حين وصل المشير أحمد باي حاكم تونس بمعية وزير قلمه أحمد ابن أبي الضياف سنة 1846 إلى باريس كان الصراع بين فرنسا وإيطاليا على أشدّه للانقضاض على تركة الامبراطورية العثمانية التي لُقّبت وقتها بالرجل المريض ونعتت بالعملاق ذي الرجلين من طين. وفي حين اعتمد حكام إيطاليا استراتيجية زرع بعض البؤر الاستيطانية بإرسال العديد من العائلات الصقلية الفقيرة لتقيم بالشمال التونسي، عمد الفرنسيون إلى توطيد علاقاتهم مع باي تونس واستدراجه إلى الاقتراض من الخزينة الفرنسية لإغراق البلاد بديون تكون مقدّمة لاحتلالها. هاهنا بالضبط تتنزّل زيارة الباي إلى باريس. لقد كانت الغاية منها سدّ السبل في وجه الإيطاليين وإقناع الباي بأن باريس قوة عظمى لا تقهر.ر
وفي حين عاد الباي من باريس منبهرا مدركا أن الخطر الفرنسي آت لا ريب فيه، عمد ابن أبي الضياف إلى تدوين وقائع هذه الزيارة وما شاهداه فيها من عجائب باريس وناسها ومسارحها وعمرانها ومتاحفها في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان.” لكنه لم يغفل عن تدوين مواقف الباي وردود أفعاله وإحساسه بالدونية وضياع المُلك والفخار والجاه. أورد ابن أبي الضياف هذه المحاورة الطريفة التي دارت بينه وبين الباي إذ هما يتفسحان في الشانزلزيه: “قال لي وقد غلبه الحنين إلى الأوطان: ما أشوقني للدخول من باب عليوة، (أحد أبواب المدينة العتيقة) أشتمّ رائحة الزيت من حانوت الفطايري، فقلت له مداعبا وأنا أتنفس هواء الحرية، وأرد من مائها، وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس، فقال لي: لا سامحك الله، لِمَ لا تحملني على حب الوطن لذاته، وعلى أي حالاته؟ فقلت له إن هذا الوطن يُنسِي الوطنَ والأهلَ كما قال الشاعر:ر
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يُعاب بنسيان الأحبّة والأهل
الراجح أن ابن أبي الضياف الذي تشرّب أفكار ابن خلدون وتسليمه بأن العدل أساس العمران كان على وعي تام بأن استبداد الحاكم وجوره وانتهاكه للكرامة البشرية إنما يتأتّى في جانب كبير منه، لا من خوف الرعيّة من الحاكم الجائر فحسب، بل من احترامها له وإعلائها لشأنه. لاسيّما أن الخوف والاحترام انفعالان كثيراً ما يتداخلان ويفضي أحدهما إلى الآخر. ومن تداخلهما وامتزاج أحدهما بالآخر في نفوس الناس، يستمدّ المستبدّ-كلّ مستبدّ- سطوته وسلطانه. وإنه لأمر طبيعي أن يحنّ الباي إلى وطنه وموطن سلطته ونفوذه، في حين يختار ابن أبي الضياف الحرية وطناً حتى أنه كاد ينسى وطنه الأمّ. لكأن ابن أبي الضياف، وهو وزير وصاحب نفوذ في بلاده، فضّل الحرية على النفوذ، والعدلَ على الجاه والمنصب. أو لكأنه يشير صراحة إلى أن الحرية هي وطن الكائن ولا معنى للوطن أصلا دون حرية.ر
حين وصل المشير أحمد باي حاكم تونس بمعية وزير قلمه أحمد ابن أبي الضياف سنة 1846 إلى باريس كان الصراع بين فرنسا وإيطاليا على أشدّه للانقضاض على تركة الامبراطورية العثمانية التي لُقّبت وقتها بالرجل المريض ونعتت بالعملاق ذي الرجلين من طين. وفي حين اعتمد حكام إيطاليا استراتيجية زرع بعض البؤر الاستيطانية بإرسال العديد من العائلات الصقلية الفقيرة لتقيم بالشمال التونسي، عمد الفرنسيون إلى توطيد علاقاتهم مع باي تونس واستدراجه إلى الاقتراض من الخزينة الفرنسية لإغراق البلاد بديون تكون مقدّمة لاحتلالها. هاهنا بالضبط تتنزّل زيارة الباي إلى باريس. لقد كانت الغاية منها سدّ السبل في وجه الإيطاليين وإقناع الباي بأن باريس قوة عظمى لا تقهر.ر
وفي حين عاد الباي من باريس منبهرا مدركا أن الخطر الفرنسي آت لا ريب فيه، عمد ابن أبي الضياف إلى تدوين وقائع هذه الزيارة وما شاهداه فيها من عجائب باريس وناسها ومسارحها وعمرانها ومتاحفها في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان.” لكنه لم يغفل عن تدوين مواقف الباي وردود أفعاله وإحساسه بالدونية وضياع المُلك والفخار والجاه. أورد ابن أبي الضياف هذه المحاورة الطريفة التي دارت بينه وبين الباي إذ هما يتفسحان في الشانزلزيه: “قال لي وقد غلبه الحنين إلى الأوطان: ما أشوقني للدخول من باب عليوة، (أحد أبواب المدينة العتيقة) أشتمّ رائحة الزيت من حانوت الفطايري، فقلت له مداعبا وأنا أتنفس هواء الحرية، وأرد من مائها، وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس، فقال لي: لا سامحك الله، لِمَ لا تحملني على حب الوطن لذاته، وعلى أي حالاته؟ فقلت له إن هذا الوطن يُنسِي الوطنَ والأهلَ كما قال الشاعر:ر
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يُعاب بنسيان الأحبّة والأهل
الراجح أن ابن أبي الضياف الذي تشرّب أفكار ابن خلدون وتسليمه بأن العدل أساس العمران كان على وعي تام بأن استبداد الحاكم وجوره وانتهاكه للكرامة البشرية إنما يتأتّى في جانب كبير منه، لا من خوف الرعيّة من الحاكم الجائر فحسب، بل من احترامها له وإعلائها لشأنه. لاسيّما أن الخوف والاحترام انفعالان كثيراً ما يتداخلان ويفضي أحدهما إلى الآخر. ومن تداخلهما وامتزاج أحدهما بالآخر في نفوس الناس، يستمدّ المستبدّ-كلّ مستبدّ- سطوته وسلطانه. وإنه لأمر طبيعي أن يحنّ الباي إلى وطنه وموطن سلطته ونفوذه، في حين يختار ابن أبي الضياف الحرية وطناً حتى أنه كاد ينسى وطنه الأمّ. لكأن ابن أبي الضياف، وهو وزير وصاحب نفوذ في بلاده، فضّل الحرية على النفوذ، والعدلَ على الجاه والمنصب. أو لكأنه يشير صراحة إلى أن الحرية هي وطن الكائن ولا معنى للوطن أصلا دون حرية.ر
حين وصل المشير أحمد باي حاكم تونس بمعية وزير قلمه أحمد ابن أبي الضياف سنة 1846 إلى باريس كان الصراع بين فرنسا وإيطاليا على أشدّه للانقضاض على تركة الامبراطورية العثمانية التي لُقّبت وقتها بالرجل المريض ونعتت بالعملاق ذي الرجلين من طين. وفي حين اعتمد حكام إيطاليا استراتيجية زرع بعض البؤر الاستيطانية بإرسال العديد من العائلات الصقلية الفقيرة لتقيم بالشمال التونسي، عمد الفرنسيون إلى توطيد علاقاتهم مع باي تونس واستدراجه إلى الاقتراض من الخزينة الفرنسية لإغراق البلاد بديون تكون مقدّمة لاحتلالها. هاهنا بالضبط تتنزّل زيارة الباي إلى باريس. لقد كانت الغاية منها سدّ السبل في وجه الإيطاليين وإقناع الباي بأن باريس قوة عظمى لا تقهر. وفي حين عاد الباي من باريس منبهرا مدركا أن الخطر الفرنسي آت لا ريب فيه، عمد ابن أبي الضياف إلى تدوين وقائع هذه الزيارة وما شاهداه فيها من عجائب باريس وناسها ومسارحها وعمرانها ومتاحفها في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان.” لكنه لم يغفل عن تدوين مواقف الباي وردود أفعاله وإحساسه بالدونية وضياع المُلك والفخار والجاه. أورد ابن أبي الضياف هذه المحاورة الطريفة التي دارت بينه وبين الباي إذ هما يتفسحان في الشانزلزيه: “قال لي وقد غلبه الحنين إلى الأوطان: ما أشوقني للدخول من باب عليوة، (أحد أبواب المدينة العتيقة) أشتمّ رائحة الزيت من حانوت الفطايري، فقلت له مداعبا وأنا أتنفس هواء الحرية، وأرد من مائها، وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس، فقال لي: لا سامحك الله، لِمَ لا تحملني على حب الوطن لذاته، وعلى أي حالاته؟ فقلت له إن هذا الوطن يُنسِي الوطنَ والأهلَ كما قال الشاعر:ر
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يُعاب بنسيان الأحبّة والأهل
الراجح أن ابن أبي الضياف الذي تشرّب أفكار ابن خلدون وتسليمه بأن العدل أساس العمران كان على وعي تام بأن استبداد الحاكم وجوره وانتهاكه للكرامة البشرية إنما يتأتّى في جانب كبير منه، لا من خوف الرعيّة من الحاكم الجائر فحسب، بل من احترامها له وإعلائها لشأنه. لاسيّما أن الخوف والاحترام انفعالان كثيراً ما يتداخلان ويفضي أحدهما إلى الآخر. ومن تداخلهما وامتزاج أحدهما بالآخر في نفوس الناس، يستمدّ المستبدّ-كلّ مستبدّ- سطوته وسلطانه. وإنه لأمر طبيعي أن يحنّ الباي إلى وطنه وموطن سلطته ونفوذه، في حين يختار ابن أبي الضياف الحرية وطناً حتى أنه كاد ينسى وطنه الأمّ. لكأن ابن أبي الضياف، وهو وزير وصاحب نفوذ في بلاده، فضّل الحرية على النفوذ، والعدلَ على الجاه والمنصب. أو لكأنه يشير صراحة إلى أن الحرية هي وطن الكائن ولا معنى للوطن أصلا دون حرية.ر
حين وصل المشير أحمد باي حاكم تونس بمعية وزير قلمه أحمد ابن أبي الضياف سنة 1846 إلى باريس كان الصراع بين فرنسا وإيطاليا على أشدّه للانقضاض على تركة الامبراطورية العثمانية التي لُقّبت وقتها بالرجل المريض ونعتت بالعملاق ذي الرجلين من طين. وفي حين اعتمد حكام إيطاليا استراتيجية زرع بعض البؤر الاستيطانية بإرسال العديد من العائلات الصقلية الفقيرة لتقيم بالشمال التونسي، عمد الفرنسيون إلى توطيد علاقاتهم مع باي تونس واستدراجه إلى الاقتراض من الخزينة الفرنسية لإغراق البلاد بديون تكون مقدّمة لاحتلالها. هاهنا بالضبط تتنزّل زيارة الباي إلى باريس. لقد كانت الغاية منها سدّ السبل في وجه الإيطاليين وإقناع الباي بأن باريس قوة عظمى لا تقهر. وفي حين عاد الباي من باريس منبهرا مدركا أن الخطر الفرنسي آت لا ريب فيه، عمد ابن أبي الضياف إلى تدوين وقائع هذه الزيارة وما شاهداه فيها من عجائب باريس وناسها ومسارحها وعمرانها ومتاحفها في كتابه “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان.” لكنه لم يغفل عن تدوين مواقف الباي وردود أفعاله وإحساسه بالدونية وضياع المُلك والفخار والجاه. أورد ابن أبي الضياف هذه المحاورة الطريفة التي دارت بينه وبين الباي إذ هما يتفسحان في الشانزلزيه: “قال لي وقد غلبه الحنين إلى الأوطان: ما أشوقني للدخول من باب عليوة، (أحد أبواب المدينة العتيقة) أشتمّ رائحة الزيت من حانوت الفطايري، فقلت له مداعبا وأنا أتنفس هواء الحرية، وأرد من مائها، وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس، فقال لي: لا سامحك الله، لِمَ لا تحملني على حب الوطن لذاته، وعلى أي حالاته؟ فقلت له إن هذا الوطن يُنسِي الوطنَ والأهلَ كما قال الشاعر:ر
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يُعاب بنسيان الأحبّة والأهل
الراجح أن ابن أبي الضياف الذي تشرّب أفكار ابن خلدون وتسليمه بأن العدل أساس العمران كان على وعي تام بأن استبداد الحاكم وجوره وانتهاكه للكرامة البشرية إنما يتأتّى في جانب كبير منه، لا من خوف الرعيّة من الحاكم الجائر فحسب، بل من احترامها له وإعلائها لشأنه. لاسيّما أن الخوف والاحترام انفعالان كثيراً ما يتداخلان ويفضي أحدهما إلى الآخر. ومن تداخلهما وامتزاج أحدهما بالآخر في نفوس الناس، يستمدّ المستبدّ-كلّ مستبدّ- سطوته وسلطانه. وإنه لأمر طبيعي أن يحنّ الباي إلى وطنه وموطن سلطته ونفوذه، في حين يختار ابن أبي الضياف الحرية وطناً حتى أنه كاد ينسى وطنه الأمّ. لكأن ابن أبي الضياف، وهو وزير وصاحب نفوذ في بلاده، فضّل الحرية على النفوذ، والعدلَ على الجاه والمنصب. أو لكأنه يشير صراحة إلى أن الحرية هي وطن الكائن ولا معنى للوطن أصلا دون حرية.ر