالّة كان أقل فظاعة وأقلّ ويلا من التدمير الذي عصف بالسكان الأصليين وحضارتهم.د


2  M.G. LE CLEZIO, LE REVE MEXICAIN OU LA PENSEE INTERROMPUE, PARIS: GALLIMARD,1988, P68

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د3  أورده

65  ص ، J. M.G. LE CLEZIO  :د4  أورده

حتما كان الراهب برنادينو دي ساهاغان على دراية بما حدث. وحتما كان على بيّنة أيضا من أن الإبادة لم تكن عسكرية فحسب. فلقد تمّت إبادة كل من سوّلت له نفسه مقاتلة الجند الغزاة. أما الناجون من المحارق والمجازر، فلقد تمّ استعبادهم على نحو يجعل المرء يخجل من انتمائه للجنس البشري. فحين انهزم امبراطور الأزتيك مكتزوما وأذعن للقائد العسكري هرنان كورتيس، أمعن كورتيس في تعذيبه وإذلاله وإهانته والسخرية منه قدّام بني قومه. فلم يكن من مكتزوما الامبراطور الذي كان يجسّد، قبل مجيء أبناء الحداثة الغربية، الملك العظيم لأبهى حضارة من حضارات الأرض قاطبة –لم يكن منه- إلا أن قال مخاطبا القائد الغربي المتوحّش كورتيس: “قل لي ماذا تريد مني أن أفعل معك أكثر مما فعلت لأني لم أعد أرغب في الحياة أصلا.” وكانت تلك آخر جملة لهج بها قبل أن يلقى حتفه.ا

بمثل هذه العبارة التي تكشف إلى أي حدّ يمكن أن تداس الكرامة البشرية لهج البطل الصنديد كيوهتيموك. فلقد خلَف هذا البطل الامبراطور القتيل وتزعّم حركة الصمود مؤجّلا -ولو إلى حين- الدمار القادم. وحين أيقن الجند الغزاة أن مواصلة الحرب ستكلّفهم خسائر فادحة، لوّحوا بالسلام وعرضوه على هذا البطل الذي دوّخهم. فجمع البطل الشاب جميع القبائل من بني قومه المتحصنين داخل أسوار مدينة مكسيكو، وحدّثهم هكذا: “إنه لحريّ بنا جميعا أن نموت، وأفضل لنا أن نهلك في هذه المدينة من أن نستسلم للّذين سيجعلون منّا عبيدا لهم وينكّلون بنا من أجل الذهب.”5د

يحدث الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو في كتابه “الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا” عن كورتيس قائلا: “وإنه لمن غريب الصدف أن يحظى كورتيس هذا المغامر المتحدّر من العصور الوسطى، هذا القائد الحربي عديم الذمّة بدعم أكبر ملوك النهضة الأروبيّة الامبراطور شارل كينت. لقد كان كورتيس يعلم إذن أنه لا يقود خمسمائة جندي فحسب بل إنه في طليعة العالم الغربي والمسيحي، حتى لكأنه رأس الثعبان الملقّب بالهدرة، الثعبان ذو التسعة رؤوس أو لكأنه أكثر ألسنة الثعبان امتدادا، تلك الألسنة التي ستلتهم العالم.”6د

ففي سنة 1530 بعد عمليّة الإبادة والتدمير مباشرة، وصل إلى المكسيك المستشار الأسباني ساينوس فانخلع قلبه من هول ما رأى. لقد وجد الهنود يعانون من المجاعة والأوبئة. “وطيلة سبع سنوات من حكم إدارة القائد هرنان كورتيس تمّ استعباد الهنود الناجين من الموت. لقد أرغموا على العمل في المزارع، وفي المدن، وفي مناجم الذهب ومناجم الفضّة أكثر من اثني عشر ساعة في اليوم دون أجر. وبالإضافة إلى الضرائب التي فرضها التاج الأسباني عليهم، كان كلّ واحد من أتباع القائد كورتيس يغنم من الهنود في كل يوم ستّ دجاجات، وعددا وفيرا من الطرائد، وكيسا من الذرة الصفراء، والشوكولاطة والبهارات، وتسعين بيضة.” ويذكر الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه ” الحلم المكسيكي أو الفكر معطّلا ” نقلا عن جوزيه ميراندا في كتابه “ضريبة السكان الأصليين في اسبانيا الجديدة” أنهم “أرغموا قهرا على دفع الخمس من مداخيلهم ضريبة للملك، وما يعادل الخمس نصيبا للملكة وما تبقّى يدفعون منه ضريبة الحرب وضريبة البيع والشراء وضريبة التنقّل.”7د

وإنه لمن التبسيطيّة أن نعتبر موقف برنادينو دي ساهاغان موقفا فرديا، ونرجع ما طفح به كتابه من شفقة وعذاب ضمير إلى كونه رجل دين يدرك تماما أن ما حدث في مكسيكو لا يخصّ الهنود الحمر وحدهم بل يخصّ الشرط الإنساني في جميع الأزمنة ويتعارض مع تعاليم الديانة. فلقد غنمت الكنيسة نفسها من حملات الغزو المتتالية غنائم تفوق تلك الكنوز التي طرحها إبليس المكّار قدّام المسيح ليجرّبه ويغويه. والكنائس المحلاّة بالذهب في اسبانيا ما تزال تروي إلى اليوم فظاعة ما حدث، وتشهد بحجم الغنائم وخسران بني البشر.ا

إن الراهب برنادينو دي ساهاغان إنما يجسّد الضمير الغربي المؤجّل دائما. لقد تمّت الإبادة ونسجت المأساة جميع فصولها… ثمّ تحرّك الضمير الغربي. والضمير، في جميع الحملات الغربية، منذ الهنود، ومنذ فلسطين القابعة في ظلمة، وصولا إلى مدينة السلام وما سيأتي من ويلات، الضمير الغربي، يكون دائما مؤجّلا. تُمنح المآسي فرصتها، وتنسج جميع فصولها، ثم يتحرّك الضمير. وموقف برنادينو، سواء حين يدين الهنود ويعتبرهم أتباع الشيطان أو حين يتأسّى على مصيرهم ويحاول انتشال من تبقّى منهم، إنما هو التجسيد الفعلي لموقف الانسان الغربي المعاصر سليل عصر الأنوار وابن الحضارة الغربية الذي يظل يلوّح بالقيم الانسانية ويبشّر بها عاليا. ثم يشرع في دوسها جميعا حالما يتعلق الأمر بتحقيق الغلبة والتسلّط والربح.ا


أ5  نفسه، ص 50

أ6  نفسه، ص 19

JOSE MIRANDA, LE TRIBUT INDIGENE DANS LA NOUVELLE ESPAGNE, 1952, P 51 :أ7 انظر على التوالي

انظر أيضا:  لوكلوزيو، الكتاب المذكور، ص 33-34.أ

منذ الكتاب الأول طفح الكتاب/الموسوعة بنبرة الافتتان وصار برنادينو دي ساهاغان يحدّث عن لغة المكسيكيين لا باعتبارها مجرد أداة تواصل بل باعتبارها كنزا لا ينضب. يكتب واصفا لغة المكسيكيين “إنها كنز وسبيل مؤدية إلى تحصيل أمور، ومعرفة أمور جديرة بأن تحصّل وتحفظ.” لقد جاء الراهب ليلتفّ على الجريمة ويبرّر ما حدث. لكنه سرعان ما استسلم لحديث الرواة، وصار يصدر أحكاما تكشف افتتانه بدنيا السكان الأصليين، وتفضح تعاطفه معهم وانبهاره بقيمهم، وتكشف إعجابه بعالمهم، وانخطافه بالبهاء الذي سيّجوا به حياتهم وطريقة مقامهم على الأرض. لقد صار الراهب يحدّث متلقّيه المفترض قائلا إن الغاية من كتابه إنما هي “معرفة قيمة هذا الشعب المكسيكي، قيمته التي لم يقع الاعتراف بها إلى حدّ الآن.”8

لم يكن الافتتان مجرد صدفة إذن. إنه جزء من مفاجآت الطريق في رحلة التأريخ لحضارة حكم عليها بنو قومه من أبناء أروبا المأخوذة بفكرة التقدّم بالأفول والتلاشي والزوال. وهو التجسيد الفعلي لما لم يكن في حسبان الراهب أعني الوقوع في دائرة الفتنة. والفتنة هي، في نهاية التحليل، وضع يدرك بالحال لا بالمقال. بل إنها حال تعني الخروج عمّا هو معتاد ومألوف. وهي خروج إلى غير ما كانت الذات عليه قبل حدوث مفعول الفتنة. إنه الخروج من عقال الوعي وأسيجة العقل أي الخروج من الحضور والتطابق، تطابق الذات مع وعيها الذي تعتقد أنه صميمها. بايجاز: إنه الخروج من الهوية نحو ما هو مخالف ومغاير وغريب.ا

 هذا ما ستدركه الكنيسة. وهذا ما سيجعلها تعتبر الكتاب كتابا ملعونا وتحتفظ به في الظلام طيلة أكثر من قرنين، فلا تسمح لأحد بالاقتراب منه باستثناء بعض الرهبان من التقاة الورعين الذين لا يخشى عليهم من الفتنة.ا

لذلك سيذهب الروائي الفرنسي لوكلوزيو في كتابه “الحلم المكسيكي” إلى أن برنادينو دي ساهاغان كان مأخوذا إلى حدّ الهوس بالبحث عن العبرة الكامنة وراء ما لحق بالهنود الحمر من دمار وإبادة لأن “فهم السرّ الكامن وراء هذا القضاء الذي نزل على الهنود أمر من شأنه أن يمكنه من ملامسة اللغز المتستّر على نفسه في صميم  المصير المعدّ للبشر أجمعين. ثمّة في تلاوين هذه الصفحات المثقلة بالأحداث الواقعيّة شيء مدوّخ حتى لكأن برنادينو دي ساهاغان قد كان يفتتن الافتتان كلّه بالماضي المجيد، ماضي ذلك الشعب الذي تمّ تحطيمه إلى الأبد فيما هو يكتشف عالم الهنود… لقد كان يوضع، فيما هو يبحث عن جذور الهنود، في حضرة جذوره هو وقدّامها. وهذا هو ما شدّه شدّا إلى ذلك العالم الغني بالأساطير وبالعظمة والمجد.”9ا

فلقد كان الراهب برنادينو المدجّج بالتعاليم الدينية على يقين من أن الشكّ هو الطريق إلى الجحيم، وهو السبيل المؤدّية إلى التهلكة. إن مجرّد الشكّ في أن ما حدث ليس لعنة مقدّرة من السماء بل هو أمارة على جشع أروبا المتحضّرة ودليل على لاإنسانية الجند الغربيين الغزاة، وتوحّشهم لا يمكن أن يكون إلا أمارة على أن إبليس الرجيم بدأ ينسج أحابيله ويتسلّل إلى قلب المؤمن ليوسوسه ما يحبّ ويحرمه من برد اليقين. لذلك سيظل يلحّ على أن جميع آلهة الهنود الحمر مجرّد أقنعة للمردة والشياطين والسحرة، واعتقاداتهم كلّها إنما هي مجرّد أراجيف. فهم يدّعون أن “تيزكاتليبوكا” إله شرّير “يزرع الفتن” ويتقرّبون منه خشية سطوته وفعاله. والحال أنه، في نظر الراهب برنادينو مجرد تجسيد للشيطان الذي لعن في بدء الزمان. أما ما يدّعونه من أنّ “كتزلكواتل” إله اختفى واحتجب عن الأنظار وسيعود إلى الأرض ليملأها بالدعة والطمأنينة والأمن فإنه تجديف محض. “إن “كتزلكواتل” مجرّد إنسان من لحم ودم، إنسان فان مثل البشر أجمعين، وما يزعمونه من أنه كان خيّرا طيّبا ليس سوى دليل على أنه ساحر مراء وخلّ ودود لإبليس.” هكذا كان الراهب يرصّع كتابه بالأحكام.ا

ثمة في هذه الحكايات والأخبار والأساطير التي كان الرواة يطرحونها قدّام الراهب برنادينو دي ساهاغان منطق داخليّ. ثمّة بهاء. ثمّة روعة تخلب العقول. ثمّة جاذبية وسحر. وهذا كله هو الذي جعل الراهب يحتمي بالسماء ويلوذ بالكتاب المقدس محاولا أن يفسّر الأحداث والوقائع وفق طريقة تقيه من الوقوع في دائرة السحر. لذلك سيعمد إلى تأوّل تاريخ بلاد الهنود الحمر، ويصنّف آلهتهم ويفهم كنهها في ضوء قناعاته ومعارفه. فيصبح الكتاب مجمعا للذاكرة. فيه يمتزج الحديث عن الامبراطوريات المتعاقبة بالحديث عن ألاعيب الآلهة ومكائدها وكنهها وكيفيّات تجلّي الربّ الإله من خلالها لتسطير أقدار السكان الأصليين وإدارة مصائرهم.ا

يحدّث برنادينو عن المدائن التي شهدت نشأة الامبراطوريات المتعاقبة وتحوّلت إلى عواصم كبرى، فيذكر أخبار مدينة “تيوتيهواكان” ويشبّهها بطيبة التي كانت في مصر. ويحدّث عن أخبار مدينة “تولا” وهي في نظره تشبه طروادة إلى حد بعيد. ويقول عن مدينة “شولولا” إنها تشبه روما. أما مكسيكو فإنها في نظره على شبه كبير بالبندقية. ويعتبر الإله “هويتزيلوبوشتلي” صنو الإله مارس والإله “كتزالكواتل” صنو هرقل. إنه يتعرّف على الآخر المختلف من خلال الذات. وبذلك يمحو الاختلاف ويقضي على التغاير فيلبّس هذا الآخر المدان بعضا من ملامح الذات ومعارفها وخبراتها وتاريخها حتى يتسنّى له تدجينه والحدّ من توحّشه. لذلك يعمد إلى تأوّل نشأة هذه المدن وخرابها لا في ضوء تاريخها الخاصّ بل في ضوء منطلقاته الدينية وتعاليمه الكنسية. فيذهب إلى أن سقوط امبراطورية “تولا” إنما هو التجسيد الفعلي لإرادة الربّ الإله. فالربّ الإله قد تجلّى للهنود مؤسسي “تولا” وصانعي أمجادها في صورة إلههم “كتزلكواتل” ثم سرعان ما تخلّى عنهم ووقف يشدّ أزر من سيرثون المجد من بعدهم وهم الأزتيك الذين تجلّى لهم في صورة الإله “هويتزيلوبوشتيلي”، فملكوا البلاد وسادوا على العباد واستبدّوا، وما كانوا يدرون أنه كان يمهلهم إلى حين.ا

هكذا حرص الرّاهب برنادينو دي ساهاغان في كل تأويلاته على بناء نسق من التحليل يتماشى مع قناعاته الدينية فيجزم “بأن الرّب الاله، الاله الحقّ، هو الذي اختار أن يتجلّى للهنود الحمر على ذلك النحو ويكشف لهم بعض الحقائق، ويمدّهم ببعض الهبات، وتلك مشيئته وأسراره المحفوظة.”10 وهو يستشهد بحشد من الأساطير الهنديّة التي تجمع كلّها على أن الانكسافات والخسوف وتساقط المذنّبات والنيازك بين الحين والآخر ليست سوى  علامات الأفول الآتي. تحدّثنا بعض الأساطير عن امرأة كلّمتها الآلهة قائلة في صوت واحد: “كفّوا عن تقديم الأضاحي ولا تأتوا بقرابينكم، لأنه من الآن فصاعدا هكذا يكون: الطبول يجب أن لا تقرع، كلّ شيء سيدمّر، لن تكون هناك معابد ولا محارق مقدّسة. سوف لن يتصاعد دخان البخور بعد اليوم. يجب أن يكون كلّ شيء يبابا. أناس آخرون من طينة أخرى سيأتون إلى الأرض.”11

ويروى أيضا “أن الناس ظلّوا لمدّة طويلة يسمعون أصواتا تهتف من كلّ الجهات منذرة الهنود الأزتيك وملكهم بالويل والثبور والأفول الآتي.” وقبل وصول الجند الأسبان بقليل كثرت العلامات المنذرة بالأفول. من ذلك أن “نفرا من الناس تمكّنوا من القبض على طير فظيع الطلعة، كريه المنظر، فحملوه إلى الامبراطور “مكتزوما” وكهنته.” كان الطائر “يحمل على رأسه مرآة، وعلى أديم تلك المرآة كانت الشمس تنعكس، وكانت تميد وترتعش مرسلة نورا مشؤوما الشؤم كلّه وكئيبا جدّا.”12


ا8  نفسه، ص 61

ا9 أورده لوكلوزيو, ص 62

ا10  ميشال بيتور، 176

ا11 أورده لوكلزيو, ص 27

ا12 أورده لوكلزيو, ص 27

من هنا يستمدّ الكتاب الملعون البعض من سحره وجاذبيّته. ومن هنا يتولّد جانب هام من فتنته. إنه لا يؤرّخ للوقائع والأحداث، للأساطير والحكايات والديانات بل يظلّ يتّسع ويمتد فيمتزج فيه الواقعي بالخيالي والأسطوري، ويتماهى البسيط العادي المتعارف مع الغريب والمفارق والمدهش. والناظر في هذا القسم الذي قمت بترجمته عن الفرنسية يلاحظ في يسر أن الراهب سيظلّ وفيا لمنطلقاته وقناعاته الدينية. فلقد جاء إلى مكسيكو ليلتفّ على الجريمة ويبيّن أن إبادة الهنود الحمر كانت الجزاء الذي أعدته السماء للقوم الكافرين. لذلك سيشير إلى آلهة الهنود بعبارة “سحرة” لأن تلك الآلهة في نظره ليست سوى تجلّيات وأقنعة للشيطان زعيم المفسدين وقائدهم الأمهر وحامل لوائهم على الأرض في الأزمنة كلّها.ا

أما الرواة الهنود فإنهم سيطرحون قدّام الراهب المدجّج بالتعاليم الدينية الكنسيّة كنوزهم ويحدثونه عن عالمهم. سيخبرونه عن الكون طفلا، عن البهاء الذي سيّجوا به حياتهم، عن الجمال الذي أثّثوا به الدنيا من حولهم. وفي حين ينعت الراهب برنادينو دي ساهاغان الإله “كتزلكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) بكونه مجرّد ساحر أضلّ الناس في امبراطورية “تولا” فألّهوه وعبدوه وهو الذي قادهم إلى خرابهم عندما فشل في مواجهة آلهة آخرين ينعتهم أيضا بالسحرة ويقول إنهم جاؤوا وأهلكوه هو وأتباعه من التولتيك، يتحدث الرواة الهنود عن “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش) باعتباره الإله الأكبر الذي عُبد ومُجّد في “تولا”.ا

ثم كان أن الإله المدعوّ “الضريس اليسراوي” والإله المسمّى “سيدنا جميعا” والآخر المدعو “وتلاكوبان” جميعهم تآمروا على إله التولتيك (الثعبان ذي الريش) وأمعنوا في الكيد له فأهلكوا جميع أتباعه حتى راعه ما حدث وامتلأ قلبه بحزن لا ينضب. وكان أنهم واصلوا الكيد وفتل الأحابيل حتى أرغموه على الرحيل فركب البحر ومضى إلى المجهول. لكنه سيعود في نهايات الزمان ليسود. ومعه سيأتي قوم من الآلهة “التول” ليتولّوا الحكم فيهم. و”الثعبان ذو الريش” هو الذي سيقودهم ويتقدّمهم ساعة يحين موعد مجيئهم من هناك، من حيث تشرق الشمس، من هناك حيث يلتقي البحر والسماء ويغدوان واحدا. لأنه مكتوب أنهم من هناك يأتون. ولا رادّ لهذا القضاء. لا مهرب أيضا، لأنه مكتوب أيضا أن “كتزلكواتل” (الثعبان ذا الريش) هو الذي سيكون رفيقهم ودليلهم وقائدهم إلى أرض مكسيكو ومدائنها.ا

لم يكن الرواة الهنود يقدّمون للراهب مادّة تاريخية عن عالمهم بل كانوا يمدّونه بتلك الحكايات والأساطير وكانوا يقومون، في الآن نفسه، بتفسير ما حلّ بهم وبعالمهم من دمار. إن خراب مكسيكو، في تصوّرهم، لا يدلّ على تفوّق الجند الهمج الغزاة لأن ما حدث إنما هو القضاء المحتوم الذي لا مفرّ منه. ذلك أن نشأة الأمم وازدهارها، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى خرابها وزوالها وأفولها، إنما يتولّد عن صراع الآلهة. وحين تنهزم آلهة قوم وتولّي الأدبار هاربة أو تهلك وتزول يكون خراب أتباعها من الناس مسطّرا محتوما. والجند الأسبان الغزاة إنما جاؤوا في عهد الأزتيك أيّام ملك الامبراطور “مكتزوما” ليمنحوا ما كان مسطّرا محفوظا فرصة التحقق.ا

وهذا يعني أن خراب سكان مكسيكو ودمار عالمهم إنما يرجع إلى صراع الجبابرة من الآلهة. لأنه مكتوب أن الأيام والحيوات والأمجاد هبات تداولها الآلهة بين الناس: فالتولتيك سادوا قبل الأزتيك وعمّروا البلاد وملأوا الدنيا بالبطولات والفخار والأمجاد ثم هلكوا حين انهزم إلههم “الثعبان ذو الريش” ولاذ بالفرار. أما خراب الأزتيك ودمار مكسيكو فإنه، هو الآخر، حدث جلل آت في نهايات الزمان. وهو قضاء مؤجّل وأمر محتوم سيتحقّق عندما يعود “الثعبان ذو الريش”، ويصطحب معه قوما من “التول” أي الآلهة. حتما سيأتي هؤلاء “التول”. وحتما سيطلبون ما به وُعدوا: السيادة والملك. والإله الملقّب “كوتزالكواتل” الذي تفسيره (الثعبان ذو الريش) كان الهنود يصوّرونه في شكل “ثعبان ضخم عظيم جدّا جسده محلّى بريش طير الكوتزال. وحين يرسمونه فاتحا شدقيه يتراءى في حلقه وجه بشريّ.”ا

هذا النص الذي قمت بترجمته، مقتطع من كتاب برنادينو دي ساهاغان، نقله إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي ميشال بيتور13 وهو يحمل عنوان “مكائد تيتلاكواكان” ويروي ما جرى بين “الثعبان ذي الريش” الذي مجّده التولتيك وعبدوه في بدء الزمان، والآلهة التي سترث الحياة والمجد والملك من بعده وتنعم بها على الأزتيك سكان مكسيكو الذين سيبيدهم الجند الغربيون الهمج. وهو يروي أيضا ما كان من أمر الإله “كتزلكواتل” (الثعبان ذي الريش)، وما كان من أمر أتباعه وكيف هلكوا وبادوا. والراهب برنادينو دي ساهاغان يستبدل كلمة “إله” بكلمة ساحر، كي يظلّ وفيا لقناعاته ومنطلقاته الدينية ويقي متلقيه المفترض من الفتنة.ا

يبدأ نص “مكائد تيتلاكواكان” بالحديث عما كان في البدء ويرسم عالما مسيّجا بالبهاء، عالما فاتنا لا نوح فيه ولا وجع ولا موت. وإنما هو نشوة وغبطة والكون طفل. إنه فردوس البداية الذي كان أيّام كانت الحياة قد ولدت للتوّ هشّة طريّة مشتهاة. غير أن الحديث عن الفردوس يأتي مسكونا بنوع من الوعي الفاجع بالمصير. فثمة في هذا النص تسليم بأن الوجود والرعب صنوان. بل إن الرعب هو صميم الوجود وجوهره. ثمة وعي بأن الزوال هو وحده ما يبقى على الدوام. والنص لا يرسم الفردوس باعتباره عالما سماويا مفارقا بل يلحّ على أنه عالم أرضيّ هنا كان. وهو ما يفتأ يكون هنا أيضا. فالآلهة نفسها‘ في نظر الوثنيين، إنما تقيم على الأرض وتحيا مستأنسة بالبشر، بل إنها ظلّت تشاركهم أحزانهم وأيام أعيادهم. يحدّث الراهب برنادينو دي ساهاغان عن هذا الأمر مفتونا فيكتب: “وكانوا يزعمون أن الجبال العظيمة، لا سيما تلك التي تكللها السحب، إنما هي من الآلهة. وكانوا يصوّرون كل واحد منها تصاوير تجسّد كيفيات تمثلهم لفعالها.” وكان الكهنة يجسّدون تلك الآلهة ويلبسون لبوسها ويطلعون على الناس في أيام الأعياد. فيسبّح القوم قائلين: ها آلهتنا تحلّ بيننا. فطوبى لنا! ها أن آلهتنا تصل فالمجد! المجد!”ا

و النص، حين يرسم فردوس البداية الذي كان التولتيك ينعمون فيه لا يكدّر صفو حياتهم أي حادث ثم يشرع في الحديث عما آل إليه أمرهم من خراب، لا ينشد عبرة أو موعظة بل يريد أن يلحّ على أن الذي كان هو الذي يكون. إنها أيام تتوالى. دول تنشأ وتهلك. ووحده الزوال هو الأبقى. لذلك يشرع في الحديث عما كان من أمر التولتيك وأمر إلههم “الثعبان ذي الريش” في نبرة تجمع إلى السخرية الوجع والألم. إن الآلهة التي ستعبد وتمجّد في مكسيكو هي التي ستقضي على “الثعبان ذي الريش” وتهلك أتباعه. وسيتزعم تلك الآلهة الإله الماكر الذي برع في حبك المكائد وأتقن نصب الفخاخ وفاق غيره في فتل الأحابيل. إنه “تيتلاكوكان” العظيم الذي تفسيره “المرآة ذات الدخان”، وهو الإله الذي وهب الأزتيك المجد والملك والعظمة. لذلك كانوا يلقبونه “سيّدنا جميعا”.ا

غير أن برنادينو دي ساهاغان ينعت هذا الإلة بكونه مجرّد ساحر مكّار. ويلحّ على أن الهنود الأزتيك يعتقدون أنه “هو الذي خلق السماء. والأرض سوّاها. وهو الذي وهب كل نفس حية رزقها: أكلا وشرابا ونفائس لا تحصى. وكان هذا المسمّى “تيتلاكواكان” محتجبا عن الأنظار لا يرى. إنه شبيه بالظلّ أو بالريح. أما إذا ظهر وكلّم الناس فإنه يتجلّى في شكل ظلّ… وكان أتباعه من الازتيك يمجّدونه ويؤلّفون مدائح ترفع تمجيدا لاسمه هـكذا: “يا سيّد! يا سيّدنا جميعا! تحت جناحيك العظيمين ملاذنا ومأوانا، تحت جناحيك العظيمين قاتلنا ودرأنا الشرّ عنّا، إنك المحتجب، إنك من دقّ لجلالته أن يلمس، كالليل أنت، كالريح أنت…”.ا

إن نص “مكائد تيتلاكواكان” يكشف ما للأساطير القديمة من سطوة على واضعيها وعلى متخيّل الشعوب التي تظلّ تتوارثها جيلا بعد جيل. والحكايات والوقائع الواردة في النص لا تستمدّ عنفها ومضاءها مما تتوفّر عليه من فتنة وجاذبية وبهاء فحسب، بل تستمدها أيضا من كونها قد اضطلعت بأشد الأدوار خطورة في تحديد مصير الهنود الحمر وقدرهم العاتي الذي سيظلّ يلطّخ بالعار تاريخ الإنسان الغربي “المتحضّر!” ويكشف ما ينبني عليه تاريخ الجنس البشري كله من جريمة ودم وخسران.ا


13  Michel Butor, Les Farces de Titlacaucan, P 179-192 أ

يروي نصّ “مكائد تيتلاكواكان” كيف ستتمّ الإطاحة بـ”الثعبان ذي الريش”. ويذكر ما كان من أمره وأمر المكائد التي نصبها له الإله “تيتلاكواكان” الذي تفسيره (المرآة ذات الدخان/سيدنا جميعا) ويحدّث عن كل ذلك هكذا:ا

في الإخبار عما كان من أمر “الثعبان ذي الريش” الساحر الأكبر، وهو صنو هرقل عند الهنود الحمر، وأين ساد وملك وإلى أين انتهى

اعتبر”كتزلكواتل” من الآلهة، وعبد في “تولا” في الأزمنة الخوالي. كان له معبد عالي البناء صعب المرتقى تقود إليه مدارج ضيّقة جدّا اتساعها أضيق من قدم. وكان تمثاله موفور العناية مغطّى بالأقمشة، ووجهه في منتهى البشاعة. وهو ذو رأس كبيرة شعثاء. وسدنته كانوا جميعا مختصين في الفنون والصناعة بارعين في صقل الحجارة الخضراء المسماة “شالشيهويتس” وفي صهر الفضّة والمعادن. وهذه الفنون كلها إنما علّمهم إياها “الثعبان ذو الريش”.ا

وكانت له منازل بعضها مشيّد من الحجارة الكريمة الخضراء الشالشيهويتس، وبعضها الآخر قُدّ من الفضّة. وله أيضا منازل أخرى بنيت من اللؤلؤ الأحمر والأبيض. وله غيرها مقاما من الأصداف ومن أحجار اليشب. وكان سدنته يخدمونه بسرعة منقطعة النظير. والهنود يدعونهم “تلانكاسيميلهويتيم” وهو ما تفسيره (الذين يقطعون مرحلة في كلّ خطوة). وثمة جبل يحمل اسم “تزاتزيتيبتيل” الذي تفسيره (تلّة المناداة)، وهذا هو اسمه إلى يوم الناس هذا. ومن هناك، من أعلى الجبل كان المنادي يرفع صوته بالنداء ليدعو سكان القرى النائية التي تبعد عن المعبد مائة ميل. وهم يسمّون هذه القرى “أناهوياك” وهو ما تفسيره (ضفة البحر). كان السكان يسمعون المنادي، وعلى عجل يأتون ليتبيّنوا ما الذي يبتغيه منهم “الثعبان ذو الريش”.ا

ويروى أيضا أنه كان ثريا الثراء كله. وهو المملّك على الطعام والشراب. لقد كانت الذرة الصفراء طيلة أيام ملكه وفيرة، والقرع ضخما يبلغ طوله ذراعا، وسبلات الذرة الصفراء كبيرة إلى درجة لا يمكن معها إلا أن تمسك بها بكلتا يديك، وقصب سنابل القمح كان من الطول والعرض حتى أنه يمكن للمرء أن يتسلقه مثل جذوع الأشجار. وكان الناس يزرعون ويجمعون القطن من جميع الألوان: الأحمر والقرمزي والأصفر والبنفسجي والأخضر والأزرق والأسود الداكن والبرتقالي والأصهب. وكانت هذه الألوان كلها طبيعية. فالقطن هو الذي كان يولد من الأرض هكذا. وكان الناس في بلاد “تولا” هذه يتولّون تربية أنواع عديدة من العصافير ذات الريش النفيس: العصفور الأزرق والكاتزال والزاكون والعصفور الأحمر وغيرها من العصافير التي كانت تغني بكل عذوبة.ا

وفوق كل هذا، كان “الثعبان ذو الريش” يملك كنوز الدنيا: الذهب والفضّة وتلك الأحجار الكريمة الخضراء “شالشيهويتس”، وأشياء أخرى نفيسة، وغابات من أشجار الكاكاو ضخمة متعددة الألوان، وهي تسمى عندهم “إكزوشيكاكاوتل”. وكان سدنته أثرياء جدا لم يعوزهم شيء أبدا، ولا هم عرفوا الجوع يوما أو عرفوا نقصا في الذرة الصفراء. وما كانوا يأكلون سبلات الذرة الصفراء التي تكون صغيرة الحجم بل كانوا يتخذون منها حطبا به يدفئون حمّاماتهم. ويقال إنهم كانوا يكفّرون عن ذنوبهم بوخز أجسادهم بأشواك الأغاف حتى تلطّخ بالدم من شدة الوخز، ثم يغتسلون عند منتصف الليل بمياه نبع جار اسمه “اكسيباكويا” وهو ما تفسيره (مغسل الفيروز). وهذا طقس درج عليه الكهنة سدنة الأوثان المكسيكية وهم في ذلك إنما يتبعون السنّة التي كان “الثعبان ذو الريش” قد سنّها في دولة “تولا”.ا

في الإخبار عما آل إليه حظّ الثعبان ذي الريش من تعاسة، وكيف تصدّى له ثلاثة سحرة آخرون وما كان من أمرهم معه

جاء الوقت الذي دالت  فيه دولة “الثعبان ذي الريش” وأتباعه من قبائل التولتيك. فلقد ثار عليهم ثلاثة (آلهة) سحرة يدعون “الضريس اليسراوي” و”سيّدنا جميعا” و”تلاكوبان” وهو ما تفسيره الرجل الخشبي (وهذا اسم آخر من أسماء “هويتزيلوبوشتلي” وقناع من أقنعته). جميعهم أمعنوا في نسج المكائد في دولة “تولا”. بدأ المدعو “سيدنا جميعا” بالمكيدة التالية:ا

اتخذ له هيئة شيخ أشيب مقوّس الظهر ثم تقدّم وجاء حتى وصل بيت “الثعبان ذي الريش” وكلّم الغلمان هكذا: “أريد أن أرى الملك “الثعبان ذا الريش” وأتحدّث إليه.” فقالوا جميعا: “اذهب في حال سبيلك أيها الشيخ! أنّى لعاجز مثلك أن يراه ويمثل في حضرته، فمنظرك لن يكون بالنسبة إليه إلا مصدر قلق واشمئزاز.” عندها قال الشيخ: “لا بدّ لي من رؤيته.” فقال له الغلمان: “سنخبره بالأمر وننظر ما يكون.” وهكذا مضوا وأعلموا “الثعبان ذا الريش” قائلين: “يا سيد، يا سيد بالباب شيخ يريد أن يراك ويتحدث إليك، لقد جررناه إلى الخارج كي يذهب في حال سبيله لكنه ألحّ في السؤال قائلا أن لا بدّ له من ملاقاتك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “ليدخل الآن لأنني كنت أنتظر مقدمه منذ زمان طويل.” وهكذا جاء الشيخ ودخل وقال مخاطبا “الثعبان ذا لريش”: “يا سيد، يا سيدي كيف حالك؟” فقال “الثعبان ذو الريش”: “إن حالي سيئة كيفما قلّبتها، كل أعضاء جسدي تؤلمني ولم يعد بإمكاني أن أحرّك يديّ ورجليّ.”ا

فما كان من الشيخ إلا أن خاطب “الثعبان ذا الريش” قائلا: “سيدي، أيها السيد، ها قد جلبت لك الدواء. إنه دواء فعّال ومنقذ. من يتناوله يسكر وينتعش. فتناول منه إن أردت، سينعشك ويشفيك ويهدّئ من روعك ويجعلك تتحمل محنك وأتعابك وتقبل بموتك أو برحيلك.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها  الشيخ! أين تريدني أن أذهب؟” فقال الشيخ: “إنه لضروري جدا أن تذهب إلى “تولانتلابالان” وهو ما تفسيره (تولا الحمراء)، هناك حيث ينتظرك شيخ آخر سيكلّمك بأمور ويحدّثك عن أمور. وبعدها سيعود إليك شبابك بل إنك ستصبح مثل طفل موفور العافية.” وعندما سمع “الثعبان ذو الريش” ذلك الكلام طفح قلبه بشجن لا يطفأ. فما كان من أمر الشيخ إلا أن استأنف الكلام قائلا: “يا سيد، أرجوك اشرب هذا الدواء.” فقال “الثعبان ذو الريش”: “أيها الشيخ إني لا أريد أن أشرب.” فقال الشيخ: ” يا سيد، اشرب، لتندمنّ إن لم تفعل. خذه على الأقل، وضعه قدّامك، وتناول منه جرعة واحدة.”ا

تناول “الثعبان ذو الريش” الدواء وتذوّقه ثم شرب منه ما تيسّر له أن يشرب وهو يقول: “ما هذا؟ يبدو أنه جيّد ولذيذ، لقد شفاني وخلّصني من المرض. إني لأشعر بأنني موفور الصحة والعافية.” فقال له الشيخ: “تناول منه أكثر مما تناولت لأنه دواء عزيز نفيس وستتحسّن صحتك أكثر فأكثر.” استزاد “الثعبان ذو الريش” من الدواء وشرب منه ما أسكره. وسرعان ما انخرط في بكاء حارّ حزين، ورقّ قلبه وطفح بالأشجان، واستبدت به الرغبة في الرحيل وسكنت منه بين الحشايا والضلوع، فلم يعد قادرا على التفكير إلا في الرحيل. وهذا فخّ نصبه له الساحر الشيخ. ذلك أن الدواء الذي شربه “الثعبان ذو الريش” لم يكن سوى الخمرة البيضاء التي تجود بها تلك الأرض وقد تم استخراجها من الأغاف المسمّى “تيومتل”.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى حبكها هذا الساحر المسمى “سيدنا جميعا

مكيدة أخرى دبّرها “سيدنا جميعا” لـ”الثعبان ذي الريش”، فتجسّد في شكل واحد من هؤلاء الهنود الحمر الغرباء الذين يدعون “توئيّو” وهو ما تفسيره (الهندي المتوحّش). ثم جلس في ساحة السوق التي تقع قبالة القصر وشرع في بيع الفلفل الأخضر وهو عارٍ تماما مثلما هو شأن الهنود المتوحشين من أبناء ذلك الزمان. كان الهيوماك ملكا سيدا يملك على التولتيك، وكانت له ابنة في غاية الجمال في الوقت الذي كان فيه “الثعبان ذو الريش” بمثابة راهب لم يتخذ له صاحبة أبدا ولم ينجب ذرية. جميع الرجال التولتيك طمعوا في الزواج من تلك البنت لأنها حسناء جدا. وكان الهيوماك الملك يمنعها عنهم ويردّهم خاسئين.ا

وكان أن أطلّت ابنة السيد الهيوماك من شرفة القصر على السوق فوقع بصرها على الهندي المتوحش وهو عارٍ تماما ورأت رجولته صارخة. فأنّت له أحشاؤها من شدة الشهوة. وبعد أن رأته على تلك الحال دخلت إلى القصر وازدادت حرقة ووجدا إلى درجة أنها اعتلّت ومرضت وتورّم جسدها. ولما علم السيد الهيوماك بمرضها سأل وصيفاتها قائلا: “ترى ما الذي أصابها؟ وما هو هذا المرض الذي جعل كل جسدها يتورّم هكذا؟” فقالت الوصيفات: “يا سيدي، إن السبب في هذه العلة هو ذلك الهندي المتوحّش الذي يسير عاريا. لقد لمحته ابنتك وملأت بصرها برجولته الصارخة. إن ابنتك الآن مريضة حبّا.” وعند سماع قولهن أصدر السيد الهيوماك أمره قائلا: “آه! يا معشر التولتيك! فتّشوا لي عن هذا المتوحش الذي يبيع الفلفل الأخضر في هذه التخوم كلها. لا مناص من مجيئه في الحال.” فما كان منهم إلا أن فتشوا عنه في كل مكان دون جدوى. وحين يئسوا من ظهوره صعد مناد إلى قمّة جبل “تلّة المناداة” وصرخ بأعلى صوته قائلا: “يا معشر التولتيك، إن عثر أحد منكم على هندي متوحش يبيع الفلفل الأخضر في هذه النواحي فليأت به كي يمثل في حضرة السيد الهيوماك.” فتشوا عنه في الأماكن كلها والتخوم جميعها ولم يعثروا له على أثر. فجاؤوا السيد الهيوماك وأخبروه بأنه قد اختفى حتى لكأن الأرض قد ابتلعته.ا

ثم كان أن ظهر المتوحش جالسا في السوق حيث كان قد باع الفلفل الأخضر. وحال رؤيته مضى الهنود التولتيك راكضين إلى السيد الهيوماك وأخبروه بالأمر. فقال لهم: “هاتوه في لمح البصر.” فنادوا عليه وأخذوه إلى السيد الهيوماك الذي بادره بالسؤال قائلا: “من أين جئت؟” فقال: “ياسيدي، أنا رجل غريب الدار آتي إلى دياركم لأبيع الفلفل الأخضر.” فسأله السيد قائلا: “أية أرض انشقّت عنك؟ لماذا لا تلبس تنورة ولا ترتدي رداء؟” فأجابه قائلا: “يا سيدي، هكذا هي التقاليد والأعراف عندنا.” فقال السيد للهندي المتوحش: “هل ترغب في ابنتي؟ عليك أن تشفيها من علّتها.” ردّ الهندي قائلا: ” يا سيدي، إن ما تدعوني إليه هو المحال عينه بالنسبة إليّ. فاقتلني إن أردت لأن الموت أحبّ إليّ ممّا ترغّبني فيه. لست أهلا لذلك ولا أنا مستحق هذا الفضل. ما حللت بدياركم إلا لبيع الفلفل الأخضر حتى أكسب قوت يومي.” قال السيد: “لا بدّ لك من مداواة ابنتي، فهدئ من روعك ولا تجزع.” ثم كان أنهم أخذوه ليحمّموه ويحلقوا شعره. ثم زيّنوا جسده كلّه بالطلاء وألبسوه تنورة ومعطفا. وبعد ذلك قال له السيد: “امض الآن وادخل على ابنتي في مخدعها.” ففعل. ودخل على البنت وعرفها. وللتوّ تعافت وردّ إليها جمالها. وهكذا صار الهندي المتوحش صهرا للسيد الهيوماك.ا

خبر نقمة أهل تولا على هذا الزواج. يليه خبر عن مكيدة أخرى نصبها “سيدنا جميعا

ما إن تمّ الزواج ودخل الهندي المتوحش على عروسه ابنة السيد الهيوماك حتى تفاقمت نقمة التولتيك، ووصل بهم الأمر إلى حد القدح في عرض السيد الهيوماك وشتمه سرّا وعلانية فيما هم يسائلون بعضهم البعض: لماذا زوّج ابنته لهذا المتوحّش؟ وحين بلغ أمر التولتيك وما يأتونه من قدح وشتائم إلى مسمع السيد الهيوماك دعاهم جميعا وفتح فاه وكلمهم قائلا: “تعالوا، لقد بلغني أمركم وسمعت ما تكيلونه لي من شتائم بسبب صهري المتوحش، وها أنذا أطلب منكم أن تمكروا به وتأخذوه لمحاربة مدينة “زاكاتيباك” وهو ما تفسيره (مدينة تلّة العكرش) ومدينة تلّة الحيّات كي يلقى حتفه على أيدي أعدائنا.ا

وعند سماع هذه الأقوال تقدم التولتيك وجاؤوا كلّهم فتجمهروا وتنادوا للحرب وساروا. ومعهم سار العديد من الجنود، وسار الهندي المتوحش صهر السيد الهيوماك. وعندما وصلوا إلى مكان المعركة طمروه في حفرة وأحثوا عليه التراب مع غلمانهم العرج الأقزام. وتلك لعمري حيلة من حيلهم الحربية! ثم تقدموا لمنازلة جيش أعدائهم الذين قدموا من مدينة تلة الحيات. في ذلك الوقت كان الهندي المتوحّش يهدّئ من روع الغلمان العرج الأقزام قائلا: “لا خوف عليكم ولا أنتم تجزعون، تشجّعوا، فعلينا أن نقتل أعداءنا على بكرة أبيهم.” لكن أهل تلّة الحيات انتصروا، وشرعوا في مطاردة التولتيك الذين كانوا يولون الأدبار طلبا للنجاة مخلّفين وراءهم المتوحش والغلمان في الحفرة والتراب يغطّيهم. كانوا يفرّون وهم يمنون النفس بكل دهاء وبكل مكر أن يفتك الأعداء بالصهر المتوحش ومن معه من الغلمان فتكة بكرا.ا

وكان أنهم وصلوا إلى ديارهم وجاؤوا السيد الهيوماك ليعلموه بالأمر قائلين: “سيدنا، لقد تركنا صهرك المتوحش وحيدا وليس معه من رفيق في مواجهة الأعداء غير الغلمان العرج الأقزام.” وحين علم السيد الهيوماك أن التولتيك قد غدروا بصهره فرح فرحا عظيما جدا معتقدا أنه أهلك ذلك الصهر الأجنبي المتوحش الذي ألحق به العار والخزي. لكن المتوحش المغطى بالتراب، من مخبئه ظل يراقب الأعداء ويحدّث الغلمان قائلا: “لا تخافوا ولا تجزعوا، ها أن الأعداء يصلون إلينا وأنا أعرف أنه عليّ أن أقتلهم على بكرة أبيهم.” ثم كان أنه نهض للطعان والضراب واندفع ينازل الأعداء الذين قدموا من “تلة الحيات” وأولئك الذين أقبلوا من “تلة العكرش”. فكان يطاردهم ويصرع منهم أعدادا لا تحصى حتى هزمهم جميعا.ا

وحين بلغ خبره إلى مسمع السيد الهيوماك ارتعب جدا. لقد هاله الأمر وأدخل عليه قلقا عظيما. فدعا التولتيك وكلمهم هكذا: “لنذهب جميعا لاستقبال صهرنا.” وكان ما سوف يكون. لقد هبّوا جميعا لاستقباله يتقدمهم السيد الهيوماك. حملوا معهم الأسلحة والشعارات المسمّاة عندهم “كتزالابانيكايوتل” وهو ما تفسيره (عارضة ريش الكتزال) والدروع المسماة “أكسيوهشيمالي” الذي تفسيره (مجنّ الفيروز) وقدموها كلها للمدعو المتوحش، واستقبلوه ومعهم غلمانهم وهم يرقصون ويغنون والمزمّرون ينفخون في شباباتهم إيذانا بالنصر والفرحة والحبور.ا

وحين بلغ الموكب السيد الهيوماك قام التولتيك بوضع تاج من الريش على رأس المتوّحش وطلوا جسده بطلاء أصفر اللون ووجهه بطلاء أحمر ووضعوا على رؤوس الغلمان رفاقه أكاليل أيضا ودهنوا أجسادهم ووجوههم. وتلك عادة درجوا عليها في تكريم كل الذين يعودون من ساحات الوغى مظفّرين. بعد ذلك قال السيد الهيوماك لصهره: “الآن وقد امتلأ قلبي بهجة بسبب ما أتيته من أمجاد، وبالبهجة ذاتها امتلأت قلوب التولتيك أجمعين، حقّ لك أن تخلد إلى الراحة، فلقد تصرّفت في مواجهة الأعداء تصرفا محمودا.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه مكّنته من جعل بعض سكان تولا يرقصون حتى الموت

مكيدة أخرى نسجها ذاك الساحر المسمى “سيدنا جميعا”. فبعد أن صرع جميع أعدائه وهزمهم ونال على ذلك رداء قُدّ من ريش ببّغاء أصفر طلب من جميع التولتيك أن يرقصوا وأمر مناديا أن يصعد إلى قمة “تلّة المناداة” وينادي كل الهنود الأجانب حتى يقبلوا ويرقصوا معهم في ذلك الحفل. وكان أن جاء إلى “تولا” عدد لا يحصى من الهنود. أما ما كان من أمر المسمّى “سيدنا جميعا” فإنه قصد بهم، فتيات وفتيانا، مكانا يسمّى “تكسكالابان” وهو ما تفسيره (ماء الصخور). وهناك رفع عقيرته بالغناء فيما هو يرقص ويقرع الطبل. فأخذ الناس أجمعين يرقصون مغتبطين اغتباطا عظيما وهم يردّدون المقاطع التي كان الساحر يترنّم بها وما كانوا قد سمعوها من قبل أبدا.ا

هكذا ظلوا، شطح ورقص وغناء، من غروب الشمس حتى منتصف الليل المسمى عندهم “تلاتلابيتزاليزبان” وهو ما تفسيره (ساعة النفخ في الشبابات). ولما كان عدد الراقصين عظيما جدا فإنهم كانوا يتدافعون ويرتطم البعض منهم بالبعض الآخر. وكثيرون منهم كانوا يسقطون في جرف الوادي المسمى “تكسكاللوهكو”، ويتحولون إلى حجارة. لقد كان على ذلك النهر جسر قُـدّ من الحجارة عمد هذا الساحر إلى تكسيره. وكلّ الذين صعدوا ذلك الجسر سقطوا وهووا في النهر وتحولوا إلى أحجار. وما كان التولتيك يتفطنون إلى أنها صنائع الساحر وفعاله لأنهم كانوا سكارى كما لو أن الخمر قد ذهبت بعقولهم. فكانوا كلما عادوا إلى الرقص يتدافعون فيسقط آخرون في النهر الجاري.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أهلك بها أناسا آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل أحابيلها ذلك الساحر: جلس يوما في قلب “تيانكيز” وهو ما تفسيره (ساحة السوق) وزعم أنه يدعى “الرجل الخشبي” ويسمى أيضا “كيوكسكوش”. وعلى راحتيه كان يقوم بترقيص رجل صغير في حجم عقلة الاصبع يزعم الناس أنه “الضريس اليسراوي”. وحين لمحه القوم من التولتيك نهضوا جميعا وصاروا ينظرون إليه مخطوفي العقول ويتدافعون بكل عنف، كلّ يريد رؤيته إلى درجة أن كثيرين منهم صرعوا ولقوا حتفهم مختنقين في الزحام مرفوسين بالأرجل رفسا. وهذا كثيرا ما كان يحدث لهم. فكثيرون منهم قد لقوا حتفهم من شدة الزحام. عندئذ قال الساحر المدعو “الثعبان ذو الريش” مخاطبا أتباعه: “يا معشر التولتيك! أي معشر التولتيك! ما الذي دهاكم؟ كيف لا تتفطنون إلى أنها مكيدة؟ كيف لا تدركون أن تعويذة السحر هي التي ترقّص هذا الرجل الصغير. هيّا اقتلوهما معا رميا بالحجارة، ارجوموهما.” وهكذا رجم التولتيك الساحر “الرجل الخشبي” وصاحبه الرجل الصغير الذي هو في حجم عقلة الاصبع، وقتلوهما رجما بالحجارة.ا

ثم كان أن جثة الساحر القتيل شرعت في التفسّخ. ومنها انبعثت الرائحة الكريهة حمّالة الوباء. كانت الرائحة النتنة تفسد الهواء وتنتقل مع الرياح مهلكة أعدادا هائلة حيثما حلّت. فنطق الساحر المسمّى “الثعبان ذو الريش” و كلّم أتباعه هكذا: “نحّوا عني هذه الجثة واحملوها بعيدا. إن رائحتها قد أهلكت من التولتيك خلقا كثيرا.” فقاموا بربط الجثة بالحبال وحاولوا أن يجرجروها. لكنها كانت أثقل مما يقدرون عليه، فلم يقدروا على تنحيتها أو إبعادها. كانوا يتوهمون أنهم سيخرجونها من “تولا” على عجل. أرسلوا مناديا ينادي القوم كلهم: “يا معشر التولتيك، يا معشر التولتيك، تعالوا كلكم وخذوا معكم حبالكم كي نربط الجثة ونلقيها خارجا.”ا

وكان أن التولتيك جميعهم تجمهروا حول الجثة وشدوا وثاقها بحبالهم وشرعوا في جرجرتها وهم يتنادون هائجين جدا: “أي معشر التولتيك! جرجروا هذه الجثة بحبالكم.” لكن وزن الجثة كان أكثر مما يقدرون على جرّه. تقطّعت الحبال وأدى انقطاعها إلى هلاك من كانوا يمسكون بها، إذ هوى البعض منهم على البعض الآخر. ولما عجزوا عن نقل هذه الجثة خاطبهم الساحر المسمى “الثعبان ذو الريش” قائلا: “يا قوم، يا معشر التولتيك، هذه الجثة تريد أن نغنّي لها مقطعا من أغنية.” وقام هو نفسه باختيار المقطع وقال لهم ترنّموا هكذا: “جرجروا، هيّا جرجروا، جثة الساحر “الرجل الخشبي” جرجروا، جثة القتيل جرجروا…” وبعد لأي تمكنوا من جرّ الجثة يسيرا يسيرا حتى بلغوا بها الجبل. وكان أن الذين عادوا ولم يهلكوا من شدة الإعياء لم يفهموا ما الخطب الذي حلّ بهم. فلقد صاروا مسطولين حتى لكأنهم سكارى وما هم بسكارى.ا

في الإخبار عن مكيدة أخرى من مكائد الساحر نفسه أودت بحياة أناس آخرين من “تولا

مكيدة أخرى فتل خيوطها الساحر نفسه. فلقد قيل إن الأغذية كلها فسدت وتعفّنت فجأة وما عاد أحد من الناس قادرا على أكلها. وساعتها طلعت على القوم عجوز هندية يقال إنها الساحر نفسه متنكّرا. جلست العجوز في حديقة “اكزوشيتلا” وشرعت تشوي ذرة صفراء، فعبق الجو برائحة الذرة الصفراء المشوية. وكان أن الرائحة انتشرت في كل القرى المجاورة. وعندما داعبت تلك الرائحة أنوف التولتيك مضوا راكضين. وفي أقل من لمح البصر وصلوا إلى الحديقة. فمما يشاع أن التولتيك كانوا قوما في سرعة الريح إن هم ركضوا. أما ما كان من أمر العجوز فإنها كانت تقتل كل من يصل إليها. فلم ينج منهم أحد.ا

في الإخبار عن مكائد أخرى حبكها الساحر نفسه

حبك الساحر ذاته مكيدة أخرى في قلب مدينة “تولا” إذ قيل إن القوم رأوا صقرا أبيض مخرّقا بسهم ظل يمرق هناك في السماء في الأعالي على مرأى من الجميع. مروّعة كانت المكائد والأحابيل التي نسج خيوطها الساحر. وكثيرة هي النفوس التي أهلكها بواسطة تلك المكائد والحيل والأحابيل. لقد عمد هذا الساحر إلى جعل التولتيك يرون حين يرخي الليل سدوله جبل “تلة العكرش” يحترق وألسنة اللهب تصّاعد منه فيجزعون ويملأون الدنيا بالصراخ والزعيق والعويل، ويتملّكهم الوجل والهلع. ومن شدة الحيرة يسائل البعض منهم البعض الآخر قائلين: “أي معشر التولتيك! ها حظنا يكبو بنا، ها أننا نهلك، وها فننا يتلف، وما أبدعناه يتلاشى. يا لرزيتنا! فالنفير! النفير! يا لتعاستنا! يا لضيعتنا! بمن نلوذ؟ بمن نحتمي؟ أين سنولّي وجوهنا؟ يا لفظاعة شقوتنا! فلنحاول أن يسند بعضنا بعضا ونتجلّد.”ا

وفوق هذا كله حاك لهم هذا الساحر أحبولة أخرى. لقد جعل السماء تمطر على التولتيك حجارة من سجّيل. ثم أنزل عليهم جلمود صخر يسمى “تشكاتل” وهو ما تفسيره (صخرة القربان). وحدث أيضا أنه ابتلاهم بعجوز هندية جاءت تسير حتى وصلت إلى مكان يسمونه “شابولتيت كويتلابيلكو” وهو ما تفسيره (تلة الجراد أرض النهاية). ويسمى أيضا “هيتزمكو” الذي تفسيره (مكان السقطة). كانت العجوز تسعى بينهم وتبيع أعلاما صغيرة سوّيت من الورق وهي تنادي: “أعلام جميلة، من يبتغي أعلاما جميلة؟” وكان كل من يرغب في الموت يسارع بالقول: “ابتاعوا لي علما صغيرا، أريد علما صغيرا.” وعندما يشترونه له يعجّل باعتلاء صخرة القربان هناك حيث ينقض عليه الآخرون ويقتلونه. وما كان أحد منهم يتساءل: “ما الذي اعترانا؟” فلقد كانوا كمن أصابهم مسّ من الجنون خطف منهم العقول.ا

في الإخبار عن فرار “الثعبان ذي الريش” إلى مدائن تولا الحمراء وما أتاه من فعال في طريقه إليها

وقع التولتيك في فخاخ أخرى لأن الحظ قد تخلى عنهم. وكان أن المدعو “الثعبان ذا الريش” امتلأ قلبه بالأسى جرّاء تلك المكائد. لقد غلب على أمره فقبل بالرحيل إلى “تولا الحمراء”. وما كان منه قبل رحيله إلا أن أضرم النيران في منازله التي كان قد شيّدها من الفضة واللؤلؤ. وطمر ما يملك من نفائس في قاع الأرض وفي الجبال وجروف الوديان، وحوّل أشجار الكاكاو إلى أشجار أخرى تسمى مزكيت. وفوق ذلك كله، أمر العصافير ذات الريش النفيس تلك التي تسمى “الكتزال” وهي العصافير الزرقاء والعصافير الحمراء بأن تسبقه إلى هناك. فما كان منها إلا أن طارت ومضت حتى بلغت مدينة “ضفة بحر” التي تبعد أكثر من مائة ميل.ا

ثم كان أن “الثعبان ذا الريش” حمل عصا الترحال وشق طريقه مخلّفا وراءه مدينة “تولا”. وحثّ الخطى حتى وصل إلى مكان يقال له “كوهتليان” الذي تفسيره (طرف الغابة). وكان ثمة في ذلك المكان شجرة عظيمة عريضة جدا، وطويلة جدا. فاتكأ “الثعبان ذو الريش” على تلك الشجرة وطلب من غلمانه أن يعطوه مرآة. وللتوّ لبّوا طلبه. فما كان منه إلا أن نظر إلى وجهه في المرآة، وفتح فاه وحدّث نفسه قائلا: “إني الآن شيخ مسنّ هرم.” وللتوّ سمّي ذلك المكان “هيوهيوكوهتيتلان” الذي تفسيره (طرف الغابة الهرمة). ثم كان أنه التقط أحجارا ورمى بها الشجرة فمضت الأحجار وتوغلت في جذع الشجرة وفي أغصانها كلها. ومنذ الزمن ذاك والأحجار عالقة بالشجرة هكذا، من أسفل جذعها إلى ذروتها. وبإمكان المرء أن يرى تلكم الأحجار ملتحمة بالشجرة إلى يوم الناس هذا.ا

هكذا ظل “الثعبان ذو الريش” يضرب في الأرض يتقدمه المزمّرون من أتباعه وهم يزمّرون. ثم كان أنه توقف في مكان آخر ليأخذ له قسطا من الراحة. فجلس على صخرة عظيمة، ووضع راحتيه على سطحها، فتوغلتا في الصخرة وتركتا أثرهما حتى يوم الناس هذا. ولما كان “الثعبان ذو الريش” يتلفّت باتجاه “تولا” التي غادرها فإن قلبه امتلأ بشجن لا يطفأ، فانخرط في نوح أسود مرّ حزين. وكان أن الدمع المتحدر من عينيه مدرارا حفر الصخرة التي كان قد جلس عليها طلبا للراحة، وأحدث فيها ثقبا لا تحصى.ا

في الإخبار عن الآثار التي تركها على الصخر، وهي آثار راحتيه ومؤخرته في المكان الذي كان قد جلس فيه

وحدث أن “الثعبان ذا الريش” وضع يديه على الصخرة الكبيرة التي كان قد قعد فوقها فانحفرت آثار راحتيه عليها حتى لكأن تلك الصخرة كانت من طين. وانحفرت آثار مؤخرته في البقعة التي كان قد جلس فيها. وهذه الآثار بيّنة للعيان إلى يوم الناس هذا. لذلك سمي هذا المكان “تيماكبالكو” وهو ما تفسيره (آثار الراحتين). وكان أن “الثعبان ذا الريش” نهض وواصل طريقه حتى بلغ المكان المسمّى “تينامويان” وهو ما تفسيره (الممرّ). فمن هناك كان يمرّ نهر كبير واسع جدّا، عليه شيّد “الثعبان ذو الريش” جسرا قدّه من الصخر.ا

ثم أكمل طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كواهوابان” وهو المكان الذي سبقه إليه السحرة الآخرون كي يسدّوا عليه طريقه ويمنعوه من التقدم خطوة أخرى. وحين وصل إليهم بادروه بالسؤال قائلين: “إلى أين تمضي؟ ولماذا تهجر شعبك؟ من ستأتمن عليه من بعدك؟ من الذي سيكفّر عن الذنوب التي سيقترفها شعبك من بعدك؟” ففتح فاه وكلّمهم جازما: “إنكم لا تقدرون على منعي من الذهاب إلى حيث أمضي لأن هذا هو قدري.” فسألوه قائلين: “إلى أين ستذهب؟” فأجابهم قائلا: “إلى تولا الحمراء.” قالوا: “ولماذا تذهب إلى هناك؟” فأجابهم قائلا: “لقد دعتني الداعية، الشمس نفسها هي التي دعتني.” وساعتها قالوا له: “ليكن الحظ حليفك في رحلتك هذه. لكن، مكتوب أنه عليك أن تترك هنا كل فنون الصناعة والتقنية: فن تذويب الفضة وصهرها، وفن صقل الحجارة والخشب، فن الرسم، وفن تسوية الريش، وغيرها من الفنون.” وانصرف السحرة في حال سبيلهم. أما عن “الثعبان ذي الريش” فإنه شرع يرمي بكنوزه في نبع جار كان يسمى “كوزكابان” الذي تفسيره (نبع القلادات). وهو يحمل الآن اسم “كوابان” وهو ما تفسيره (نبع الثعبان).ا

واصل “الثعبان ذو الريش” طريقه حتى بلغ المكان المسمى “كوشتوكان” الذي تفسيره (سِـنة النوم). فطلع عليه ساحر آخر وجاء وقال له: “طريق السلامة، تناول هذه الخمرة التي حملتها لك معي.” فأجابه قائلا: “لا يمكن أن أشرب منها أو أذوق منها جرعة واحدة.” فقال له الساحر الذي اعترض سبيله: “ليس لك من الشرب بد، ولا حول لك، لا بدّ أن تذوق منها جرعة على الأقل لأنني منها أسقي كل ذي نفس حية وبها أسكرهم جميعا، هيّا، اشرب.” فما كان من “الثعبان ذي الريش” إلا أن تناول الخمرة وامتصها مستخدما قشة مجوّفة. فسكر واستسلم للنوم على قارعة الطريق وطبّق شخيره الآفاق. وعندما استيقظ جال ببصره هنا وهناك، وطفح قلبه بالشجن. فشرع يمزّق شعره تمزيقا. ولذلك سمي ذلك المكان “سِـنة النوم”.ا

 خبر غلمان “الثعبان ذي الريش” وكيف هلكوا من شدة البرد في الممرّ الفاصل بين جبل البركان وجبال نيفادا. يليه خبر عن فعاله وصنائعه الأخرى

وكان أن “الثعبان ذا الريش” واصل طريقه على الممر الواقع بين جبل البركان وجبال نيفادا، وهناك هلك جميع غلمانه الذين كانوا أقزاما مُحدَوْدَبي الظهور. فحزن عليهم الحزن كله. ورثاهم بأغنية. فكانت العبرات تخنقه والزفرات تحرق مهجته وهو يتطلّع ببصره إلى الجبل الآخر المغطى بالثلج واسمه “بويوتيكاتل” الذي تفسيره (السحب). وهو جبل يقع على مقربة من “تيكاماشالكو” وتفسيره (الفم الذي قُـدّ من حجر).ا

هكذا مرّ بالأماكن المذكورة كلها وبالقرى وترك آثارا على الأرض وفي الطريق حسب ما قيل. ويقال أيضا أنه قد استبدّ به الفرح فصار يلعب ويمرح فوق جبل عال وأنه جلس على القمة وانحنى حتى لامس السهل. ثم هبط من الجبل. وهذا حدث مرات عديدة. ويقال إنه عمد، في مكان آخر، إلى ابتكار كبّة جوّفها وسوّاها من حجارة مربّعة الشكل في داخلها يمكن للناس أن يلعبوا لعبة “التلاشتلي”. وفي وسطها فتح ثلما أو علامة تسمى “تليكوتل”، فانفتحت الأرض في ذلك الموضع وصار جرف هائل. وعمد، في مكان آخر، إلى تصويب سهم نحو شجرة ضخمة تسمى “بوشوتل”. والسهم نفسه كان شجرة “بوشوتل” اخترقت الأخرى فاتخذتا شكل صليب.ا

ويقال أيضا إنه شيّد منازل تحت الأرض تسمى “ميكتلانكالكو” وهو ما تفسيره (بيوت الموتى). ويقال إنه نقل صخرة ضخمة جدا، وجاء فوضعها على نحو يسهل للمرء معه أن يحركها بخنصره. أما إذا اجتمع رجال عديدون ورغبوا في تحريكها فإنهم لا يتمكنون حتى من زحزحتها.ا

***

عديدة هي الأمور التي أتاها “الثعبان ذو الريش” في العديد من القرى. وكثيرة هي فعاله وصنائعه التي تستحق أن تذكر وتشهر. لقد سمى الجبال كلها، والهضاب والأماكن والبقاع دعاها بأسمائها. وعندما وصل إلى شاطئ البحر صنع لنفسه طوف ثعبان يسمى “كواتلابيشتلي” وهو ما تفسيره (لبوس الثعبان). وجلس فيه مثلما يجلس المرء في قارب. وواصل سفره في البحر الطامي. ولا أحد يعرف كيف أو بأية طريقة وصل إلى “تولا الحمراء”.ا